صنعاء- خاص بـ”الشفّاف”
لا يزال الرئيس عبد ربه منصور هادي يحتفظ بسلامة رأسه، مع قدر مثير للعجب وملحوظ من التوازن النفسي والعقلي، وقدر من الأداء المعقول في خضم أمواج اللامعقول التي تتلاطم في الأرجاء بأقصى ما تملك من طاقة الهباء، وهو يكاد يشعل، بعد يومين، الشمعة الثانية بمناسبة موعد جلوسه على كرسي الرئاسة وقدرته على اجتياز حقول الألغام وجداول الشوك واللهب وعصف الزوابع المتدافعة من كل صوب.
ولكم أن تقولوا إنه شيء لا يصدق؛ فالخروج من منطقة الإعتام والظل الى بؤرة الضوء ومركزها دفعة واحدة، ليس بالأمر السهل وفيه ما يشبه المعجزة في نظر معظم اليمنيين الذين كانوا ومازالوا يعقدون الأمل بتدخل (المنقذ) الخارق، المباغت القادر على تخليصهم من براثن الخراب. فهم لا يراهنون على المؤسسات ولا على “حاكمية” العقل البشري و”الحوكمة الرشيدة” وما إلى ذلك من الرطانات غير المفهومة بالنسبة لهم، بقدر ما تحكمهم ردود الأفعال والانفعالات التي تتحكم بمنظوراتهم القريبة والبعيدة، وذلك ليس بغريب في ظل ضعف وغياب المؤسسات، ومع هشاشة ورثاثة (النخبة) وطغيان مفعول
القراءات التبسيطية المبتذلة التي لا تعير التفاتا لعلم السياسة وتدبيراته. وذلك هو حال أي أسير لدائرة الأضواء الباهتة لفوانيس التخمين والتكهن وقراءة الكف والرجم بالغيب والنميمة والتجديف والتخريف.
من هنا كان سؤال اليوم وكل يوم: ترى ما الذي يدور في خلد الرئيس؟ وماذا سوف يصدر عنه؟ وكيف يتدبر أمور البلاد من “البدروم” الذي سلخ فيه معظم العام الفارط ومن غرفة النوم؟
ببساطة، يبدو أن استبدال الرئيس برئيس يشكل جل معنى وفحوى “الثورة” التي استظلت بشعار “الشعب يريد إسقاط النظام” وكأنما النظام هو الرئيس والرئيس هو النظام وذلك هو الملمح الأبرز لدولة العقد الأمني وليس “العقد الاجتماعي”، دولة العصابة التي تختزل بشخص الرئيس الذي لا يستطيع، هو الآخر، أن يقفز فوق ظله وليس بمقدوره أن يتخطى شرطه لأنه يفتات من نفس الزاد وينساب في ذات المجرى ويقوم بذات الدور حين يختزل الشعب إلى طائفة وقبيلة ثم عائلة و…..الخ.
على ذلك صار من الواضح أن الحمولة، بل والأثقال، كبيرة ومهولة وليس ثمة رافعة تلوح في أفق النظر في هذه “الأرض اليباب” الجرداء من أساطير التأسيس الحداثية ومن المؤسسات ومن تقاليد السياسة ومن مخيال جمعي مهيكل على أساس احترام حقوق الإنسان والتعايش والتبادل والتداول.
ليس ثمة شيء يلوح في جنبات هذه الأرض الضاجة بالانفجارات والدماء المسفوكة غير الرئيس الذي تتجاذبه وتتناهشه “قوى الطرد المركزي” في صنعاء، وفرقاء الاحتراب على أسلاب السلطة في صنعاء، ولا يستطيع حتى الاحتماء والالتياذ بمسقط رأسه أو بالمحافظة التي ينتمي إليها! فهي تقع خارج نطاق السيطرة ويتحكم بها جنرالات وأمراء الحرب و(الجهاد) والمقاتلون بالوكالة عن سادة الخراب في صنعاء.
وفي كل الأحوال لا يخلو المجال من فسحة أمل وهنالك العديد من الخطوات والإجراءات والقرارات التي صدرت عن الرئيس هادي خلال العام الماضي، وأنعشت الآمال بإمكانية اختراق الجدران السميكة للانسداد والخروج من نفق المحنة.
فعلى الرغم من أن الصيغة “التوافقية” اليمنية لا تخلو من عناصر الفرادة والغرابة بما في ذلك صيغة التوافق على “انتخاب” رئيس للجمهورية كخطوة فارقة في إطار عملية الانتقال السلس للسلطة في 21 فبراير العام الماضي، وعلى الرغم من قصر الفترة وحراجتها، إلا أن الرئيس هادي تمكن من إنجاز المهام الماثلة أمامه بأداء فاجأ الكثير من المراقبين.
فبعد انقضاء أسابيع قليلة وتحديدا في 7 مارس تمثل أداؤه القوي في مجموعة القرارات التي أصدرها وتضمنت ابعاد الاخوين غير الشقيقين للرئيس السابق علي صالح، اللواء محمد صالح الأحمر من قيادة القوات الجوية والدفاع الجوي واللواء علي صالح الأحمر من منصب مدير مكتب القائد العام للقوات المسلحة على التوالي، وبعدها قام بعزل النجل الثاني للرئيس السابق العقيد خالد علي عبدالله صالح من قيادة اللواء الثالث مشاة جبلي التابع للحرس الجمهوري.
في 21 مايو صدر قراره القاضي بعزل ابن شقيق علي صالح العميد عمار محمد عبدالله صالح من منصب وكيل جهاز الأمن القومي وأقال اللواء محمد عبدالله القوسي زوج ابنة شقيق صالح من قيادة قوات النجدة.
وفي 11سبتمبر أصدر مجموعة قرارات أخرى أزاح بموجبها عدد من رجالات صالح ومنهم اللواء علي الآنسي من رئاسة جهاز الأمن القومي ومنصب رئاسة الجمهورية والعميد مجاهد غشيم من منصب مدير الاستخبارات العسكرية والدكتور عبدالهادي الهمداني من منصب أمين عام رئاسة الجمهورية.
ومن أهم وأخطر القرارات الصادرة عن الرئيس هادي كان القرار الصادر في 19 ديسمبر 2012 وقضى بإعادة هيكلة الجيش ووزارة الدفاع ورئاسة الأركان، عبر تقسيم الجيش إلى قوات برية، بحرية، جوية وقوات حرس حدود، وقوات العمليات الخاصة. وفيما كانت مجموعة الصواريخ والعمليات الخاصة من اختصاص نجل الرئيس القائد السابق للحرس الجمهوري العميد أحمد علي صالح، فقد سُحبت وصارت تحت أمرة وزارة الدفاع والرئيس هادي.
في الأثناء صدر مرسوم رئاسي بإقالة العميد يحيى محمد صالح نجل شقيق الرئيس السابق من رئاسة أركان قوات الأمن المركزي، وهو كان القائد الفعلي لهذه القوات.
هكذا تم إقصاء وعزل أغلب أفراد عائلة الرئيس السابق وقوضت الأجهزة التي كانت تحت قبضته وأفراد أسرته، ولم يفعل الرئيس هادي ذلك على نحو عفوي وإنما بناءا على نصائح وتقارير مستشارين أمريكيين وأردنيين.
وتمثلت الضربة القوية لهادي في قراراته التي قضت بإلغاء الكيانين الأكبر لفريقي النزاع وهما الفرقة الأولى مدرع التي يتزعمها اللواء علي محسن الأحمر الذي انشق عن الرئيس السابق في 21 مارس 2011 وأعلن الانضمام الى ساحة الثورة وكان ذلك عندما بدأت سفينة (النظام) تجنح إلى الغرق، والحرس الجمهوري بقيادة نجل صالح العميد أحمد علي صالح.
وفيما يرى بعض المراقبين أن إلغاء هاتين القوتين الضاربتين والمتواجهتين، قد اقتصر حتى الآن على إلغاء المسميات من غير أن ينزع مقاليد القوة والتحكم والنفوذ من يدي اللواء علي محسن والعميد أحمد علي، فإن الكثير من الأوساط قد استقبلت هذه الخطوة بالكثير من الترحاب والتأييد وهي ترى أنها خطوة في الاتجاه الصحيح.
في السياق كانت الصعوبات والأخطار التي أحاقت بتوجهات الرئيس هادي كثيرة ولا تخطر على بال. فهو لم يتمتع بوضع آمن ومستقر كأي رئيس لجمهورية في هذا العالم، وفي معظم العام الماضي كان يدير البلاد على وقع الانفجارات ولعلعة الرصاص والقذائف والتراشق بالنيران في محيط وأجواء مقر إقامته ما اضطره إلى مزاولة عمله من طابق تحت الأرض، وكان واضحا انه هدفا للقنص والتصفية، وللابتزاز والضغوط والاكراهات الفاتكة من قبل مراكز القوى التي أحست بأن خيوط وحلقات السلطة بدأت تتسرب منها وإلى غير عودة.
