في معظم البلدان يعتبر انخفاض العملة بنسبة 95٪ بمثابة جريمة طرد لمحافظ البنك المركزي، باستثناء لبنان، الذي كان بحلول أواخر عام 2021 يعاني من أزمة مالية طاحنة لمدة عامين.
وعندما سُئل رئيس الوزراء نجيب ميقاتي عما إذا كان الوقت قد حان لاستبدال رئيس مصرف لبنان منذ فترة طويلة، كانت إجابته واضحة: “لا يغير المرء ضباطه أثناء الحرب”.
اليوم يتم تداول الليرة اللبنانية بحدود 90 ألف ليرة للدولار، وتقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 40٪ منذ عام 2018. وبعد ثلاثة عقود من إدارة البنك المركزي، رحل رياض سلامة عن منصبه أخيرًا في 31 يوليو، ولم يتم الإعلان عن بديل دائم، لكن ميقاتي مع ذلك رفض تمديد فترة ولايته.
ذات مرة أطلق مؤيدو على سلامة لقب “الساحر” لأنه احتفظ بعملة مستقرة في بلد غير مستقر، مثل كل الحيل السحرية، فإن وهم “سلامة” يتطلب من الجمهور ألا ينظروا عن كثب: القصة ليست مجرد قصة فشل شخصي ولكن أيضًا حكاية بلد يرفض فيه السياسيون تحمل مسؤولية السياسة.
بدأ الانهيار في عام 2015، حيث أضر عدم الاستقرار الإقليمي وانهيار أسعار النفط بالتدفقات الوافدة، لجذب ودائع جديدة، بدأ السيد سلامة مخططًا يُعرف باسم “الهندسة المالية”، حيث دفع مصرف لبنان أسعار فائدة أعلى من أسعار السوق لاقتراض الدولارات من البنوك التجارية، والتي بدورها قدمت معدلات فائدة سخية للمودعين.
لبعض الوقت، كان الجميع سعداء: لقد قام البنك المركزي بتعبئة احتياطياته الإجمالية، في حين تمتعت البنوك وعملائها بأرباح جيدة، ولم يسأل أحد في السلطة شيئاً.
يقول أحد مساعدي سلامة السابقين إن الحاكم لم يقدم “الهندسة المالية” إلى اللجنة المركزية لمصرف لبنان للاطلاع عليها، كما لم يقم البرلمان بأي رقابة.
في عام 2018، حاول عدد قليل من المصرفيين والاقتصاديين دق ناقوس الخطر، أعلن السيد سلامة أن الليرة اللبنانية “بألف خير”، ومعظم اللبنانيين صدقوا كلامه.
لكن بعد مرور عام، بدأت ودائع البنوك التجارية تتقلص، ولم يعد هناك ما يكفي من المال الجديد لسداد الالتزامات القديمة.
بحلول كانون الأول (ديسمبر) 2019، لم يعد بإمكان السيد سلامة التظاهر، فتخلت الليرة عن ارتباطها بالدولار، وتراجعت قيمتها إلى ألفي ليرة للدولار. وعندما سأله مراسل تلفزيوني عن المكان الذي سيتوقف فيه ذلك، هز كتفيه قائلاً: “لا أحد يعرف”.
ومع ذلك لم يجرؤ أحد على إقالته، وأقام سلامة علاقات وثيقة مع النخب السياسية والتجارية والإعلامية في لبنان، ومع رعاة أجانب أقوياء مثل أمريكا وفرنسا، كانت له السلطة في إصدار سلسلة جنونية من المراسيم التي تمول الإعانات، وفرضت ضوابط على رأس المال، وسعت إلى إدارة سعر الصرف، كل ذلك أضر بالمودعين، وانخفضت الاحتياطيات الأجنبية للبلاد من 31 مليار دولار في 2018 إلى 10 مليارات دولار حتى مع انهيار العملة.
