يصبّه “رفاقه” القدامى نصباً برونزياً لثقافة التزوير الفظّة
قبل ايام توفي الدكتور بشير الدعوق في باريس، بعد معاناته جراء مرض عضال ألم به قبل اكثر من سنة. وقبل مواراته الثرى رسم بعض “رفاقه” القدامى صوراً للراحل تستله من حياته، حياة البشر واعمارهم المتعارضة والمتدافعة والمنقسمة، لتجعله بطل سيرة ملحمية في القصص القومي البطولي الخاوي. فمن هو بشير الداعوق – المدرس في الجامعة الاميركية في بيروت ومؤسس “دار الطليعة” للنشر ومجلة “دراسات عربية” في بيروت – خارج متحف الفضائل الحزبية والبطولية التي يطمئن اليها دعاويون ومحرضون تحت الوية تحمل السياسة على الاستيلاء والغلبة والسلطان غير المقيد؟
لا أحسب ان بشير الداعوق، صاحب “دار الطليعة” للطباعة والنشر وناشر “دراسات عربية” طوال أربعين سنة، ذهب به الظن الى ان ما تجنبه وحاد عنه في حياته، وهو التصدي للخلاف والبعث عليه وعرض نفسه ذريعة ومطية له، لن يعتم ويدركه حين مماته، ويوم وفاته تقريباً. فها بشير الداعوق، الحيي والخفيض الجناح، والناظر من وراء نظارتيه الزجاجيتين العميقتين الى محدثه وهو يداري ابتسامة تكاد تكون ساخرة أو مواربة لولا رقة الشفتين الزهريتين والطفوليتين، ومثول الوجه الأبيض البشرة، والبيضاوي (على بعض استطالة)، مثولاً لا يستبقي خفاء ولا يواري مضمراً، والمتكلم بصوت يخرج من الرأس ويتدافع من تلقاء صاحبه الذي يحاور نفسه فوق ما يتوجه الى محدثه ويستدرك على كلامه أو يستبقه ويجيبه – بشير الداعوق هذا يجلوه رحيله في عين بعض من عرفوه، وفي مرآة حبرهم وشهاداتهم وأخبارهم، صورة ناتئة وبارزة.
وتناوله بعض أصدقائه على وجه متناقض. فهو الدمث المعشر والرقيق الحاشية من وجه والبعثي “العراقي” والصدّامي الصارم من وجه آخر. وهو الرحب الصدر وناشر الأفكار والمذاهب المتناقضة ولكنه معتنق فكرة واحدة لا تحول ولا تزول. وهو سليل اسرة من أعيان بيروت، وأهل الرئاسات فيها، والمناضل المتواضع والمتقلب في المناصب الحزبية عاليها ومتواضعها من غير اغترار ولا أنفة. وهو اللبناني والعربي معاً، والعقلاني والعاطفي، والديموقراطي الليبرالي والقومي المناضل، والسياسي والمثقف، والملتزم المتفاني والناقد اليقظ، وشارلي شابلن و”الدكتور اونرات” (“بطل” “الملاك الأزرق” ومتيم مارلين ديتريش) الأكاديمي الألماني…
النصب البرونزي
وتناوله على هذا الوجه، أو الوجوه، يخرجه من الظل الذي تعمّد الفيء إليه، وربما التقنع والتلثم والتستر به، واتقاء النظرات التي تثبته على حال ومعنى، وتحجره أو تجمده عليهما. فجمعُ ما يفترض نقائض أو أضداداً، أو “تناقضات” في لغة العصر ورطانته، وإدراجها على سوية واحدة في جدولين أو بابين متقابلين، وحمل هذين على رجل واحد غير متناقض ولا متدافع، لا يلبث (الجمع هذا) ان يدير الظهر للرجل الحي، المتقلب بين أظهر الحياة وقلقها وخبطها والتوائها، ليستقبل نصباً برونزياً أو فولاذياً، (لولا ان الفولاذ لا يصلح للأنصاب وسبكها) هو متحف الفضائل الحزبية في مرآة مخيلة خاوية وضامرة، تختصر الأعمار والبشر وسعيهم في تماثيل وكنايات. وعلى هذا، خرج بشير الداعوق من حياته وإهابه وحوادثه ووقائعه، أو أخرج، ليصب في قالب يطمئن إليه بعض رفاقه القدامى، ويحلو في أعينهم، وليخزن في حكاية مفيدة تُروى على مسامع الأشبال والزهرات، فيشبون، على هدهدتها، أسداً وورداً شائكاً وجارحاً.
والحق ان السائق الى الكتابة في بشير الداعوق ليس تخليصه من براثن رفاقه، المزعومين او الحقيقيين، أو من أسر برونزهم وأقنعتهم، ورده الى شراك نقائضه وأضداده. فهذه كانت حياته. وهو كان مقتصداً في بسطها وروايتها على الملأ، وبخيلاً أو ممسكاً. ولعل اقتصاده أو إمساكه، إذا صح زعمي فيهما، وجه من وجوه تحْملُ ربما من خالطوا بشير الداعوق بعض المخالطة على التمهل في وصفه وتشخيصه ونحت نصبه أو تمثاله. فالرجل النحيل، والمائل الى القصر، والبادي البشاشة، والمتلفع ابداً بطاقم رمادي أو كحلي لا يتخفف شتاء ولا صيفاً من السترة ولا من القطعة الثالثة أحياناً كثيرة، والبادي السأم والتهذيب، لم يبدُ يوماً في متناول محدثه، ولا في مطال فهمه ومودته.
ولا أزعم، ولا أحسب، ان هذا كله وغيره كان مسرحاً يؤدي على خشباته المجربة والمختبرة ابن العائلة العريقة، وهذا أضعف إرثه، دوراً رسمه أو صممه وراء الشرفات المستطيلة والزجاجيات الملونة وأعمدة الرخام والجدران العالية، وحيداً مستوحشاً بين ثلاث نساء، أولهن أم ملأت عليه سنوات طفولته ويفاعته وشبابه، وأختان لم أسمعه مرة يذكرهما أو يلمح إليهما. ولكن من يزعم ان هذا لم يكن شيئاً، ولا مدخل له في ثباته على اعتقاد “بعثه” العفلقي فالحافظي (نسبة الى اللواء أمين الحافظ، “بطل” الانقلاب البعثي السوري الأول في 1963) فالبكري فالصدامي، انما هو مشتط في زعمه، ومغالٍ في إنكاره أو ربما في غفلته. فهو يقتطع ما يحلو له اقتطاعه من سيرة صاحبه، وما يناسب أبواب سيرة “بطولية” وتعليمية تقليدية. وهو يربط الأجزاء المقتطعة على نحو يخوله تتويج السيرة، وتتويج نفسه أو سيرته هو، بالحق الساطع، الأمس واليوم وغداً. ولكن القول أو الزعم ان هذا، أي بعض أحوال بشير الداعوق، كان شيئاً، وكان له مدخل في ثبات صاحبنا الراحل على اعتقاد يشبه إيمان عجائز نيسابور، لا يخول صاحبه، الكاتب، تجاوز إيجابه العام هذا الى “تعليل” دقيق، أي الى رواية متماسكة، على خلاف ما يوهم بعض رفاق ناشر “دار الطليعة” و”دراسات عربية”.
قصص سلطاني وشعبي
وما يدعو الى الوقوف والنظر هو تناول السير الفردية والجماعية على مثال “بطولي”، أو قصصي بطولي، يكاد لا يختلف في شيء عن السير الملحمية والشعبية الملكية المعروفة. والقصاصون، اليوم، هم صحافيون ومعلقون وكتبة. ولكنهم في المرتبة الأولى، مقاتلون ومناضلون ودعاويون ومحرضون تحت ألوية تحمل السياسة على الاستيلاء والغلبة والسلطان غير المقيد، وتتعصب لأهل العصبية المستولية وتوحدهم في “الأمة”، وتوحد “الأمة” فيهم. وهم يروون الحوادث، وحوادثُهم على ما ينبغي ويتوقع، مواقعُ وأيام عظيمة، وأبطال صناديد. وأما أنهار الدماء، وجبال الجثث، وألسنة النيران، وتلال الأنقاض (وهذا يحاكي الإنشاء القصصي الملكي أو السلطاني ولكنه لا يجافي الهوى الشعبي، ولا وقائع كثيرة ومشهودة، مسارحها حلبجة والبصرة والكوت والعمارة وحماه وحلب وتدمر وما لا يحصى من شوارع المدن اللبنانية والقرى و”الدساكر”، على قول صحافي مفوه القلم)، وأما هذه فلا يستقيم قصص ملحمي، يتربع في قمته أمين عام قطري أو قومي، من دونها.
