قال الرئيس الأميركي للأتراك في العام 2004: “بلدكم نموذج للآخرين، والجسر الذي يصل أوروبا بالعالم الأوسع.. ونجاحكم حيوي لمستقبل التقدّم والسلام في أوروبا والشرق الأوسط الكبير”.
جاء كلامه بمناسبة انعقاد قمة للناتو في إسطنبول. ولا معنى لكلام كهذا خارج مشهده البصري. فقد اشتغل ثلاثون خبيراً أميركياً وتركياً في اختيار المكان الذي سيتكلّم منه الرئيس بوش أمام كاميرات التلفزيون. ولا نعرف عدد الخبراء الأميركيين الذين اشتغلوا على صياغة هذا الكلام، وكم من المسوّدات تداولتها الأيدي قبل الوصول إلى صيغة نهائية.
المهم، وقف بوش أمام الكاميرات، وفي خلفية المشهد ظهر جسر البوسفور، الذي يربط آسيا بأوروبا، وظهر، أيضاً، مسجد تركي بهي الطلعة. وكلاهما يمثل نصاً بصرياً أراد له الخبراء أن يتضافر مع، ويعزز، كلام الرئيس الأميركي، وتأملاته “الفلسفية” حول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وضرورة ألا يكون الأخير نادياً حصرياً لديانة أو ثقافة بعينها. قال بوش بما يشبه موعظة المُخلِّص على الجبل: “صدام الحضارات أسطورة عابرة في التاريخ.. المجتمعات الديمقراطية يجب أن تُرحّب لا أن تخشى مشاركة المؤمنين”. هللويا.
قبل توليف المشهد البصري واللفظي بعام كان بوش قد احتل العراق، ولم تكن تداعيات ما أنجب الاحتلال من كوارث قد ظهرت بعد. وقبل المشهد نفسه، بعام أيضاً، أصبح رجب طيّب أردوغان، عمدة إسطنبول السابق، والنجم الساطع في سماء حزب العدالة والتنمية، رئيساً للوزراء. وبدا للوهلة الأولى أن مشروع تفكيك وإعادة بناء الشرق الأوسط الكبير، على أسس “ديمقراطية”، قد عثر، أخيراً، في النموذج التركي على معادلته السحرية. فكما يربط جسر البوسفور بين قارتين، وعالمين، فإن الإسلام التركي، المُتصالح مع الحداثة، يمكن أن يكون حلقة وصل بين الإسلام والديمقراطية، وبالتالي مصدر إلهام لشعوب الشرق الأوسط، التي يمكن أن تتأثر به، وتتعلّم منه، وتعمل على محاكاته.
لذا، لم تكن مصادفة أن يصبح السباق على الانتخابات البرلمانية في بلدان مختلفة جزءاً من استراتيجية الإخوان المسلمين. ففي مصر، مثلاً، فازوا بعد مشهد بوش على جسر البوسفور، بعام واحد، بثمانية وثمانين مقعداً في مجلس الشعب. وبعد المشهد نفسه بعامين خاضت “حماس” انتخابات المجلس التشريعي، في ظل “سلطة أوسلو”، التي سعت إلى إفشالها في سنوات سبقت.
ولم تكن مصادفة، أيضاً، أن يصبح أحمد داود أوغلو مستشاراً لشؤون السياسة الخارجية، في حكومة أردوغان. فقبل موعظة بوش على جسر البوسفور بعقد من الزمن نشر المذكور كتباً في الفكر والاستراتيجية جمعت بين المعالجة الشاملة لحاضر ومستقبل العالم الإسلامي، ودور ومكانة تركيا فيه، بحكم مصالحها الاستراتيجية، وتجاربها التاريخية. وكان عليه لإضفاء قدر من المهابة الفكرية نقد التصوّرات الغربية للعالم، والتذكير بأشياء من نوع أن عالم ما بعد الحرب الباردة قيد التشكيل، وأن أزمة الغرب الأخلاقية والسياسية والمعرفية بنيوية، وأن الإسلام هو القادر على طرح بديل للحداثة الغربية.
وهذه، إذا شئت، هي البطانة النظرية لشعار “الإسلام هو الحل”. ولم تكن مصادفة أن تصدر كتابات أوغلو بالعربية، في طبعات أنيقة، وأن تحظى بانتشار واسع. كما حدث مع كتابات علي عزت بيغوفيتش، أوّل رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك، بعد الحرب الأهلية، الذي وافته المنية قبل وقفة بوش على جسر البوسفور بعام واحد.
وأود الإشارة، هنا، إلى مسألة شخصية تماماً قد تضفي أبعاداً جديدة على الموضوع. فقد ربطتني صداقة مديدة بالدكتور عبد الوهاب المسيري، وأزعم أنني أطللت عن كثب على تحوّلاته الفكرية، التي تجلت في سلوك مثقفين من الجيل نفسه كعادل حسين وآخرين. وقد تحوّل المسيري، في العقد الأخيرة من حياته، إلى “مُنظّر” لجماعة صغيرة (أو هي ادعت ذلك) انشقت عن “الإخوان” في أواسط التسعينيات، وحاولت إنشاء حزب “يعتمد مرجعية إسلامية” باسم “حزب الوسط“.
حكاية الحزب، الذي كشف عن وجهه بعيد وصول الإخوان إلى سدة الحكم في مصر، لا تعنينا. المهم أن المسيري يمكن وصفه، بقيل من المجازفة، بالمثقف القَلِق. وقد حاول إنشاء نوع من التوازن بين ما أسماه بالعلمانية الشاملة، والعلمانية الجزئية، لعل فيها ما يمكِّن عالم الإسلام والمسلمين من إنشاء جسر مع عالم الغرب وحداثته دون فقدان هويته الحضارية، وخصوصيته الثقافية، وتجربته التاريخية، ميراثه الروحي. لذا، لم يكن من قبيل المصادفة أن يكتب تقديماً لكتاب علي عزت بيغوفيتش “الإسلام بين الشرق والغرب” في طبعته العربية.
والأهم من هذا وذاك أن احتفاء “الجزيرة” القطرية، وشبكاتها الإعلامية الرقمية والإخوانية، بمرافعات داود أوغلو، وعلي عزت بيغوفيتش، وتعميمها، والمبالغة في عرضها، والتعليق عليها، لم يكن من قبيل المصادفة أيضاً. فعقد التسعينيات الذي ظهرت فيه، (بدأ بحرب الخليج الثانية، وطرد صدّام من الكويت، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وانتهاء الحرب الباردة)، كان المعمل السياسي والنظري الكبير لترجمة موازين القوى الجديدة في الشرق الأوسط، والتفكير الجدي بأهمية وإمكانية إعادة هيكلته من جديد. ولم يعد في إمكان شعار من نوع “الإسلام هو الحل” أن يشكو، بعد الآن، ندرة المرافعات الفكرية، والعمق الثقافي، والكفاءة السياسية، والدلالة الاستراتيجية.
وكلها كانت حاضرة في النموذج التركي، في ذلك اليوم البديع على جسر البوسفور. هذا لا يعني أن ما لا يحصى من صانعي المرافعات الفكرية، والعمق الثقافي، كالمسيري، مثلاً، أو أوغلو وبيغوفيتش، كانوا جزءاً من مؤامرة كونية، بل يعني أن وقفة بوش وموعظته على الجسر كانت من تجليات محاولة تقوم بها قوّة عظمى، على قمة العالم، لبناء سدود، وتحويل روافد، وتجميع مياه، في نهر جديد، ينبغي أن يمشي في طريق بعينها، وأن يصب الماء في طاحونة ما. وهذا ما كان.
khaderhas1@hotmail.com