للمرّة الاولى منذ العام 1979، هناك ترجمة أميركية على الارض لما هو معروف في واشنطن عن ايران. من هذا المنطلق، تبدو عملية تصفية الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري”، الذي يلعب دورا اهمّ بكثير من قائد “الحرس الثوري”، حدثا استثنائيا لا بدّ من ان تكون له انعكاساته على صعيد المنطقة كلّها، بما في ذلك دول الخليج العربي.
ستكون للحدث ايضا انعكاساته من بيروت الى دمشق، الى بغداد… الى طهران نفسها، مرورا بالطبع بصنعاء التي تحولت بدورها، بفضل الحوثيين، الى رهينة من الرهائن التي تحتفظ بها “الجمهورية الإسلامية”.
منذ احتجاز ديبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران، في تشرين الثاني – نوفمبر 1979، لم يحصل أي ردّ أميركي حقيقي على ايران. مع احتجاز ديبلوسيي السفارة، لمدّة 444 يوما، بدأت تظهر الملامح الحقيقية للنظام الايراني الجديد الذي اسّس له آية الله الخميني الذي ما لبث ان استبعد كلّ من له علاقة بايّ نوع من الفكر الليبيرالي، أي بما هو حضاري من قريب او بعيد في هذا العالم. مع احتجاز الديبلوماسيين الاميركيين ايضا، بدأ حكم “الحرس الثوري” الذي ما زال مستمرّا الى اليوم، وهو حكم يقوم على تصدير الازمات الداخلية لإيران الى خارج حدودها تحت شعار “تصدير الثورة”. انّه شعار عانى منه كلّ بلد عربي تقريبا وتسبّب بين ما تسبّب به بحرب السنوات الثماني العراقية – الايرانية، وهي حرب دفعت المنطقة كلّها ثمنا كبيرا لها. بل يمكن القول انّها حرب استنفذت ثروات المنطقة وتركت النظام العراقي في حال من اللاتوازن. جعلت هذه الحال صدّام حسين يقدم على مغامرته المجنونة بنتائجها المعروفة في الكويت صيف العام 1990.
استفادت ايران الخميني الى ابعد حدود من السياسة الاميركية المهادنة لها. لم ترد اميركا على تفجير سفارتها في بيروت في نيسان – ابريل 1983 ولم تردّ على نسف مقرّ المارينز قرب مطار العاصمة اللبنانية في تشرين الاوّل – أكتوبر من السنة 1983 أيضا. على العكس من ذلك، انصاعت للرغبات الايرانية وانسحبت من لبنان وتركت اميركيين يُخطفون فيه عبر أدوات محلّية إيرانية.
الى ما قبل دخول دونالد ترامب البيت الأبيض، كان كلّ شيء مسموحا لإيران، بما في ذلك تفجير موكب رفيق الحريري ورفاقه في شباط – فبراير 2005، مع ما تلا ذلك وسبقه من عمليات اغتيال طاولت اللبنانيين الشرفاء من سمير قصير وجبران تويني… الى محمّد شطح، مرورا ببيار امين الجميّل وجورج حاوي وانطوان غانم ووليد عيدو ووسام الحسن ووسام عيد وآخرين لعبوا دورا في مجال مقاومة تحوّل لبنان الى جرم يدور في الفلك الايراني وبيروت الى مدينة إيرانية على المتوسّط.
وسط كلّ هذه الاحداث التي تخللها تسليم اميركا العراق على صحن من فضّة الى ايران في العام 2003، كان هناك غضّ طرف أميركي عن السلوك الايراني. كان قاسم سليماني يسرح ويمرح في المنطقة. استطاع إبقاء بشّار الأسد في دمشق على الرغم من ثورة الشعب السوري عليه وعلى النظام الاقلّوي القمعي الذي اسّسه والده. استطاع أيضا تحويل العراق مجرّد مستعمرة إيرانية بالاعتماد على ميليشيات مذهبية ما لبثت ان فرضت احداها هيمنتها على لبنان وتسببت في تحويله الى بلد مفلس والى ارض طاردة لاهلها.
جاء الردّ الاميركي على التحرّش الايراني بسفارة الولايات المتحدة في بغداد لينهي حقبة في العلاقات الاميركية – الايرانية دامت أربعين عاما. كانت تلك حقبة السكوت الاميركي عن التصرّفات الايرانية. كان مسموحا لإيران ان تعيّن رئيس الوزراء العراقي، وان تقلب الطاولة على الشعب السوري مستعينة بـ”حرسها الثوري” وميليشيا “حزب الله” اللبنانية وميليشيات مذهبية عراقية وافغانية وباكستانية. صارت ايران بعد 2016 تقرّر من هو رئيس جمهورية لبنان المسيحي وتحدّد من سيخلف سعد الحريري في موقع رئيس الوزراء. صارت تحدّد قانون الانتخابات في لبنان الذي يوفّر لـ”حزب الله” كلّ ما يريحه. فوق ذلك، لم تتردّد ايران في قصف منشآت “أرامكو” في السعودية قبل اشهر قليلة غير مكترثة بانّ ما قامت به ليس اعتداء على المملكة فحسب، بل هو اعتداء على الاقتصاد العالمي أيضا.
جعل السكوت الاميركي من قاسم سليماني بطلا لا يقهر، خصوصا بعدما اعتبر الرئيس السابق باراك أوباما انّ الملفّ النووي الايراني يختزل كلّ مشاكل المنطقة وازماتها وانّ اميركا في الجيب الايرانية. في النهاية حصلت ايران في عهد أوباما، في مرحلة ما بعد توقيع الاتفاق في شأن ملفّها النووي صيف 2015 على ما يقارب 150 مليار دولار صرفتها في خدمة مشروعها التوسّعي الذي يشكلّ مقتل قاسم سليماني ضربة قاسية له.
صحيح انّ “المرشد” علي خامنئي سارع الى اختيار خليفة لقاسم سليماني هو نائبه إسماعيل قاآني، لكنّ الصحيح أيضا انّ فراغا كبيرا تركه رجل يعرف المنطقة جيّدا. فسليماني كان الحاكم الفعلي للعراق ولسوريا (بمشاركة روسية) وللبنان ولجزء من اليمن ولغزّة حيث لديه نفوذه المباشر على “حماس”.
لن تستطيع ايران التكيّف مع سياسة أميركية جديدة في أساسها العقوبات الاقتصادية والضربات المباشرة التي تستهدف مناطق حساسة تابعة لها ولميليشياتها ان في العراق وان في سوريا. من الواضح ان هذه السياسة ليست سياسة دونالد ترامب وحده بمقدار ما انّها تعبير عن توجّه لدى المؤسسات الاميركية، بما في ذلك المؤسسة الأمنية والعسكرية، التي ضاق ذرعها بالسلوك الايراني. هناك اميركا العميقة، اميركا التي لا يمكن الّا ان تنتقم ولو بعد مرور السنوات الطويلة، من قتل نحو 250 من جنودها دفعة واحدة في لبنان وكلّ مديري محطات “سي. آي. إي” في المنطقة في تفجير سفارة بيروت في العام 1983.
اكّدت اميركا لإيران، عبر تصفية قاسم سليماني بالطريقة التي جرت تصفيته بها، ان هناك الثواب والعقاب، وان البطل الذي لا يقهر لا بدّ ان يقهر. استمرّت فترة السماح أربعين عاما. انّها فترة طويلة دفعت خلالها، من دون ادنى شكّ، بلدان عربية عدّة بينها لبنان ثمنها غاليا. فبمجرّد اغتيال رفيق الحريري في 2005، فقد لبنان توازنه.
قبل ذلك، سقط العراق. وبعد ذلك تفتت سوريا وتشظّى اليمن.
لقاسم سليماني فضل كبير في كلّ ما شهدته تلك البلدان العربية من مآس. هل يعيد خروجه من المسرح الامل؟ الكثير سيعتمد على ما اذا كانت ايران ستستعيد وعيها وتتصالح مع المنطق والواقع وتقتنع بان مشروعها التوسعى انتهى وان اميركا تغيّرت.
لم يعد لدى ايران من خيار غير الاعتراف بهزيمتها. هذا ليس عيبا اللّهم الّا اذا كانت تفضل سياسة الانتحار على كلّ ما عداها.