الاخبار الواردة من بريطانيا في الفترة الاخيرة توحي بأن حكومة السيد ديفيد كاميرون قد حزمت أمرها، من بعدد تردد طويل ، حيال تنظيف بيتها الداخلي من الافراد والجماعات الارهابية التي استغلت الانظمة والقوانين البريطانية المتعلقة بحقوق الانسان وحرية التعبير والتنقل والعمل أسوأ إستغلال، وبصورة أثرت على علاقات الدولة البريطانية بعدد من أصدقائها وحلفائها.
فمن بعد تسليم الداعية الأهوج منظر تنظيم القاعدة في أوروبا المدعو أبو قتادة إلى الأردن، وتسليم المحرض على الجهاد في المساجد البريطانية أبو حمزة المصري إلى السلطات الامريكية، والتحقق من انشطة وسجلات جماعة الأخوان المسلمين ومدى خطورتها على المصالح القومية البريطانية، ها هي الشرطة البريطانية تقبض على الباكستاني “ألطاف حسين” بتهمة تبييض الأموال، والاختلاس، والقتل. وعلى الرغم من أن الأخير لم ينتهج نهج أبي قتادة وأبي حمزة المصري، واقتصر نشاطه على تزعم “حركة المهاجرين القومية” الباكستانية وحشد التأييد المعنوي والمادي لها من الخارج، فإن هناك الكثير من علامات الاستفهام حول تحركاته وما راكمه من أموال ساعده في تأجيج العنف في كبرى مدن باكستان وعاصمتها الاقتصادية، كراتشي، فضلا عن علاقته المزعومة باغتيال أحد منافسيه السياسيين في لندن في عام 2010 وهو الدكتور عمران فاروق الذي يعتبر من قادة ومؤسسي الحركة المرموقين..
فمن هو الطاف حسين هذا؟ وإلى ماذا تهدف حركته؟ وما مدى ثقله ووزن حركته في الحياة السياسية الباكستانية؟
لنبدأ بالاجابة على السؤال الأخير الذي سينقلنا تباعا إلى الإجابات الأخرى. يدّعي الطاف حسين (60 عاما)، في مقابلة أجرتها معه جريدة الحياة اللندنية في يوليو 1995 ، أنه يمثل نحو 22 مليون نسمة من الباكستانيين الذين نزحوا إلى باكستان واتخذوا منها موطنا بديلا عن الهند على إثر تقسيم شبه القارة الهندية في عام 1947. ومعظم هؤلاء يعيشون اليوم في كراتشي العاصمة السياسية السابقة لباكستان وعاصمة إقليم السند، التي صارت من أكثر مدن العالم ازدحاما وكآبة وبؤسا وانفلاتا امنيا وحاجة إلى الخدمات، من بعد أن كانت في زمن الانجليز إحدى أجمل مدن الهند البريطانية وأكثرها رخاء.
وانطلاقا مما سبق، لم يكن غريبا أن تــُعلن حالة التأهب الأمني في المدينة ويقوم سكانها بتخزين الماء والطعام ويهرع تجارها الى إغلاق محالهم، خوفا من أن يؤدي شيوع خبر القبض على الطاف حسين في لندن إلى رد فعل عنيف من قبل أنصاره الكثر كما جرت العادة كلما داست الحكومة او مؤسسة الجيش على طرف أحدهم. وهؤلاء الانصار ينضوون تحت جناح “الحركة القومية المتحدة”، التي ولدت من رحم مؤتمر طلابي عقد في عام 1978 في جامعة كراتشي، وتم إشهارها في عام 1984 زمن حكم الجنرال ضياء الحق تحت إسم “حركة المهاجرين القومية”، لكن كلمة “المهاجرين” أزيلت من إسمها في عام 1997. وهي تعتبر من حيث الثقل أكبر حزب على الاطلاق في كراتشي التي يقطنها نحو 20 مليون نسمة، وثاني أكبر أحزاب إقليم السند ــ له 37 من أصل 130 مقعدا في المجلس التشريعي المحلي ــ ورابع أكبر الاحزاب الباكستانية على الاطلاق بعد حزب الرابطة الإسلامية “جناح نواز”، وحزب الشعب، وحزب تحريك إنصاف. إلى ذلك فإن الحركة بسبب توجهاتها العلمانية تعتبر أكبر قوة مناوئة لحركة طالبان وحلفائها.