وإنجاز القصص السلطاني الكبير، وهذا إنجاز أدبي وكتابي لا يستهان به، هو خرطه السير الفردية والاسمية في المشهد التاريخي والملحمي العريض من غير “الانحطاط” بالمشهد الى أخبار شخصية “تافهة”، أو الى “مقالات” اجتماعية ثرثارة تتناقلها النساء، وينفثنها مع دخان النرجيلات في السهرات المسترخية، أو في حلقات السيران المتحفزة. فيجمع القاص المعاصر، وهو الكاتب المقاتل والراصد والمستطلع الأمني معاً (على ما نبّه “عالم” فقيه ومفت مسموع في شؤون الأولى والآخرة)، الخبر التاريخي، ومداره على “الأمة” بقضها وقضيضها، والحادثة الشخصية والفردية، في معنى واحد ومرصوص. فيسع القارئ، وهو كاتب يتحسس “قلمه” ويسكِّن دبيبَ الرغبة والحمحمة العنترية فيه وهو يقرأ، ان ينفذ من ذرى المؤتمرات البعثية القومية، والأحزاب السرية، والاشتراكيات الحادة، و”تطارح” الأدباء والمثقفين “من كل ديار العرب” قضايا “أوسع الأزمنة” (على قول معن بشور في سيرته الرثائية أو المدحية، “النهار” في 18 تشرين الأول الجاري)، الى ابن عائلة بيروتية أدار ظهره للقصور و”أصناف الجاه والمال” وتحصن من “شهوة السلطة وعبادة المال”، واستقر في “مكتب صغير في اللعازارية” (والصحيح: في المركزية، جنوب اللعازارية)، وأقام على “استقبال” الأدباء والمثقفين الديارين والمتطارحين، وتقديم القهوة لهم والسجائر، على عادة اهل الفكر والقلم والنضال في تلك الأيام (وأزمنت هذه العادة، على ما يروي هيثم مناع في قصص بطولي آخر بجوار قصص البعثي “العراقي” و “السوري” و “الفلسطيني” و”الليبي” معاً).
وعلى الرسم النرجسي – الملحمي هذا، وجهٌ الى المرء وشؤونه الخاصة ووجهٌ الى آفاق التاريخ العريضة، يزعم القَصَصُ الواعظ والمغرض الإلمام بسيرة من يكتب سيرته، ويؤرخ له. وفي مصهر هذا الرسم الخطابي والإنشائي تذوب “المتناقضات” المفترضة، وتلتحم الأضداد، فلا تخلف بقية أو زائداً يعصى الحل والإذابة، أو يبقي على رمق من خلاف أو تباين. وهذا يصح في تصفح المرء وسيرته على وجهي الذاتية الخاصة (الضئيلة والمتوارية) والملحمة التاريخية (اللفظية)، على نحو وقدر ما يصح في الأضداد السياسية الكبيرة. فبعد الأسرة والمكتب الضيق وتطليق الجاه والتواضع وتدفق الروح وخفة الظل والزوجة، وهذه أبواب خطابية تتناقلها أخبار الأدب والأدباء وكتب السير والتراجم، وتدعو المتأدبين الى النسج على منوالها، يجف معين المادح. فيتخفف من عبء الوجه النرجسي، وهو لم يكن إلا ذريعة الى الوقوف بين يدي الممدوح الحقيقي، “الأمة” وحزبها وقائدها.