الخطأ الأكثر وضوحًا في السياسة هو منصة “صيرفة”، وهي منصة إلكترونية لتبادل العملات الأجنبية تهدف إلى ترويض السوق السوداء المتنامية ووقف التقلبات الجامحة في الليرة.
من الناحية العملية، كان بمثابة هبة للبنوك والمستوردين والنخب الثرية الأخرى، حيث يقل معدل صيرفة باستمرار عن سعر السوق السوداء بحوالي 20٪، ويمكن لأي شخص لديه حق الوصول إلى المنصة شراء الدولارات بسعر مخفض وإعادة بيعها في السوق الموازية، وقد قدر البنك الدولي في أيار (مايو) أن مثل هذه المرواحة ذهابًا وإيابًا قد حققت أرباحًا بقيمة 2.5 مليار دولار (على حساب مصرف لبنان).
لا يعني ذلك أن أي شخص آخر اتبع أفكارًا أفضل، فمثلاً حسان دياب، رئيس الوزراء السابق، صاغ خطة إنقاذ لائقة لكن المصرفيين ونواب النواب منعوا ذلك، وبعد ثلاث سنوات من محادثات الإنقاذ مع صندوق النقد الدولي، لم يقر البرلمان بعد خطة إعادة هيكلة لمصارف لبنان المتعثرة، حتى الأفكار السيئة، مثل بيع أصول الدولة لإعادة رسملة البنوك، لم تتقدم إلى ما هو أبعد من الحديث.
ويوجد في مصرف لبنان أربعة نواب للمحافظ، يخضعون لقواعد تقاسم السلطة الطائفية في لبنان من أربع طوائف مختلفة، وفي أوائل شهر يوليو هددوا بالاستقالة إذا انتهت ولاية السيد سلامة دون بديل، وتراجعوا منذ ذلك الحين وقدموا بعض المقترحات السياسية السليمة، من بينها إلغاء مخطط صيرفة.
ومع ذلك، فإن الكثير مما يقترحونه يتطلب موافقة السياسيين الذين لا يستطيعون الاتفاق على أي شيء فلبنان الذي يعاني فراغاً في رئاسة الجمهورية منذ أكتوبر تشرين الأول رغم 12 محاولة لاختيار واحد في البرلمان.
إضافة لذلك، اللواء عباس إبراهيم، رجل الأمن القوي، أنهى فترة ولايته في مارس.، هو أيضا لم يتم استبداله، وهناك شاغر آخر يلوح في الأفق في يناير، عندما يتقاعد جوزيف عون، قائد الجيش، ويبدو أن البلد ينهار ولا أحد مسؤول.
أما بالنسبة لسلامة، فمن غير المرجح أن يكون تقاعده هادئًا، حيث تقوم السلطات في بلجيكا وفرنسا وألمانيا وليختنشتاين ولوكسمبورغ وسويسرا بالتحقيق معه في قضايا فساد، وهو متهم بسرقة ما يصل إلى 330 مليون دولار من البنك المركزي، ويزعم المحققون أن بعض الأموال انتهى بها المطاف في الحسابات المصرفية السويسرية لأخيه وأن مبالغ أخرى استخدمت لشراء عقارات في جميع أنحاء أوروبا.
ولكن سلامة ينفي الاتهامات، قائلاً إنه ترك وظيفة سابقة في ميريل لينش في عام 1993 بمبلغ 23 مليون دولار واستثمرها بحكمة.
في مايو / أيار، أصدر قاض فرنسي مذكرة توقيف دولية بعد أن فشل في الحضور لجلسة استماع، كما قدمت ألمانيا إشعارًا أحمر إلى الإنتربول، ولا يشترط القانون اللبناني تسليمه، ويعتقد العديد من المراقبين أن القضاء في البلاد مسيس للغاية بحيث لا يمكن محاكمته في الداخل، ومع ذلك، كما يقول أحد المساعدين السابقين بصراحة، “إنه مكروه”.
ولكن ربما يستخدم الساحر “سلامة” خدعته الأخيرة في أداء حيلة الاتفاء!