لم نعثر على صورة للدكتور بشير الداعوق على الإنترنيت، لذا وضعنا صورة غلاف “نقد الفكر الديني” الذي كان الدكتور بشير الداعوق الناشر الوحيد الذي تجرّأ على نشره. “الشفّاف” يشارك أصدقاء “الدكتور” في حزنهم على وفاة الرجل الدمث والأنيق والناشر العملاق الذي سيلتصق إسمه بتطوّر الفكر العربي في السبعينات والثمانينات، والذي لم يمنعه إنتماؤه “البعثي” من الإنفتاح على الفكر العالمي بكل منوّعاته، وعلى ترجمته ونشره بالعربية.
*
بشير الداعوق اسم يتوارى خلف اسمين كبيرين: دار الطليعة وفصلية دراسات عربية. كان في وسع الرجل النحيل للغاية ذي العينين النفاذتين خلف نظارتيه واللباس الكامل على الدوام، ابن العائلة أستاذ الجامعة الأميركية وعضو القيادة القومية في حزب البعث، يوم كان البعث تياراً مستقبلياً، كان في وسع بشير الداعوق أن يعلي اسمه بكل هذه المقومات. لكن الرجل آثر بالتأكيد، وربما كما أملت عليه تربيته أو أملت عليه ثقافته وربما تاريخه أن يتوارى وراء إنجازين كبيرين. ربما كان بشير الداعوق لذلك من القلة الذين يذكروننا بأن هذا البلد صنيعة أجيال وصنيعة تراكم وأن لمجتمعه تاريخاً. فالأرجح أن سلوك بشير الداعوق وترفعه عن أن يبرز باسمه واكتفائه بإنجازه، الأرجح أن وراء هذا تربية لم تتكون في يوم وليلة وأن وراءه تراكماً ورؤية للعمل والوقت لم يرتجلا واحتاج بناؤهما الى عقود وربما قرون. كان الرجل ابن نخبة اجتماعية تترجم موقعها في سلوك وردود ومبادئ صلبة، وتترجم موقعها قيماً وممارسات خاصة واستثنائية. خاصة إذا علمنا أن هذا كان في لبنان، في بلد تتشابك مواصفاته بحيث يصعب أن تفرز سلوكاً خاصاً مستقلاً، بل تبقى خليطاً من سلوكيات شتى ومستويات شتى. بشير الداعوق، بكل ما هو عليه، احتج فقط بإنجازه، وأي إنجاز. دار نشر كانت في وقتها مدرسة في الثقافة العربية، وفصلية من وزنها. لأمر ما لا نؤرخ لثقافتنا انطلاقاً من دور نشر، ولأمر ما قلّما نؤرخ لثقافتنا إلا بنتاجاتها غافلين عن أن هذه هي أيضا نتيجة مؤسسات ونتيجة عملية اجتماعية.
«الطليعة» الدار التي أسسها بشير الداعوق ورعاها كانت بدون شك الحاضنة الفكرية والمنطلق الأول للماركسية غير السوفياتية وللماركسية الأوروبية بوجه خاص. كانت الطليعة ماسبيرو عربية. كانت كاسمها مركزاً للجديد والجريء والسجالي في الثقافة العربية بل كانت بدون شك ورشة لا تنام لبث هذا السجال ومتابعته. استقبلت كل النتاجات الأساسية للتيار الجديد تأليفاً وترجمة. ليس الآن مجال ذكر الأسماء والعناوين لكن مراجعتها وحدها كافية لرسم معالم منعطف وحركة فكرية. بغزارة منقطعة النظير ومرونة واسعة كانت «الطليعة» رافعة لحظة استثنائية هي أيضا لحظة غليان وتقاطعات ونقد وبدايات تأسيسية. اليوم لا نرجع الى هذا الزمان الخصب، أياً كانت ذيوله وتداعياته فيما بعد، بدون أن نفكر بأن «الطليعة» كانت مختبره ومنارته.
إذا كنا ابتعدنا كثيراً أو قليلاً عن هذا الزمان إلا أننا لا ننسى أنه تقريباً زمن تأسيسي وأننا اليوم لا زلنا في تداعياته وذيوله. كانت الطليعة حاضنة لكل جريء وكل سجالي وكل مراجعة بدون شروط وبدون تحفظ. «دراسات عربية» الفصيلة التي أصدرتها دار الطليعة كانت أيضاً منبر هذا الجديد ومركز استقباله وبثه. كانت الفصلية أيضا مرآة أخرى للدار ومثلها كانت ورشة نقاش ومثلها كانت مركز تقاطعات وبوتقة خيالية ومراجعة متعددة، الدار والفصلية كانتا على مفرق تيارات واتجاهات عالمية وداخلية. على مفرق سجالات عالمية وداخلية. لكننا كنا في غمرة نقاش شامل على المستويين، كنا في لحظة معاصرة وكنا بالتأكيد في لحظة تجل للعقل والنقد.
فكر من كل الاتجاهات. مع ذلك كانت اللحظة الماركسية بامتياز أو كان النقاش واسعاً وغنياً داخل الماركسية، أما المفارق فهو أن بشير الداعوق الذي فتح هذا الباب لم يكن ماركسياً. لم يحتج الى أن يكون ماركسياً ليحتضن لحظة فكرية بكل ما فيها دون أن يتماهى معها. الثقافة مسافة والفكر مسافة وبشير الداعوق كان هنا أيضا يدل الى تربية وتقليد استثنائيين، كان بشير الداعوق حتى في عمله الحزبي متوارياً وغير صخاب. لم يحتج الى اسمه ليوجد في تاريخنا. لقد استعار لنفسه اسم مرحلة كاملة، وهو الآن حاضر بقدر ما سعى لأن يتنحى. إنه الحضور الحقيقي، الحضور في قلب لحظة تاريخية، الحضور في قلب ورشة ومؤسسة. الحضور في قلب إنجاز تأسيسي.
السفير
بشير الداعوق: حضور تاريخي
رحمه الله وشكرا له. هل من وريث ?!!