على صعيد متصل تعرضت العديد من الرموز القيادية البارزة التي استند إليها واعتمد على دورها لعمليات الملاحقة والاغتيالات. وقد اغتيل خلال العام الماضي أكثر من 80 قائدا وضابطا عسكريا وأمنيا، وفي مقدمتهم اللواء الركن سالم علي قطن قائد المنطقة العسكرية الجنوبية الذي تعين بدلا من أحد أبرز القيادات الموالية للرئيس السابق اللواء مهدي مقولة.
بالمناسبة كان اللواء قطن وهو عسكري جنوبي مؤهل ومحترف تمكن من قيادة عملية “السيوف الذهبية” ضد تنظيم القاعدة و(أنصار الشريعة) بنجاح وأحرز الانتصار على تلك الجماعات المسلحة في 12 يونيو العام الماضي إلا أنه بعد مضي أيام قليلة كان هدفا للاغتيال في عملية أسفرت عن مصرعه وتفجير سيارته بجوار منزله في عدن.
ذلك هو ما كان عليه مصير القائد العسكري عمر بارشيد الذي اغتيل في حضرموت قبل أن يتسلم مهامه كقائد لقوات الحماية الرئاسية التابعة لهادي.
اللافت أن معظم القيادات العسكرية والأمنية التي استهدفت في العام الماضي كانت تنتمي إلى الجنوب، كما كانت المحافظات الجنوبية هي مسرح تلك الاغتيالات في اغلب الأحوال، وبشأن ذلك لا يخفي معظم المراقبين توجساتهم من توجه مدروس لجعل الرئيس هادي مكشوف الظهر ورهينة لضغوط وابتزاز مراكز القوى في صنعاء التي تواجه بعضها بأساليب الضرب تحت الحزام وتلتقي، بقصد أو من غيره، على هدف إضعاف الرئيس هادي بأشكال وصور شتى ومنها شكل الاغتيالات الممنهجة لأبرز القادة العسكريين والأمنيين.
من هنا تفصح الكثير من الأوساط السياسية والدبلوماسية عن مخاوفها من مخاطر التصعيد ونذر الانفجار العسكري الواسع للأوضاع، خاصة مع دنو موعد انعقاد مؤتمر الحوار الوطني الذي تقرر عقده في 18 مارس، وقد صار جلياً بأن القوى النافذة في المركز تكسب من عوائد إدارة البلاد بالأزمات والحروب أكثر مما يمكن أن تكسب من عملية انتقال البلاد إلى مستوى إنجاز الدولة والعقد الاجتماعي السياسي الحاضن للتعايش في إطار التنوع.
في هذا المنحى تنعقد آمال ورهانات معظم اليمنيين التواقين للاستقرار والأمان على تدخل استثنائي للمجتمع الدولي، وهي لا تعول على ما يمكن أن يصدر عن الأطراف اليمنية في طاولة الحوار بقدر ما تعول على المجتمع الدولي ومجلس الأمن الدولي الذي صارت قراراته المتعلقة بالشأن اليمني من المحفوظات، كما تحتل مركز الصدارة في تداولات وتفاعلات شتى الأطراف والأطياف، ويمكن القول بأن درجة حرارة الحالة السياسية صارت تقاس بموجب ترمومتر ما يصدر من قرارات أممية أو من تصريحات عن الأطراف الدولية الفاعلة.
صحيح ان التحديات والملفات المطروحة أمام الرئيس هادي كبيرة وخطيرة وفي مقدمتها ملف القضية الجنوبية، وملف النظام السابق ومعه ملف علي محسن والإخوان المسلمين، وملف صعدة وملف الإرهاب والانفلات الأمني في كافة المحافظات.
وصحيح ان قنابل الأعماق تفجرت كلها في وجه الرئيس وفي وجوه اليمنيين جميعا، ولكن الإصرار على المضي في طريق الحوار والتزام هذا الخيار بجدية وإرادة وفي إطار من الدعم الدولي والشفافية والمساءلة يمكن أن يفتح كوة الأمل بغد أفضل.
وأخيرا يحتاج “هادي” إلى أن يتخفف ويتحرر بهدوء وتدرج من ضغوط مراكز النفوذ القبلي والعسكري ويحرر صناعة قراراته الخاصة بتنصيب القادة العسكريين والأمنيين والمراكز الرفيعة في الدولة من شرنقة الترضيات التي تجنح به نحو ترضية اللواء علي محسن والإصلاح وأنجال الشيخ الراحل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر -مثلا- أو تصب في مصلحة علي صالح والموالين له أو في مصلحة جميع مراكز القوى الاستيلائية على المجال العام والسلطة بما هي غنيمة برسم الانتهاب والاختطاف من قبل العصبيات الهجامة.
* منصور هائل هو رئيس صحيفة “التجمّع” في صنعاء