صديقنا الكاتب الكويتي الأستاذ خليل حيدر، الذي أقرأ له بإستمتاع ونهم، كتب مؤخرا مقالا في عدد من الصحف الخليجية تحت عنوان “لماذا إنهارت الشيوعية؟”. وكان الأجدر به أن يقول “لماذا إنهار الإتحاد السوفيتي؟” لأن الشيوعية ما كانت لتأفل لولا سقوط سدنتها في موسكو. ثم أن الشيوعية فكر مثله مثل الليبرالية وغيرها، وهي لئن أفلت شمسها الآن للظروف المعروفة، فإنها تبقى موجودة في الكتب وفي عقول ووجدان معتنقيها على الأقل، وقد يأتي يوم تنفض عن جسمها الغبار أو يأتي من عشاقها من يجددها ويشذبها ويطلقها في صورة أخرى أو تحت مسمى آخر.
ومأخذي الآخر على الصديق هو إعتماده حصريا في ما كتبه على آراء “بهاء الدين نوري” سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، رغم وجود المئات من المؤلفات التي ظهرت في أوائل التسعينات من القرن المنصرم وتناولت الموضوع بتوثيق وتحليل علمي من زوايا عدة. وأتذكر، حينما كنت باحثا في جامعة إكستر البريطانية، أن بعض هذه المؤلفات كانت مقررة على طلبة الدراسات العليا في الجامعات الغربية، وكان تدور حولها مناقشات ثرية.
وهذا المأخذ لا يعني البتة أن ما كتبه الصديق غير صحيح، فإنهيار الإتحاد السوفيتي وبالتالي أفول الشيوعية كان – كما ذكر – نتيجة تفاعل عوامل عدة مثل غياب الحريات وتكميم الأفواه، وتسليط أجهزة المخابرات على الناس، وترهل القيادات الحاكمة وتفشي الفساد في أوساطها، وتجذر البيروقراطية الخانقة في أوصال الدولة والحزب، وعدم قدرة الإقتصاد الإشتراكي على تلبية متطلبات الجماهير، ونزوع النظام إلى الإنفاق الضخم على الأنظمة البائسة الدائرة في فلكه، وقيامه بمغامرات خارجية، وإنفاقه السخي على التسلح.
على أن عاملا مهما جدا – من وجهة نظري – تم إغفاله، الأ وهو إنبعاث النزعة القومية لدى الشعوب التي كانت تنضوي تحت الإتحاد السوفيتي. فهذه الشعوب التي تم تهميشها ومحو خصوصياتها العرقية والثقافية والدينية وجدت في سياسات “البروسترويكا” و”الغلاسنوست” التي أطلقها “ميخائيل غورباشوف” مباشرة بعد وصوله إلى السلطة بيئة خصبة لتفعيل ما ظل كامنا في النفوس والعقول على مدى عشرات السنين.
ومما لا يخفى على أحد، بطبيعة الحال، أن الإتحاد السوفيتي كان يشتمل على عشرات القوميات (مثل السلافيين في روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء، والإسكندانافيين في ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا، والقوقازيين في أرمينيا وجورجيا وأذربيجان، والمولدافيين من ذوي العرق الروماني، وسكان آسيا الوسطى من التركمان والطاجيك والأوزبك والكازاخ والقرقيز، ناهيك عن الأقليات الأخرى كالألمان واليهود والبولنديين والهنغاريين والبلغار واليونانيين والتتار والشيشان والأنغوش). كل هذه القوميات جـُمعت في كيان واحد بالقهر الممنهج، بل بالغ قادة موسكو في تشتيتها وضرب ثقافاتها ولغاتها ومعتقداتها وتقاليدها، فارضين عليها بالقوة الإستسلام للثقافة الروسية. ومما لا يخفى أيضا أن هذه العملية مرت بحقب مختلفة لكل منها أسلوبها وطريقتها وفقا لما كان يراه الرجل الأول في موسكو.
ففي حقبة المؤسس “فلاديمير لينين” الذي كان معارضا لنشؤ التكتلات القومية داخل حزبه الشيوعي، كيلا تتشتت الجهود، وكي تتضافر كل الإمكانيات من أجل الهدف الأسمى (الإطاحة بالنظام القيصري)، تراجع الرجل عن فكرته بعدما فطن إلى أهمية العامل القومي في خلق التذمر ضد القياصرة. حينها فقط قرر إستخدام ورقة القوميات لتحشيد الناس خلف ثورته البلشفية، وذلك من خلال تقديم الوعود لتلك القوميات بالمحافظة على خصوصياتها داخل النظام الإشتراكي القادم، بل ومنح أبنائها حق حكم أنفسهم ذاتيا. وقد أقدم لينين بالفعل بعد نجاح ثورته على إنشاء دائرة للقوميات ضمن الحزب البلشفي في عام 1920، مسندا رئاستها إلى زميله الجورجي “جوزيف ستالين”، وقائلا: “فلنعط القوميات والأقليات حقوقها وخصوصياتها كي تكتشف بنفسها أن تلك الأمور تافهة ولا قيمة لها لجهة إزدهارهم، مقارنة بالكيان الأممي الجامع القوي”.