ويكني البعثي “العراقي” السابق، والصدامي المزمن، وجامع الولاءات الحزبية المتقاتلة والمتناحرة (على معنى حقيقي ودام)، في ولاء “قومي” واحد، يكني عن حزبه، وحزب بشير الداعوق، فيسميه “تياراً” تارة (ملبننة)، و “نضالاً قومياً ملتزماً بمشروع نهوض الأمة”، تارة ثانية (معجمية، تجعل النهوض محل البعث)، و”الرفاق العروبيين… الذين أسقطوا منذ الخمسينات (حين عاد بشير الى بيروت من الخارج) المشاريع والأحلاف الأجنبية”، تارة ثالثة. وفي ثنايا الكنايات هذه – وهي كناية واحدة “مستمرة”، على قول أدونيس في “الإمامة” واستئنافها المزعوم “النبوة”، وإيجابها التحول – يتخلص المناضل الراصد من الوجه الذاتي لذريعته الى مديح ممدوحه الأوحد. والذريعة هي بشير الداعوق. فيرفعه الى مرتبة “ذات بشرية” (وهي كقولك انه إنسان تمييزاً له من الجماد والنبات والحيوان). ولا يكاد يثبت صاحبه ذاتاً حتى “يذيبه” في التواضع، و”يفنيه” في الجماعة.
الإذابة والإفناء
ويبلغ القاص ذروة من ذرى الإذابة والإفناء المعنويين والذاتيين حين يقص زواج بشير الداعوق وغادة السمان. فالفعل الذي يعقد بين امرأة ورجل (“يكللهما” على قول ليتورجي) بعقد يودعانه اموراً تعصى الإحصاء والحصر، وتختلط فيها دواع بعضها واضح ومدرك ومعظمها غامض لا يرقى إليه فهم أو تعليل، ترده آلة “المنسق العام للروابط الشعبية في بيروت” – وهو أحد ألقاب معن بشور الأثيرة – الى قران أو “لقاء بيروت ودمشق”، أو إمعاناً في التخصيص والتقييد المكانيين والمحليين على شاكلة أسماء مواضع الأنقاض في شعر ما قبل الإسلام وبعض شعر ما بعده، “لقاء المنارة والغوطة”. ومن يعرف معرفة تقريبية وطيفية بعيدة الزوجين، قبل ارتباطهما وبعده (وأقيد قولي بالمعروف والمشهور)، ربما لا يفتأ يسأل عما دعاهما، وهما على ما هما عليه افتراقَ ميول، وتباينَ أهواء وأذواق وظاهر، الى عقد واحدهما على الآخر. وهذا ليس شأن كاتب هذه الأسطر.
ولكن زعم “المنسق العام” ان زواج الروائية السورية المولد، ومتوطنة العاصمة اللبنانية وكاتبة “لا بحر في بيروت” و”كوابيس بيروت” من بعد (وللبعثي “العراقي” السابق بعض اليد في تسلط الكوابيس على أهالي بيروت، أصليين ومتوطنين، يومها)، والأستاذ الجامعي والناشر اللبناني، كان “اللقاء الأروع في حياتهما”، تتناول ما لا علم له ولا لغيره به. وحري بجاهل الأمر السكوت عنه، استحياء وتعففاً، وأسوة ببشير الداعوق. وأما مصدر “الروعة”، على زعمه، فهو كنايته عن “لقاء بيروت ودمشق”، الخ. فلا قوام ولا مُسكة، والحال هذه، لغادة السمان، وما اختارته وأرادته ورغبت، ولا لبشير الداعوق، خارج تمثيلهما على مدينتين، ودولتين وبلدين ومجتمعين، بينهما من الروابط والأواصر الأهلية والتجارية والثقافية أقل مما بينهما من الشكوك والتباين والعداوات والضغائن والمقاتل.
فيسكت جامع الولاءات المتعادية والمتقاتلة عن هرب بشير الداعوق “البيروتي” وزوجه “الدمشقية” من بيروت غداة اغتيال عبد الوهاب الكيالي، الفلسطيني “العراقي”، وصديق الناشر اللبناني، واغتيال صديقه الآخر، الطبيب البيروتي العريق والبعثي “العراقي” والطيب، كمال سنو. ويشبه انقلاب “دمشق”، أي جهازها البوليسي، على “بيروت”، اي بعض حزبييها السنّة، غداة قطيعة 1978 وانهيار جبهة الصمود والتصدي، انقلاب “بغداد”، أي رعاعها الحزبي، على ذرية فيصل في 1958. فمعن بشور يحتفل بعم بشير الداعوق، عمر الداعوق “رافع العلم العربي (الفيصلي) على السراي الحكومي” البيروتي، ويحتفل بابن جميل، اخي عمر، معاً. ويربط بين العم وابن اخيه بحبل سرة عروبي قومي ونهضوي بعثي. و “رفاق” بشير الداعوق، ومعن بشور، كانوا فيمن خرجوا في 14 تموز 1958 وقتلوا حفيد من رفع عمر الداعوق رايته ببيروت. فالاحتفال بالقتلة وقتلاهم في حفل تأبين واحد هو من شيم جامعي الولاءات المتقاتلة.
وبعد إفناء ذريعته في الجماعة (الحزبية، القومية، العروبية، النهضوية، البعثية، البيروتية… على معنى “إسقاط كل المشاريع والأحلاف الأجنبية” وحده)، وهو يحمل إفناءه على “تفانيه” التلقائي والطوعي، يخلو المجال لسطو جامع الولاءات على تاريخ بيروت و”ثقافتها” و”سياستها” و”جيل” رجالها الذين ولدوا قبل الحرب العالمية الثانية وغداتها. وفي هذا المعرض يقتفي القصاص أثراً معروفاً سبقه إليه، أو هو كان في جماعة السباقين ومعيتهم، مداحو “استقبال” (أنظر أعلاه) كبرى مدن لبنان المنظمات الفلسطينية المسلحة، وفي ركابها “مثقفوها” المناضلون، وأنصارهم الناصريون والقوميون والشيوعيون والماركسيون الذين استضافتهم صحف “الممانعة”، ودور النشر و”الأبحاث” المحلية. وكان مضيف هؤلاء، حقيقة، ممول أو ممولو المنظمات المسلحة من أهل النفط، على مشاربهم. وكانت الأراضي اللبنانية، واللبنانيون، المضافة والمسرح و”الكومبارس”.
السطو
ولم يقتصر النزول بالأراضي اللبنانية واللبنانيين على اتخاذها مسرحاً واتخاذهم أعواناً وحلفاء ومساعدين. فسطا النَّزْل (على مثال قولهم الشّرب في الشاربين) على “المنزل” وتاريخه، و”أفنوه”، و”أفنوا” أهله في قصصهم، على نحو ما أثبتوا “شعباً لبنانياً – فلسطينياً” لا يُنكر تصريف أحمد جبريل وجورج حبش وزهير محسن وصلاح خلف وياسر عرفات وأبو خالد العملة شؤونه، أي اقتتاله وحروبه، ويطعن في مزاعم صائب سلام وأمين الحافظ وبيار الجميل وكامل الأسعد التصدي لهذا التصريف وتوليه. وأمارات “الإفناء”، أو “التفاني”، في مرثية بشير الداعوق الملحمية، كثيرة.
فيقع القص على بيروت. وينتخب القص بيروت السنية، الغربية، وبعض أسرها العثمانية فالعروبية. ولا يطاول عامتها، السنية، إلا حين انخراط العامة في سياسات عروبية وتحريضية مصدرها جماعات حاكمة في دول عربية أخرى، أو دول إسلامية اليوم. ويطرح القص المغرض جماعات كثيرة وأراضي واسعة. فالتغني بـ”بيروت” يخرجها من دائرتها اللبنانية، ومن الخليط اللبناني المشكل والمعضل. وإحصاء المدن العواصم في معرض القصص النضالي والدعاوي والتحريضي ليس ضرباً من البديع والتطريز البلاغيين، أو من التقريب النرجسي وحسب. فهو يبعث بعثاً لفظياً ورمزياً وحسياً انفعالياً صورة الأمة السلطانية من غير دولة، وبالأحرى من غير “دول” وطنية، أي “قطرية”. فتطرب الأذن، ويطرب القلب، لسبحة أسماء المدن، ومعاقبتها حبة حبة على مثال قديم ومجرد يتنقل بخفي حنين، على ما نحسب غير محتسبين المسالح (الحدود المحروسة) والأقلام (الجمرك) ونهب القوافل والغارات، بين غرناطة وطليطلة وطرطوشة وطنجة ومراكش وقسنطينة والقاهرة وبغداد وسمرقند وبخارى وهراة وكابُل وسوقطرة وصنعاء، الى حبات السبحة الطويلة الأخرى.
وتقوم هذه المدن، المنقطعة من الأرياف والصحاري والغالبة عليها غلبة قاسية ومجحفة، مقام “دولة” تقتصر على رأس من غير جسم، ولا بنية متماسكة ومتوازنة، وتغشى المدنُ هذه مخيلة المتعلمين المعاصرين، وتحجب عن أنظارهم وأفكارهم وسياستهم (أو “ثقافتهم السياسية” وقيمها ومعاييرها) الافتعال العسكري والاجتماعي والثقافي الذي كان سند نشأتها، وركن دورها ودوامها الوقت الذي دامته. ولعل المثال المدني “التاريخي” الذي يمدحه المتعلمون السياسيون، وهم قاعدة الأحزاب العربية وأطرها وجمهورها، هو المثال الذي يتوقون إليه، ويداعب مخيلتهم، ويتوسطه حصن الأمير وقصره وقلعة الحامية، وتتحلق حول الأمير حاشيته وكتابه وبعض تجاره وصنايعييه. فالمتعلم الحزبي والقومي يطمئن الى المدن السلطانية التي يتربع امير صارم في سدتها، ويخدمه أعيان يلزمون حدودهم وعملهم على مراتب صارمة.
وبيروت، التي يمدحها القوميون “الفلسطينيون” و”السوريون” و”الناصريون” و”القذافيون” و “التقدميون”، يخرجونها من الخليط (والخليط هم الأهل) اللبناني، ويقصرونها على حادثتين او ثلاث على حدة من تاريخها الملتف الأغصان، شأن التواريخ الإنسية أو الإنسانية الأخرى. وحين يزعم البعثي “العراقي” المزمن التأريخَ لحركة النشر اللبنانية، وإدراج اصحابه ورفاقه فيها، وسلكهم في سلكها، “ينسى” الناشرين من غير السنة المحليين والعرب، مسيحييهم وشيعييهم. ويستلحق على وجه العجلة ألبير أديب. وهو يذكره من طريق التداعي. وحلقة التداعي هي سهيل ادريس: فـ”الآداب” تستدعي “الأديب” لفظاً إن لم تستدعها مضموناً. ولكن، ما خلا ألبير أديب، وهو ناشر “ضعيف”، سها المتذكر المزعوم عن دار المطبعة الكاثوليكية، وهي دار أمٌ تحقيقاً وطباعة وإحياء وترجمة، وعن دار المكشوف، وهي ليست أقل من الكاثوليكية انتاجاً متنوعاً، ودار صادر، وصرفت هذه عنايتها الى التراث والترجمة وبعض التأليف الأدبي والقصصي.
وغفل عن دار بيروت، وهي ملأت رفوف مكتبات قراء العربية، منذ اوائل الخمسينات، بكتب الماركسيين والفرويديين والليبراليين البريطانيين و”كفاحي” هتلر في طبعة مختصرة (وهذا في باب الاختلاف والتناقض). وبجوار دار بيروت، في بناية اللعازارية، قامت دار الكتاب اللبناني. وأتمت هذه نشر كتب عربية كانت دار صادر نشرت بعضها، ونشرت ما لم تنشره هذه أو غيرها. وصاحب الدارين هاتين هما “السيد” محمود صفي الدين والأستاذ حسن الزين، وبعض آل عاصي معه. وهؤلاء ليسوا “بيروتيين” على معنى “الروابط البيروتية”، ورأس بيروت (أو المنارة) والعائلات العريقة والليبرالية والديموقراطية والقومية معاً و”في الجوهر”، على ما يخبط صاحب تأبين القتلة والقتلى معاً، ويهجر. وقبل مباشرة بشير الداعوق النشر صدرت “شعر”، ودارها ومجموعاتها، وكانت فتحاً طباعياً ونشرياً، إذا جازت النسبة. وسلك سهيل ادريس، وقبله وبعده منير بعلبكي وبهيج عثمان (“دار العلم للملايين”) في سلك واحد، لا وجه له ولا مسوغ. فالثلاثة اعتنوا معاً ومنفصلين، بالنشر الأدبي والمدرسي اللغوي والترجمة. فنقل بعلبكي اعمالاً روائية اميركية، وعرج على كافكا، على استحياء. ونشر ادريس مجموعات شعرية كثيرة، وروايات، ومجموعات قصصية، ونقل كتاباً فرنسيين معروفين.
التجارة والسلعة
فلما باشر الداعوقي الشاب والجامعي عمل النشر، غداة 1958 و”حوادثها” وعشية انفراط عقد الوحدة السورية – المصرية، كانت بيروت تجر وراءها تراثاً طباعياً وثقافياً عريضاً، معظمه ضعيف الصلة بالعروبة السياسية، وتولى معظمه من لا يسلكون في السلك البعثي “العراقي”، وليسوا من السنة، ولا من المسلمين (إذا شئنا العبارة الفجة والفظة جواباً عن فجاجة وفظاظة غير خفيتين إلا على صاحبهما ورفاقه ربما)، ولا من “التقدميين” المفترضين. وهو باشر النشر السياسي. فكانت سلسلة “نضال البعث”، وأجزاؤها الثمانية عشر، عمود الدار الفقري. ولكن النشر السياسي، و”الثقافي” على مقدار أقل، كان نشراً تجارياً. وعلى خلاف مادحيه مؤبنيه، لم يتستر صاحب “دار الطليعة” على تجارته. فكان الباب البعثي والحزبي من نشره مصدر عائد ثابت أشبه بالريع. فهو وحده كان مخولاً طباعة الكتب والنتشرات الحزبية. وعندما أزمع جهاز كيم إيل – سونغ، الديكتاتور الكوري الشمالي والشيوعي، نصب منارة “فكر” الزعيم في ديار العرب، وقع على دار مجربة، وذات باع في نشر الكراسات الحزبية التي لا يقرأها احد، ويسدد الموصون بها ثمن طباعتها وتوزيعها سلفاً، بعد احتساب الربح غير منقوص.
فزاوج “المتصوف” الحزبي، على ما يصفه رفاقه اليوم، عراقة التجارة العائلية ربما وليبرالية الأفكار في صورة السلعة. وليس في هذا غضاضة، إذا قبل المرء غض النظر عن مضمون السلعتين، الصدامية والكيم إيل – سونغية. وأما الأفكار نفسها، وكثرة مشاربها، وجمعه الكثرة هذه في لائحة منشوراته، كان ذلك قبل 1967 وسطوع العمل الفلسطيني أو بعدها، فلم يحتكم في اختيارها الى معيار فكري. فلما اقترحت عليه نقل فصول من كتاب الكاتب اليوناني الفرنسي كاستورياديس، “البروليتاريا والتنظيم”، وينتقد فيه منزع الماركسية “العلموي” والاستبدادي، وافق من غير ان يطلب قراءة الكتاب. وبرر استنكافه هذا ضاحكاً: “الكلمتان، البروليتاريا والتنظيم، كفيلتان بأن ينفق الكتاب”. وعلى خلاف المعايير الرخوة هذه، كان يناقش ثمن الترجمة، أو “حصة” الكاتب من عائد عمله المنشور، من غير رخاوة. وكثرة من كتابه ومترجميه، ما عدا بعض القيادات السياسية التي تصدرها رفيق بشير الداعوق وصديقه الأثير، سعدون حمادي – رجل صدام حسين على المجلس الوطني (البرلمان)، وعلى وزارة الخارجية ورئاسة الوزارة لماماً – كانت تحدوهم الحاجة الى النشر، ومن غير شك الى الترجمة. ولم يحمل هذا الناشر، على ما أعلم، على الرفق في المفاوضة، ولا على الضعف فيها.
وليس هذا إنكاراً لصفات بشير الداعوق. ولكن الصورة الزائفة والكاذبة، المتعمدة، التي يرسمها بعض رفاق الرجل عن صاحبهم في المرتبة الثانية أو الثالثة، وعن أنفسهم في المرتبة الأولى، تزوير سياسي وأدبي فاضح. وهي لا تعدو الترويج الفقير والغث لتاريخ يضارع الترويج هذا فقراً وارتثاثاً. والتذرع بوجه من بشير الداعوق مبهم وغامض، إلى التزوير البائس والفج هذا، قد يثقل على بعض من عرفوه، أو على أناس أسوياء لبنانيين وبيروتيين من طريق المعاهدة والولاء والتوليد، مثل حالي. فليتحمل وزر التزوير الرفاق دون الرجل الذي سكت، وكان قليل الكلام.
(نقلاً عن “تحقيقات النهار”)