أسوأ ما يجابه المُعلّق على الجاري من الأحداث أنه لا يملك الحق في التركيز المتواصل على موضوع بعينه، فكلما جد جديد انتقل من موضوع إلى آخر. وليس لحق كهذا دلالة أعلى من قيمته الأخلاقية، أي العقد الضمني بين كاتب وقارئ، وربما وهم الإحساس بإضفاء قدر من المعنى على أحداث لا تعوزها المعاني بقدر ما تشكو من اختلاطها وتعدديتها.
لذلك، في صعود تاجر العقارات دونالد ترامب، إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، ما يبرر تأجيل الكتابة في موضوع “الثقافة الفلسطينية”، والتعليق على الحدث الأميركي، ليس لإعادة إنتاج وتدوير ما تناقلته وسائل الإعلام في الأيام القليلة الماضية، بل للعثور على ما لم ينل حقه من التفكير والتدبير.
فلنفكر بما يُعاد إنتاجه وتدويره، هذه الأيام، في ما لا يحصى من المقالات، والتحليلات، والمقابلات التلفزيونية، في الشرق والغرب على حد سواء. وهذا كله ينحصر في أربعة أشياء: فوز ترامب مفاجأة من العيار الثقيل، وقد نجمت عن فقدان ثقة شرائح واسعة من الأميركيين بالمؤسسة، “الطبقة العاملة البيضاء” ثأرت لنفسها، ومستقبل الديمقراطية في تلك البلاد محفوف بالمخاطر.
وهذا كله صحيح. ولكن هل ثمة ما هو أبعد من هذا كله، وهل ثمة ما يستدعي تأويلاً من نوع مختلف؟ وقد كان في الأيام التي أعقبت الانتخابات الأميركية ما يستدعي البحث عمّا يمكن أن يلقي مزيداً من الضوء على أمر كهذا. وفي هذا الصدد كان أوّل ما لفت انتباهي رواية لجيفري روبنسون، صدرت قبل أربع سنوات بعنوان “برج ترامب”.
الرواية فضائحية. وكما جرت العادة تفادى الكاتب الملاحقة القانونية فذكر أن كل ما يرد فيها من صنع الخيال، ولا صلة بينها وبين مالكي برج ترامب، في نيويورك، وساكنيه. وهي رديئة بالمعنى الأدبي، وهذا لا يقلل من قيمتها كعلامة إيضاح للتجليات المحتملة للبرج وساكنيه، في المخيال العام.
أوّل ما يرد إلى الذهن أن تاجر العقارات دونالد ترامب كان موضوعاً للروايات، والتحقيقات، والفضائح، والنميمة، في المنابر الإعلامية، إضافة إلى كتب نشرها باسمه، والكتب التي نُشرت عنه، وكذلك برامجه التلفزيونية، وعلامة ترامب التجارية المُسجلة. وكلها سبقت طموحه الرئاسي بسنوات طويلة. بمعنى أنه كان وجهاً معروفاً، ومألوفاً، لدى ما لا يحصى من الأميركيين.
وعلى خلفية المعروف والمألوف، ومنها، استمد روبنسون عناصر وحبكة روايته الخيالية. وهذه يمكن اختزالها في هوس الجنس، والمال، والسلطة، الذي يحكم عالم البرج وقاطنيه، فهؤلاء من أصحاب الملايين وعشيقاتهم، وهم أصحاب مهن وجنسيات مختلفة، منهم نجوم في عالم الرياضة، والسينما، والمال والأعمال، وكلهم يعيش في عالم شبه أسطوري، وفوق القانون، الذي يمكنهم تطويعه بعلاقات مع صانعي السياسة، ووكالات إنفاذ القانون.
ولعل أكثر الشخصيات إثارة للاهتمام، بقدر ما أرى، بيير بيلاسكو، مدير البرج، الذي يحظى بثقة ترامب ويمكنه، دائماً، إيجاد الحلول المناسبة لأكثر المواقف درامية، بلغة محايدة، ومهنية عالية، تتجلى فيها مهارات البائع الوسيط بين التاجر الكبير وزبائنه.
ولكن زبائن دونالد ترامب، ومستهلكي بضاعته، في الواقع، ليسوا سكّان البرج في الرواية الخيالية وحسب، بل كل من صوّت له في الانتخابات الرئاسية، أيضاً. فهؤلاء، بصرف النظر عن دوافعهم الأيديولوجية، قد استهلكوا بضاعة شائعة في السوق، معروفة ومألوفة، على مدار سنوات طويلة. وهذا، في الواقع، ما يحاول الكساندر زايتشك تفسيره في كتاب بعنوان “الغضب الموشى بالذهب، رحلة بريّة في أميركا ترامب” الصادر في آب (أغسطس) من هذا العام، والذي توقع فيه نجاح ترامب في السباق الرئاسي إلى البيت الأبيض.
اعتمد زايتشك، في خلاصته، على نتائج رحلة ميدانية في ست ولايات أميركية (أريزونا، ويسكنسون، بنسلفانيا، فيرجينيا الغربية، نيو مكسيكو، وكاليفورنيا) حضر فيها حملات ترامب الانتخابية، وأنصت لكلام أنصاره ومؤيديه. والغالبية العظمى من هؤلاء وجد نفسه في العقود القليلة الماضية ضحية تدهور الوضع الاقتصادي نتيجة هجرة الشركات الكبرى، ونقل مصانعها إلى بلدان آسيوية في الغالب، وانهيار صناعة التعدين ومناجم الفحم، التي نشأت حولها، وعليها، مدن عامرة وزاهرة في عقود مضت.
تأخذنا الرحلة إلى عالم على حافة الانهيار يشبه أفلام هوليوود القيامية، حيث يعاني الناس من تفشي معدلات البطالة، والفقر، وتعاطي المخدرات، وانهيار الخدمات، والضمانات الاجتماعية والصحية، وتدهور البنية التحتية، ويزداد اغترابهم في، وعن، عالم يبدو أنهم فقدوا إمكانية التأثير عليه، والنجاة منه. وهذه، بالتأكيد، ليست أميركا سكّان برج ترامب، ولا تلك التي تطل علينا في الأفلام الدعائية، أو تلك التي سكنت خيال وأوهام الكثير من الناس، في أربعة أركان الأرض، على مدار عقود طويلة.
صورة أميركا في هذا الكتاب ليست وادي السيلكون، ولا نيويورك، وواشنطن العاصمة، وعواصم الولايات الزاهرة، ولا برج ترامب. وعلينا تصديق أننا نرى وجهاً إضافياً لوجوه أميركا المحتملة، ولعل في عدم نجاح الكثيرين (بما في ذلك كبار المحللين في مراكز الأبحاث واستطلاعات الرأي الأميركية والغربية) في قراءة ملامح الوجه الجديد، ما يفسّر وقع المفاجأة بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات.
ولكن: كيف تمكّن صاحب البرج من تجنيد أميركا المجهولة هذه، وأقنعها باستهلاك بضاعته؟ ولعل في السؤال ما يأخذنا إلى كتاب ثالث صدر في أغسطس (آب) من العام الحالي بعنوان “ترامب: أضخم استعراض في العالم” لواين باريت. وهذا ما سنعالجه في مقالة لاحقة، ونخرج به، ومنه، بخلاصة عامة تتصل بما يستحق التفكير والتدبير.
khaderhas1@hotmail.com