الجميع يسأل: هل بدأت الفتنة أم لا؟ هذا يتعلق بالمعنى الذي نعطيه للفتنة، هل هي اندلاع العنف ام التهيئة، والظروف المواتية لاندلاعه؟ هل الفتنة تقع ساعة نحمل السلاح ونطلق منه على “شقيقنا- العدو”؟ ام حين تقع “الحرب النفسية” زارعة الاحقاد ومطلقة الغرائز ؟
فالخوف الذي يسود الجمهورية من تهديدات ومخاطر تملأ الجو يزيد من احتمالات الفتنة ومن انعدام السبل أمام الهرب من المصير المتربص باللبنانيين نتيجة ما يحدث في سوريا. ولقد حوّل الانخراط في ما يجري فيها أخيراً الخوف الى بارانويا. فما نلاحظه حولنا حالة نفسية متطرفة معمّمة أصابت الادراك والحس السليم ما بدأ يظهر في انماط من السلوك المتطرف نتيجة الفلتان الأمني والشعور بالاضطهاد الذي يسود اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم ومذاهبهم” المتعايشة”.
ولو كان الخوف اللبناني على بعض الاعتدال لكنا أمَّلنا بابتكار حلول متعقلة. لكنه خوف متطرف ذلك الذي يتفشى فينحو بالأطراف نحو العزلة والانطواء عن بعضهم البعض وهذا ما يهدد بانفجار العنف والاتجاه نحو الانتحار.
الخوف يعمّ الجميع، لكن بيئة “حزب الله” هي الاكثر قابلية للخوف مع التورط المفتوح للحزب في سوريا، الخوف إضافة الى التناقض الوجداني تجاه المسألة؛ من ناحية ينفون وجود الحزب في سوريا، لكن زلاّت اللسان سرعان ما تفلت: تريدون ان نترك سوريا للأصوليين والسلفيين؟ لقطر والسعودية؟ يصبح الحزب فجأة مسؤولاً عن سوريا وأمنها ظاناً ان مقاتليه قادرون على قتال “الشعب” السوري الثائر بملايينه”!!
بعض القريبين من الحزب يجرّهم تعصّبهم لتضخيم التهديد (تاريخياً) وانهم سوف يُهجّرون (بمعزل عن ممارساتهم واستقوائهم) من لبنان في بواخر تنتظر قبالة الشاطئ! لكن البعض سوف يستبقون تلك اللحظة، فعندما يصل التأزم والعنف الى ذروته سوف يهاجرون. والى أين؟ الى كندا أو أي بلد غربي!! لديهم مرقد عنزة فيه! لم أسمع من أحد منهم رغبته بالهجرة الى ايران! وسبق ان مرّ المسيحيون بالعوارض نفسها في الثمانينات ونعرف تماماً حروب الالغاء المتعددة الاتجاه التي نتجت عن هذا الخوف.
موضوع الخوف في النظم التوتاليتارية واضح ويتعلق بالضبط بالقمع والتهديد بالعقاب او الموت. لكن في الوضعيات الاخرى، كما في لبنان “الديموقراطي” ليس الامر بهذا الوضوح. جميعنا نراقب ما يحصل على الارض من حوادث متوالدة ونتابع دور الاعلام في تضخيمها ودور البروباغندا في تحوير الوقائع باستخدام الكذب وغسل العقول. وهذه هي بالضبط الآلية المستخدمة لممارسة الرقابة على العقول وضبط ما يفكر فيه الناس فيصبح ما هو افتراضي واقعياً ومخيفاً. وهذه التكتيكات تحوّل الخوف تعصّباً أعمى.
ولمن يتساءل من مريدي “حزب الله”: لماذا الآن حصلت ظاهرة الأسير وما هو مرشح غيرها؟ فـ”حزب الله” بالنسبة لهم متواجدهناك منذ مدة (ولأن طبيعته تتطلب انتشاره على جميع الأراضي اللبنانية!!)، الاجابة هي في أن الحضارة في زمن الحروب هي مجرد طلاء سطحي سرعان ما يزول أمام الاستعداد الدائم لظهور النزوات المكبوتة فتبرز نزوة الهدم وإرادة السيطرة على الخصم بكل الوسائل المتاحة وهذا ما يفسر غرق الحزب في سوريا. اما من جهة الخاضِع (السنّة والشعب السوري الثائر وجيش التحرير…) فالرغبة بالحصول على الاعتراف من قبل الخصم تجعله يتغلب على شعوره بالعجز والاهانة المتولدتين من عنجهية الخصم واستقوائه اللتين منعتاه طويلاً من المواجهة. ومن هنا برزت تضحية “الكاميكاز” في الحرب العالمية الثانية.
وبحسب فرويد يتعصّب الشخص كي يحارب الشعور بانعدام الامان، والخوف من الآخر والشعور بالعجز الذي لا يعترف به او يتحمله. تعصّبه يريحه إذ يضع كل شيء في مكانه دون غموض: خير وشر، صديق و عدو. ينظّم الكون بهذه الطريقة ويعيد خلق الواقع مدخلاً نفسه في دائرة القناعة التامة. المتعصب لا يتساءل لأنه “يعرف”. يشعره هذا العمل الذهني بأنه صاحب قدرة كلية ما يخلّصه من الشرط الانساني او الضعف ويتخلص من إحباطاته ويتعدى حدوده. لكن التفسيرات النفسية لا تكفي لتبرير التعصب. إن التشريط والانقطاع عن العالم الخارجي وتمجيد المثال وشيطنة العدو وتعظيم التضحية من أجل القضية… كلها ضرورية من أجل إسكات الحس النقدي. ونحصل بهذه الطريقة على “روبو” إنساني مستعد للموت من أجل إتمام رسالته.