وتسعى هذه الحركة، التي انشقت على نفسها فتمخض عن ذلك حركة أخرى تحت إسم “حركة المهاجرين الحقيقية” وهي حركة يصف الطاف حسين مؤسسيها وأتباعها بـ”مجموعة من اللصوص والمرتزقة العاملين لحساب جهاز المخابرات الباكستاني”، إلى بناء وطن مستقل للذين هاجروا من الهند إلى باكستان في فترة التقسيم، وجلهم من الفقراء الذين مُورس ضدهم التمييز والتهميش ــ وعوملوا معاملة مواطنين من الدرجة الثالثة على الرغم من تضحيتهم بنحو مليوني شهيد من أجل قيام باكستان كما يقول الطاف حسين ــ ولم يمكنوا من الحصول على أراض زراعية يمارسون فيها مهنتهم الوحيدة. أما زعيمها الطاف حسين، المولود في أغرا الهندية في عام 1953 لعائلة متدينة والحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة كراتشي والمؤدي للخدمة العسكرية في فوج البلوش بالجيش الباكستاني، فقد فرّ إلى بريطانيا في عام 1992 ويعيش مذاك هناك كلاجيء سياسي بسبب وجود نحو مائة قضية جنائية ضده في المحاكم الباكستانية، وخوفه من الاغتيال السياسي. ومن لندن ادار الرجل تنظيمه بقبضة حديدية إلى الحد الذي قيل معه أنه لا يتردد في التخلص من منافسيه على الزعامة قتلا. ومن هنا قيل باحتمال أن يكون لالطاف حسين يداَ في مقتل عمران فاروق داخل منزله في لندن في سبتمبر 2010. والجدير بالذكر أن فاروق انتخب سكرتيرًا عامًا للحركة القومية المتحدة، ولكنه اختفى في عام 1992م عندما بدأ الجيش حملة تطهير ضد معاقل قادة المهاجرين في كراتشي بسبب تورطهم في عدد من الجرائم. وظل فاروق يدير الحزب من أماكن سرية في كراتشي. وفي 1999م تمكن من الهرب من باكستان بجواز سفر مزيف ووصل إلى لندن وحصل على اللجوء السياسي فيها. وكانت الشرطة الباكستانية اتهمته بارتكاب جرائم قتل واختطاف وتعذيب وأصدرت أوامر بإلقاء القبض عليه.
والحقيقة أن الطاف حسين وحركته واتباعه صاروا الشغل الشاغل لأجهزة الأمن والمخابرات الباكستانية التي لم تترك حادثة دموية الا ونسبتها إليهم، ولم تترك صفة قبيحة إلا وأسبغتها عليهم، وعلى رأسها بطبيعة الحال التحرك بأوامر من الهند والعمل لصالحها، متخذة من تصريح الطاف حسين المتكرر بأن “تقسيم شبه القارة الهندية كان أكبر خطأ في تاريخ البشرية” مبررا لإطلاق تلك التهم. ولعل أكثر الفترات التي عانت فيها الحركة من الاضطهاد والملاحقة والتضييق هي تلك التي كانت فيها باكستان تحت حكم العسكر، وخصوصا في التسعينات حينما كان الجنرال برويز مشرف في السلطة. أما قادة البلاد المدنيين فقد كانوا أكثر رأفة بها، وحاولوا مرارا ــ دون تحقيق أي نجاح ــ أن يتوصلوا معها إلى حلول وسط حول مطالبها. تلك المطالب التي تشمل: وقف العمليات الامنية ضد المهاجرين، سحب الجيش من مناطقهم، اقرار مبدأ التمثيل النسبي في البرلمات الاتحادية والاقليمية ومجلس الشيوخ الاتحادي، زيادة حصص الخدمات المقدمة للمهاجرين في المدن والقرى، منح منصب حاكم ولاية السند إلى المهاجرين والسنود بالتناوب، تعويض أعضاء الحركة ممن قتلوا او اصيبوا أو لحقت خسائر بممتلكاتهم على يد الجيش والشرطة، وإسقاط جميع القضايا المرفوعة ضد قادة الحركة من دون قيد او شرط.
والحال أن بريطانيا تحسن فعلا بتخلصها ممن يستغلون أراضيها وكرمها لارتكاب أعمال الارهاب والعنف، او التحريض عليه، او تجنيد الانصار من أجله، أو بث الكراهية الدينية والمذهبية. ونعتقد أنه قد حان الوقت لتوسع السلطات بريطانية دائرة جهودها فتشمل الجماعات الخليجية المارقة التي تستهدف أوطانها من عاصمة الضباب.
تنويه: اثناء تحرير المقال افرجت بريطانيا عن الطاف بكفالة على أن يمثل لاحقا أمام العدالة.
* باحث ومحاضر أكاديمي متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
aElmadani@batelco.com.bh