ربما من البداهة القول أن العقل الديني الإسلامي بعامة وفي مجمل مراحله التاريخية وفي مختلف انعكاساته وانتماءاته المذهبية، يميل إلى اليقين والقبول تلقائياً بالأسبقيات اليقينية، نابذاً من قاموسه وأدبياته وأسلوبه وثقافته منهج الشك بجميع مستوياته وتدرجاته وطرائقه، ولذلك استمرَ العقل الديني يحمل وبثبات الأسبقيات اليقينية والاعتقادية الخاصة به، ينتقل بها من مرحلة إلى أخرى ومن جيل إلى آخر، وعادةً ما يعتمد العقل الديني في حمل ونقل أسبقياته اليقينية والنصية للأجيال والأزمان المتعاقبة من خلال اعتماده على أساليب التلقين والشفاهة والتكرار اليقيني، ولن نجد مثلاً أن هناك فرقاً في ما تناوله وما ظلّ يتناوله العقل الديني من مفاهيمَ أسبقية خاصة به من بداية تاريخه وإلى يومنا هذا، بحيث لم تتأثر تلك المفاهيم بتطور وتحول وتبدل وتغير الأزمنة والظروف والبيئات والعلوم الإنسانية والمناخات الثقافية والفكرية، ولو أخذنا مثلاً على ذلك مبدأ (الشورى) في العقل الديني منذ القديم وإلى اليوم، نجده هوَ ذاته كإطار كان يهدف إلى تنظيم العلاقات في الحياة السياسية لم يتغير ولم يتطور، وأيضاً لم يتم التخلي عنه، على اعتبار إنه لا يتناسب مع مفاهيم التطور الإنساني العصري في انجاز الديموقراطيات الحديثة، ومع ذلك بقيَ في العقل الديني نموذجاً للمثالية والأفضلية والحالة الحياتية التكاملية، وربما يجب أن يخضع هو الآخر لمقياس (التقوى) حسب المفهوم الديني الخاص فيه، بينما الواقع يقول أن الكثير من تيارات العقل الديني الحالي وجدت في الأسلوب الديموقراطي الغربي مرحلة مؤقتة للإنتقال تالياً نحو تطبيق مبدأ (الشورى) الديني في حال تمكّنها من أسلمة القوانين والدساتير وتديين الحياة العامة كما تعتقد وتتصور، رغم الاختلاف الواضح بين الشورى كمفهوم ديني محدود، وبين الديمواقراطية كثقافة وسلوك ونظام، إذ أن الأخيرة خضعت للتجريب الميداني والواقعي، فضلاً عن إيمانها بالتعددية السياسية والدينية والحريات المدنية وحقوق الأقليات والقانون الوضعي، والأهم فإن الديموقراطية تنزع من جميع الأطراف المتشاركة ثقافة العنف كما يقول الدكتور شاكر النابلسي، لأنها تؤمن بالحوار أساساً للتواصل والبناء والتفاهم وخلق الحلول والبدائل وتوفير الاختيارات، بينما نرى أن ثقافة العنف ركناً أساسياً في بنية العقل الديني..
وبقيَ العقل الديني في تعاقباته الزمنية يكرس دائماً التراكمية اليقينية، ويكرس الأسبقيات اليقينية المحكومة بصفة القداسة والتنزيه والأسطرة، فالعقل الديني في الأساس هو عقل تراكمي، ينهل من أسبقياته اليقينية ذاتها، ويدور في مداراته النصية الماضوية، ولذلك لم يخرج من حدود تفسيره لآيات القرآن والحديث والروايات وعلوم الفقه واللغة فقط، وأصبح أسيراً للنص الديني، منشغلاً بتفسيره وتطبيقه والدوران فيه، وأخذ يبرر العقل الديني وجوده وأفضليته وأحقيته ودوامه من خلاله، غير منفتح على الإنساني وعلى منهجية الشك والتساؤل، ومتوجسٌ بطبيعته الاحترازية والدفاعية والعدائية من الجديد والطاريء والمتغير، ولذلك بقيت هذه التراكمية تنتج وتكرر الإجابات اليقينية الجاهزة والمعلبة والمبرمجة على تساؤلات الإنسان المنتمي لمدرسة العقل الديني، ولا تتعاطى بالتالي هذه التراكمية مع مباحث واستنطاقات وتساؤلات ومستويات الشك الإنساني، لتفكيك وتشريح وتقليب مفاهيمها وتراكماتها الثقافية واليقينية..
وكما هو معروف فإن العقل البشري المنعتق من سلطة اليقينيات الإطلاقية من خلال انفتاحه التفكيري على الاحتمالات كلها، ومن خلال نظرته النسبية وليسَ المطلقة إلى الحقائق والأمور، ينزع دائماً نحو التفكير والتساؤل، ويجد في اثارة الشك والتساؤل سبيلاً لفهم الأمور على أسس نسبية ومنطقية وعقلانية وفلسفية، بينما العقل الديني وجدَ في اليقين سبيلاً ربما لإراحة العقل من قسوة الأسئلة الحائرة ومن تزاحم التساؤلات ومن اتجاهات المنطق والفلسفة، وبالتالي الاستسلام للأسبقيات اليقينية، ولذلك فالإنسان الذي استطاع أن يهضم استحقاقات الحداثة، والتي هي بطبيعة الحال صعبة جداً على أن يهضمها ويتقبلها العقل الديني، كما يقول الدكتور أحمد البغدادي، أقول مَن استطاع أن يهضم ذلك هو الإنسان الذي تحرر من سلطة اليقينيات النصية ومن حاكمية الأسبقيات الاطلاقية ومن هيمنة الموروثات الماضوية، فقطع بذلك أشواطاً كبيرة في تحقيق مباهج الحضارة وانجازاتها الفكرية والثقافية، ومن ثمَّ المضي فيها قدماً من دون الدوران والحفر والتجميد في الفراغات الماضوية والقوالب اليقينية، ولذلك علينا أن نفهم لماذا العقل الديني يحارب التجديد والحداثة والحريات والانفتاح والتعددية الفكرية والدينية، لأنه يعجز عن تقبلها واستيعاب مستوياتها ويعجز عن معايشتها والتفاعل معها، فيغرق في استثارة وتكرار ماضوياته النصية التراثية..
والعقل الديني عليه أن يكون منخرطاً في العقل الجمعي الديني الذي يتأسس دائماً وفق البيئة الحاضنة لأسبقياته اليقينية، ومندرجاً تلقائياً تحت تفسيراته، وملتزماً بأحكامه وبمساراته واعتقاداته، وفي الأساس فإن العقل الديني والعقل الجمعي الديني يشتركان في صناعة بعضهما البعض، لأن طبيعتهما وبنيتيهما وتركيبتهما وتوجهاتهما جماعية، ويبقيان محكوميْن بها، ومحتكمان إليها، ويحققان شرعيتهما وهويتهما ووجودهما في المجموع والجماعية والشمولية العقائدية، ولذلك فالعقل الديني لا يتمتع بالحس الفرداني الذاتي، ولا يملك فردانية فكرية مستقلة، ولا يستطيع أن يخلق باستقلالية حسه وصوته الداخليين، وليسَ وارداً في قاموسه الخروج عن منطق الجماعية والعقل الجمعي، بل يجد نفسه دائماً في أن يكون صورة طبق الأصل عن المجموع والعقل الجمعي، ولذلك فالعلاقة بينهما تبادلية وثيقة ومتجذرة، محكومة دائماً بالانغلاق عليهما فقط، ومندرجة في دوائرَ اجتماعية وتنظيمية تتغذى على المشتركات نفسها اليقينية والثقافية فيهما، ويبقى الأثنان يحاربان طويلاً من أجل أن تبقى العلاقة بينهما محكومة بالمرجعيات والأطر اليقينية ذاتها، وقائمة على أساس حماية أسبقياتهما اليقينية والموروثية من الشك أو الخدش أو التصدع أو الاهتزاز، ويحاولان دائماً أن يبتعدا من كل ما يقودهما إلى الشك والتساؤل، لكي لا يُبعدهما ذلك عن مستوى اليقين الذي وصلا إليه، وهذه العلاقة الانغلاقية بينهما بطبيعتها قاتلة للشك، وقامعة للاستقلالية، وطامسة للسؤال، ومتوجسة من تموّجات التغيير والتحول والتطور..