أما في حقبة ستالين، الذي أعلن صراحة أن الإتحاد السوفيتي يجب أن يكون قوميا شكلا وإشتراكيا في محتواه، فقد راحت موسكو تنفذ بالحديد والنار ما عـُرف ب “تطبيق الوحدة الإيديولوجية”على كل البلاد وشعوبها وقومياتها المتباينة، خصوصا وأن الكثيرين ممن كانوا في القيادة العليا للدولة والحزب كانوا يؤمنون بأن زمن القوميات قد ولى إلى الأبد وأن المستقبل هو للأممية. وعليه شهدت هذه الحقبة تطورات كثيرة أبرزها: تنامي ظاهرة الزواج المختلط بين القوميات، ونزوح مئات الآلاف من الأرياف إلى المدن الروسية الكبرى مع تخليهم شيئا فشيئا عن خصائصهم الثقافية والإجتماعية وتقاليدهم المتوارثة في الأزياء والطعام وأنماط المعيشة، وتهجير السلطات لذوي الأصول التتارية والشيشانية والأنغوشية واليهودية وغيرهم من مناطقهم الأصلية إلى أماكن بعيدة، عقابا لهم – كما قيل – على تعاونهم مع النازيين. وهكذا صار الروس في الحقبة الستالينية هم القوة المهيمنة، بل الأخ الأكبر الذي يجب على الآخرين الإقتداء به في كل شيء، وصار كل إنجاز يتحقق في البلاد ينسب إلى الروس وحدهم.
في الحقبة التالية التي تزعمها الأوكراني “نيكيتا خروتشوف” والتي بدأت في عام 1956 ، إنتقد الأخير سلفه للجرائم وحملات التطهير والقمع التي إرتكبها، رغم ما كان معروفا عنه من عدم التعاطف مع تظلمات القوميات المختلفة. لكنه، من جهة أخرى، قاد بنفسه حملة قاسية ضد المعتقدات الدينية، وذلك من منطلق أن الدين هو الذي يحرك القوميات ويجعلها تتجرأ على القيادة المركزية في موسكو مطالبة بكذا وكذا. وقد تجلت خطط خروتشوف في إصدار أوامر مشددة في عام 1958 بمحو كل ما كتب أو نشر بلغات قومية غير الروسية، وذلك ضمن مشروع أطلق عليه “خطة الإصلاح الثقافي”. وبالتزامن أطلق خطة أخرى إستهدفت تقسيم البلاد إلى مقاطعات على أساس إقتصادي وليس على أساس إثني أو ثقافي.
ولم تختلف حقبة “ليونيد بريجينيف” كثيرا عن سابقاتها، إلا أنها شهدت لأول مرة ولادة حركات قومية سرية تصدح ببعض المطالب الخجولة. فالقومية التتارية راحت تطالب موسكو بالسماح لإبنائها بالعودة إلى موطنهم الأصلي داخل الإتحاد السوفيتي. واليهود والألمان والأرمن زادوا من ضغوطهم وحراكهم كي تسمح لهم السلطات بالسفر إلى الخارج، واللتوانيون الكاثوليك راحوا يضغطون من أجل السماح لهم بممارسة حرياتهم الدينية. ورغم أن بريجينيف ظل متمسكا بمقولة “إن مشاكل القوميات تم حلها في إطار الدولة السوفيتية الواحدة”، فإنه إضطر تحت الضغوط الخارجية وبسبب رغبته في تحسين علاقاته مع واشنطون وبون، للسماح لعدد كبير من مواطنيه الألمان واليهود والأرمن بالهجرة إلى الخارج. وفي السبعينات لوحظ تغير خطاب نظام بريجينيف الإيديولوجي. إذ صار يركز على مبدأ المواطن السوفيتي، ويدعو إلى الأمة الواحدة المكونة من كيان إثني واحد، بدلا من الوحدة الإشتراكية الأممية الجامعة لشعوب من مختلف القوميات.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh