إعلان المعركة من أجل سيادة القانون
إن بناء دولة القانون في ليبيا يتطلب اليوم إقراراً واضحاً بأن “المعركة الأولى” ليست عسكرية ولا اقتصاديةفحسب، بل هي معركة قانونية ومؤسسية تُخاض ضد عدوين متداخلين: جرائم السلطة العمومية والتمييزالمؤسسي. لقد أثبت الواقع أن هذين العدوين هما القوة الدافعة وراء انهيار الحوكمة وتآكل الحقوق.
يجب أن ينطلق أي مشروع وطني واعد من تفعيل الترسانة القانونية الليبية القائمة – المتمثلة في نصوص قانونالعقوبات والقانون رقم (10) لسنة 2013 – لـ تفكيك منظومة الفساد الممنهج التي تستند إلى التسييس والجهوية. فالأزمة ليست في غياب النص، بل في غياب الإرادة الحاسمة لتطبيقه، خاصة فيما يتعلق بـ تجريم التمييز فيالوظيفة العامة.
أولاً: تشخيص الداء: الفساد الممنهج ودلالات مؤشر الشفافية الدولية
يُعد الفساد الممنهج هو نقطة الانطلاق لتزايد جرائم السلطة، حيث يُحوّل المنصب العام من أداة لخدمة الصالحالعام إلى وسيلة للاغتناء غير المشروع.
1. المؤشرات كدليل على الفساد المؤسسي:
إن بيانات مؤشر مدركات الفساد الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية تقدم تشخيصاً قاطعاً لعمق الأزمة. إنالقفزة الكارثية في الترتيب (الاستقرار في خانة الـ 170 عالمياً) دليل على أن الفساد تحول إلى بنية مؤسسيةراسخة ومستقرة. هذا الاستقرار في قاع الترتيب يؤكد صحة الفرضية القائلة بأن الفساد في ليبيا أصبح منظماً وممنهجاً تحت غطاء المؤسسات الرسمية.
2. السلاح القانوني ضد الفساد المالي:
في ظل هذا التدهور الرهيب في النزاهة، تبرز نصوص قانون العقوبات الليبي (م 233 و م 232) كسلاح لتجريماستغلال الوظيفة للمصلحة الخاصة والتدليس ضد الإدارة العامة. إن إنفاذ هذه النصوص هو مفتاح معركةاستعادة الثقة في المؤسسات المالية التي تضررت سمعتها بسبب الجرائم الموثقة في المؤشر العالمي للفساد.
ثانياً: أدوات المعركة ضد التجاوز والتسييس الإداري
إن المعركة الحقيقية لسيادة القانون تُركز على تجريم استخدام السلطة لأغراض سياسية أو فئوية، وهو ما يُغذيالفوضى ويُرسّخ الانهيار المالي. النصوص القانونية الليبية لم تغفل هذا الجانب:
• تجريم عرقلة القضاء والإدارة (م 234 و م 235): تُجرّم هذه النصوص الموظف العمومي الذي يستغل سلطته لـ“إيقاف تنفيذ الأوامر الصادرة” أو “وقف تنفيذ الأحكام القضائية“. هذا هو السلاح القانوني الأساسي ضدالتسييس الإداري، حيث يهدف إنفاذه إلى ضمان حياد المؤسسات وعزلها عن التجاذبات السياسية.
ثالثاً: الجبهة الحاسمة: تفعيل المادة الرابعة ضد التمييز في الوظيفة العامة
تُعد الجبهة الأكثر حساسية في المعركة الأولى هي مكافحة التمييز، لأنه يضرب في صميم مفهوم المواطنةالمتساوية ويُعد سبباً رئيسياً لتدني مؤشرات الحوكمة والفساد. إن المادة (4) من القانون رقم (10) لسنة 2013 هي النص القانوني الذي يمثل الوعد السياسي الأقوى في هذا المجال:
▪︎ “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة كل موظف عمومي قام بالتمييز بين الليبيين على أساس جهوي أو قبلي أوعرقي في شأن أحقيتهم في التعيين أو الترقية في الوظائف العامة أو استحقاقهم للمنافع والخدمات…”
▪︎إن تفعيل هذه المادة هو مفتاح القضاء على الفساد الهيكلي، لأنه يضع حداً لمبدأ “توزيع المناصب” على أساسالولاء بدلاً من الكفاءة، وهو ما يُعد بيئة خصبة لتفاقم الفساد (المؤكد في CPI).
آليات مقترحة لتفعيل المادة (4) والانتصار في المعركة:
لتحويل هذا النص التشريعي من مجرد حبر على ورق إلى أداة فعالة للمحاسبة، يجب تبني الآليات التنفيذية التالية:
إنشاء دوائر نيابية وقضائية متخصصة:
° تأسيس وحدات تحقيق متخصصة في النيابة العامة للبت في جرائم التمييز الإداري وجرائم السلطة العمومية(القانون 10/2013).
° إلزام القضاء بـ إنشاء دوائر قضائية نوعية تنظر في هذه القضايا بشكل عاجل، مما يرسخ مفهوم أن التمييزجريمة تستحق إجراءات قضائية استثنائية.
تعزيز الشفافية والتدقيق الإداري (ربطاً بمؤشر الفساد):
° إلزام الجهات الإدارية بالنشر العلني لكافة المعايير المعتمدة للتعيين والترقية والدرجات المستحقة للمتقدمين.
° تفعيل دور الأجهزة الرقابية (مثل ديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية) بإجراء تدقيق إلزامي (Audit) للملفات الوظيفية الكبرى (تعيين المديرين أو الترقية إلى الدرجات العليا) للتحقق من خلوها من شبهة التمييزالجهوي أو القبلي، قبل وصولها إلى القضاء. هذا الإجراء الوقائي يُحسن من معايير الشفافية التي تُمثل العكسالمباشر لتدني مرتبة ليبيا في CPI.
حماية المبلغين والضحايا:
° توفير آليات آمنة وسرية للإبلاغ عن جرائم التمييز (whistleblowers protection) وضمان عدم تعرضالضحايا لأي إجراءات انتقامية. فبدون حماية المبلغ، يستحيل جمع الأدلة ضد موظف عمومي يمتلك سلطة.
تفعيل مسؤولية القادة (م 5):
° ربط تطبيق المادة (4) بالمادة (5) التي تُحمّل المسؤول السياسي أو الإداري مسؤولية جنائية عن تقصيره فيمنع أو كشف جرائم التمييز المرتكبة من قِبل مرؤوسيه. هذا يضمن أن مكافحة التمييز تبدأ من رأس الهرم الإداري.
التزام سياسي لبناء سيادة القانون والعدالة
إن نجاح “المعركة الأولى” يتوقف على تحويل التركيز من الصراع على السلطة إلى فرض سيادة القانون علىأصحاب هذه السلطة. لقد وضعت القوانين الليبية الأساس لتجريم الفساد (قانون العقوبات) وتجريم الانتهاكاتوالتمييز المؤسسي (قانون 10/2013).
إن الوعد السياسي الحقيقي يكمن في: الالتزام غير المشروط بتفعيل هذه الآليات التنفيذية والقضائية، ممايضمن أن يكون الانتماء إلى الوطن (المواطنة المتساوية) هو المعيار الوحيد للتعيين والمنفعة، لا الانتماء الجهوي أوالقبلي. هذا هو الطريق الوحيد للخروج من دائرة الانهيار الموثقة في مؤشرات الفساد، نحو بناء دولة العدالة.