ولأن العقل الديني واقعٌ تحت هيمنة ماضوياته النصيّة ومنشغلاً بها ومُكرراً لها، نجده يحصر المعرفة في حدود النص الديني، متصوراً أن النصوص الدينية التراثية أساس كل معرفة ورأس كل حكمة، ولا يستطيع العقل الديني أن يهضم المعرفيات الفلسفية الإنسانية إذا لم تكن متساوقة مع النص الديني، فيحاول بكل ما يستطيع أن يجد لها تفسيراً دينياً مثلاً، أو أن يسبغ عليها اللون النصّي الديني، وحتى حينما حاولَ (ابن رشد) من خلال نظرته إلى الأمور أن يخلقَ تصالحاً بين الدين والفلسفة على أسس معرفية وعقلانية، كان أن أغلقوا عليه الأبواب والنوافذ، وأجهضوا محاولاته برجوعهم الانغلاقي إلى اليقينيات المطلقة، وليسَ خافياً ما أسرَّ به (ابن سينا) ذات يأس وضجر من استحالة أن يتوافق العقل الديني مع العقل الفلسفي، بعد أن وجدَ في المعارف الإنسانية الفلسفية مساحات فسيحة ورحبة تتسع للتساؤل والتفكير والشك والنقد والتغيير، بينما العقل الديني يحاول دائماً أن يحصر المعرفة قدر ما يستطيع في حدود ما يسمح به النص الديني، وعليهِ نستطيع أن نفهم كيف أن المجتمعات المنفتحة والهاضمة لقيم الحداثة قد وصلت إلى ما هي عليه اليوم، وما تطمح وتسعى إليه في الغد، بعد أن حاربت كثيراً في ميادين الثقافة والفكر والفلسفة لنيل حريتها التفكيرية والنقدية والفلسفية من هيمنة الأسبقيات اليقينية، استرشاداً بالومضات والجهود الفكرية والفلسفية لديكارت وكانط وفولتير واسبينوزا وغيرهم..
والعقل الديني لم يزل غارقاً في يقينياته التهويمية، تلك التي تزامنت قديماً مع طموحاته السياسية والشرعية الدينية، وأصبحت كل مساعيه وأمنياته وأهدافه في الحياة تتمحور حولها، وتحولت هذه اليقينيات إلى مفاهيمَ ذهنية متصلبة في بنية العقل الديني، ومن ضمنها المفهوم الذي يتعلق بتحقيق دولة (الخلافة الإسلامية) التي يجب أن تحكم العالم، وإذا ما توجهتَ بالسؤال إلى أحدهم : هل تتمنى أن يصبح الناس في أوروبا والغرب (الكافر) مسلمين، وبالتالي ترفرف على ربوعها رايات الخلافة الإسلامية.؟ أقول إذا ما توجهتَ بهذا السؤال مثلاً إلى كل مَن يندرج تحت إطار العقل الديني المؤمن بتلك اليقينيات، كما فعلتُ أنا مراراً وتكراراً معهم حينما صادفتهم خلال فترة مكوثي القصيرة في السويد، لوجدتَ الإجابة التلقائية منهم : نعم كبيرة، لا شك فيها ولا تردد، وفي مقابل ذلك، هناك أيضاً مَن يؤمن بجموح يقيني عاطفي بالمفهوم الديني التهويمي الآخر، وهو (الدولة الكريمة) التي تترافق مع ظهور الإمام الغائب، رغم إنه يعيش في أوروبا والغرب، متنعّماً فيها بحياة آمنة وكريمة تحترم إنسانيته وكرامته واختياره ومتمتعاً فيها أيضاً بحريته الدينية، وبطبيعة الحال ستبقى كل هذه اليقينيات التهويمية والمفاهيم الهلامية متحكمة بالعقل الديني ومستحوذة عليه، إذا لم يحاول أن يضعها تحت الشك والتساؤل والنقد والتفكير العقلاني..
tloo1@hotmail.com
كاتب كويتي