المتعصبون مسحورون بالقوة والسلطة والسيطرة ما يجعلهم يفضلون اتّباع قائد يجسد لهم هذه الصورة المثالية التي تطمئنهم. ان سلطة القيادة المزعومة او سلطة العقيدة تكفي لكي تبرر في نظر العديد منهم أي سلوك لاعقلاني او بربري. لأنهم يتخلون بسهولة عن مسؤوليتهم الشخصية ويتركونها للقائد الفذ. ما قد يؤدي الى غياب كلي او جزئي للحس الاخلاقي المعتاد؛ فموضوع عبادة المتعصب يجتاح مساحة الضمير كلها ما يجعل السلوك المتطرف هو الطاغي في كل مرة يتعلق الامر به.
والتعصب قد يطاول أي شخص بمن فيهم الأشخاص الأذكياء والمتعلمون والعقلانيون وجميع الطبقات بمن فيهم الحاصلون على امتيازات اجتماعية او ثقافية وفي كل الحقب والحضارات. يبدو أن لا أحد قد ينجو من هذه اللوثة. وقد يكون المتعصبون ذوي مظهر سوي وساحرين تجاه الاصدقاء والمحيط فخارج هذه الدائرة يمكنهم التفكير بمنطق ولديهم الحس السليم في الاوقات العادية، لكنهم يصبحون عرضة للهذيان والجنون التعصّبي عندما تُطال الجماعة التي ينتمون اليها او العقيدة التي يؤمنون بها.
لكن من ناحية أخرى يقودنا انعدام القدرة على سماع ما يخالف اقتناعاتنا او افكارنا الى تفضيل الغوص في الغلط على الاعتراف به كخطأ، لأنه في حال مواجهة الحقيقة، يخاف (على المستوى اللاواعي) من الشعور بالخجل أو التحقق من أنه استُغِلّ فيصبح عندها عدوانياً خاصة عند بروز تهديد يحمل خطر كسر واجهة يقينياته. قد يذهب المتعصب الى حد الانتحار كي لا يوضع معتقده موضع الشك. وانخراط “حزب الله” في الحرب السورية هو المثال على ذلك.
ما قد يفسر الاستعداد للوقوع في التعصب توافر بعض الشروط: الجرح النرجسي غير المقبول والخوف من المجهول والخضوع المفرط وثقل التوظيف ونقص الشجاعة وبعض الكسل الفكري وحتى عدم الامانة الفكرية او الحفاظ على المصالح، لكن أيضاً الغرور والثقة الفائضة بالنفس وفائض الشعور بالقوة. على خلفية التشريط والامتثال والتبعية والخضوع لرأي الغالبية.
برهن عالم النفس آش أن الفرد في مواجهة الغالبية يفضل عادة الامتثال لها حتى ولو كان يشك في انها على خطأ. وهذا ما يسمى الاستتباع. ان الثمن المدفوع لقاء معارضة الجماعة اكثر كلفة. هذا اضافة الى الرأي الشائع المتداول من ان الاقلية عاجزة عن مواجهة الاكثرية. الفرد لا يتجرأ على معارضة الجماعة بأكملها خوفاً من مواجهة معها. كما ان حجم الجماعة ومدى جاذبيتها يؤثران على التبعية وعلى اقتناع الفرد. والفردانية غالبا ما تذوب في قلب الحشد الكبير والشغوف لصعوبة مقاومة الضغوط الايديولوجية والاخلاقية لهذا الحشد. ويستمد الفرد عند التصاقه بهذا الحشد الشعور بالقوة والتفوق وينغمس في الحماسة والمجد.
لبنان الآن غارق بكليته في هذا الحمام من الخوف والتعصب. بلد تجمع الأقليات نجدها فيه تتجمع على هدم الوطن الوحيد الذي سمح لهذه الاقليات بأن تحافظ على وجودها وخصوصياتها وحقوقها. فالكلام يسري بصمت عن تحالف الاقليات الضمني بين الأقليتين الشيعية والمسيحية (والعلوية في سوريا) خوفاً من طغيان السنيّة السياسية “المنتصرة”!! (الى حين) في مصر وتونس، ونقل عدوى انتصاراتها الى سنّة لبنان هذا إضافة الى اعتبار البعض ان ما يجري في سوريا هو مجرد مؤامرة على العلويين!! من السنّة والغرب.
اللبنانيون الذين صعدوا الى أعلى غصن في شجرة التعصب والخوف يقطعون الغصن الذي لجأوا اليه وهم يتفرجون. هذا التحالف يعمل دون ان يدري على هدم الهيكل الذي سمح بوجودهم وحافظ على حقوقهم. فاسطوانة حرمان الشيعة، واسطوانة الأقليات والحقوق عند المسيحيين بتغافل أعمى عن الامتيازات التي وفّرها لهم لبنان، مع إمكان مفتوح لتحسين حقوق المواطنة للجميع بالتساوي، سوف تذهب بالجميع.
غالبا ما نشعر تجاه المتعصبين بالعجز. ان طريق التغلب على التعصب طويل وصعب وغير مكسوب حكما. فالمتعصب لا يحلل الوقائع الحاصلة في العالم إلا انطلاقاً من شبكة مبسّطة نسبياً واختزالية.
يحتاج المرء الى امتلاك جرعة كافية من الحس النقدي المكتسب من التربية ومن التجارب كي يضع هذه اليقينيات موضع تساؤل. ويحتاج الى جهد كبير والى بعض المسافة كي لا يبتلعه التعصب السائد.
monafayad@hotmail.com
استاذة جامعية- بيروت
نُشِر في “النهار”