الوضع المستجد حول النيل يدلل على أهمية تجميع مصر لطاقاتها وإجراء المصالحة الوطنية فيها وتقوية دورها لمواجهة التحديات.
بدأ الزمن العربي العسير في يونيو 1967، وتهاوى النظام الإقليمي العربي مع الدخول الأميركي إلى بغداد في 2003. وحاليا في حقبة الزمن الرديء يتأكد الانكشاف الاستراتيجي العربي من حوض وادي النيل (تهديد الأمن المائي والاستقرار من أزمات السودان إلى سيناء وليبيا) إلى حروب سوريا والعراق التي تنخر المشرق الذي تبقى فيه الدولة الفلسطينية سرابا، مرورا بمنطقة شبه الجزيرة العربية التي تتعاظم حولها المخاطر من حرب اليمن إلى أمن الخليج ووضع سوق الطاقة. ولا تشذ الدول العربية في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي عن تداعيات انعدام الحصانة الذاتية في أكثر من مكان، ومساعي القوى الإقليمية والعالمية الأخرى لفرض معادلاتهم على مقاربات أمن المواقع العربية في غياب الحد الأدنى من آليات الاندماج نتيجة انهيار الكثير من الدول المركزية وعدم الرغبة في التنسيق بين البعض وعدم حسن استخدام عناصر القوة عند البعض الآخر.
في العام 2015، كانت عملية “عاصفة الحزم” في اليمن وتتماتها من المحاولات الجدية لإعادة بعض التوازن الاستراتيجي لصالح القوى العربية، وكانت مؤشرا لإمكانية وقف التوسع الإيراني ومنع طهران من الاستفادة من الاتفاق النووي كي تبسط نفوذها على أكثر من ساحة عربية. ومما لا شك فيه أن التدخل الروسي المباشر في سوريا منذ أواخر الصيف، كان منعطفا بالنسبة للقوى الإقليمية المعنية. في موازاة التحالف الحذر مع إيران (التي لم تتمكن لوحدها مع محورها من حماية النظام السوري) والتنسيق مع إسرائيل، تفاقم التوتر مع تركيا التي أخذت تنظر للمسألة السورية بمثابة تحد يمس أمنها الداخلي وحجمها الإقليمي.
ضمن هذا المشهد جهدت الرياض بالتنسيق مع أبوظبي والدوحة وأنقرة وقبول القاهرة، في مسعى تجميع المعارضة السورية في موقف يؤكد على الثوابت بخصوص شرعية الرئيس السوري مع عدم قطع الجسور مع موسكو. إلا أن هذا الموقف للملمة الوضع في سوريا، قابله رفع صوت جامعة الدول العربية ضد التدخل التركي في العراق مع تسجيل عدم سماع أصوات قوية ضد التدخل الإيراني المكشوف والمزمن في هذا البلد.
في نطاق جغرافي آخر، شهد العام 2015 بروز مخاطر “حرب مياه” حول النيل إذ أن اتفاق المبادئ الذي وقعت عليه مصر والسودان وإثيوبيا حول سد النهضة، يعد اتفاقا سيئا لأنه أقر ضمنا بتحويل سد النهضة من سد غير مشروع دوليا إلى سد مشروع قانونيا عبر تجاوز اتفاقية عينتيبي (1995 – 2007) وعدم تحديد الحصص والحقوق بين دول المنبع ودول المرور والمصب. والمثير للدهشة في هذا الإطار ما كشفه أحد الخبراء الموثوقين إنه “في حال إقدام إثيوبيا على ملء السد بشكل كامل منذ العام الأول لتدشينه، ستنضب مياه النيل لعام كامل”. العقد التقنية والقانونية متعددة في هذا الملف خاصة أن أديس أبابا تحت عنوان السيادة ترفض التفاوض الفعلي وتخرق الاتفاقيات الدولية حول الأنهار. وعدا هذا الاستعلاء الإثيوبي، هناك انعدام التنسيق الفعال بين مصر والسودان مما يزيد الطين بلة. بيد أن تطورا داخليا إثيوبيا يمكن أن يعطل خطط الحكومة، إذ تشهد البلاد موجة احتجاجات عنيفة منذ أسابيع يقوم بها شعب “الأورومو” (المكون المسلم أو الأقلية المسلمة في مملكة الحبشة سابقا) الذي يرفض مشروع نزع أراضي زراعية يملكها لصالح خطة تطوير العاصمة وذلك بعد نزع مساحات كبيرة أخرى لصالح بناء سد النهضة. بعض الأوساط ترجح تشجيع مصر لأقلية الأورومو التي يبلغ تعدادها 25 مليون نسمة من أصل 74 مليون نسمة في إثيوبيا. إذا كان ذلك صحيحا فلا يعد عيبا.
يدلل الوضع المستجد حول النيل على أهمية تجميع مصر لطاقاتها وإجراء المصالحة الوطنية فيها وتقوية دورها لمواجهة التحديات من البحر الأحمر إلى القرن الأفريقي وأعالي النيل، لكن من دون نسيان الخاصرة الليبية الضعيفة والمتفجرة وعدم إهمال ترتيب العلاقة مع السودان العمق الاستراتيجي لمصر.
إن تسليط الأضواء على مياه النيل ومستقبلها يبين بوضوح انعكاسات الانكشاف الاستراتيجي في التجاذبات حول الموارد وطرق المياه والنفط والغاز. ومن المفارقات اللافتة تمادي عدم التنبه لأهمية الموقع الجيوبوليتيكي الفريد في قلب الكرة الأرضية. إذ تحتضن الجغرافية العربية مجالا طبيعيا وبشريا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا يمتد من الخليج شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن البحر المتوسط شمالا إلى البحر الأحمر فالمحيط الهندي جنوبا، وتصل المساحة فيه إلى حوالي 13.6 مليون كلم2، تُقيم عليها كتلة سكانية تقدر بحوالي 360 مليون نسمة. وهي تتميز بوحدة المدى الجغرافي وبالتفاعل الكثيف بين وحدات النظام الإقليمي فيها. بيد أن ما أنعمت به الطبيعة لم يتمكن البشر من الحفاظ عليه، وكان لتبديد عناصر القوة وعدم إتقان
لغة الواقعية السياسية في ما يخص التوازنات والتحالفات ولعبة المصالح والحفاظ على الثروات، أكبر الأثر في الوصول لهذا الانكشاف الاستراتيجي. إزاء التدهور نحو الانحطاط لا بديل عن مشروع تجديد عربي نهضوي قبل فوات الأوان.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس