مثلما كان متوقعا طبقا لاستطلاعات الرأي، جاءت نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في اليابان في الثلاثين من أغسطس المنصرم والتي تنافس فيها 1374 مرشحا على 480 مقعدا، لصالح حزب المعارضة الرئيسي “حزب اليابان الديمقراطي” الذي حصل بقيادة زعيمه ” يوكيو هاتوياما (62 عاما) على 308 مقعدا من مقاعد الغرفة الثانية للبرلمان، فيما نال منافسه اللدود “الحزب الليبرالي الحر” على 119 مقعدا فقط، علما بأن الحزب الأول كان يستحوذ في البرلمان الذي حله رئيس الوزراء “تارو أسو” في يوليو الماضي على 115 مقعدا مقابل 300 مقعد للحزب الثاني. وبهذه النتيجة نالت المعارضة 68 مقعدا أكثر من العدد اللازم لكي تشكل حكومة دونما الدخول في ائتلاف مع أحزاب أخرى. لكن الحزب الفائز، رغم ذلك، سارع إلى إجراء مفاوضات مع عدد من الأحزاب الصغيرة والمتوسطة لإدخال رموزها في التشكيل الوزاري الجديد أو لتعيينها في المناصب الاستشارية والرقابية، وذلك ردا على من تنبأ بأن الحزب الفائز سوف يمارس الديكتاتورية بما صار لها من مقاعد ونفوذ في البرلمان الجديد.
وقد توقف الكثيرون من المراقبين والمحللين أمام هذه النتيجة للقول بأن انقلابا قد حدث في الحياة السياسية اليابانية، وبأن النتيجة تعكس رغبة اليابانيين في التغيير على النحو الذي حدث في الولايات المتحدة أثناء انتخاباتها الرئاسية الأخيرة في عام 2008، أي خلافا لما هو رائج عنهم من أنهم تقليديون وغالبا ما يتجنبون المغامرة أو حتى التصريح العلني برغبتهم في تغيير الشائع والدارج. والمعروف أن الحزب الليبرالي الحر الذي خسر انتخابات الشهر الماضي هيمن على الحياة السياسية في اليابان منذ عام 1955 فيما عدا فترة قصيرة جدا ما بين عامي 1993 و1994، رغم وجود عدد من الأحزاب الأخرى، بل وظهور أحزاب من رحم الحزب الليبرالي نفسه كنتيجة لانشقاقات في صفوفه.
أما البعض الآخر – من أمثال أستاذ الشئون اليابانية في جامعة كولومبيا الأمريكية البروفسور جيرالد كورتيس – فقد توقف عند الحدث للقول بأنه مقدمة لظهور الثنائية الحزبية في الحياة السياسية اليابانية. بمعنى وجود حزبين كبيرين يتناوبان على السلطة، وانتهاء احتكار الحزب الليبرالي الحر للحكم. ومثل هذا الكلام تردد حينما خرج الأخير لأول مرة من الحكم في عام 1993، ثم تردد لاحقا حينما أظهرت بعض الاستطلاعات تقارب الحزبين في الشعبية والنفوذ المالي، غير أنه سرعان ما أسدل الستار عليه بالخروج المؤلم لحزب اليابان الديمقراطي من الحكم قبل أن يكمل عاما واحدا في السلطة، وتحقيق الحزب الليبرالي لانتصارات مدوية على يد زعيمه الأسبق كونتشيرو كويزومي.
السؤال الذي طفا على السطح بعيد فوز المعارضة كان عن مدى قدرتها على الوفاء بوعودها الانتخابية في التغيير وحل مشاكل اليابان الاقتصادية والاجتماعية ممثلة في ازدياد نسبة البطالة والتضخم وعجز الاقتصاد والحاجة إلى تحسين الرعاية الاجتماعية وبرامج التأمين ضد الشيخوخة. تلك الوعود التي يعتقد البعض أنه من الصعب على “حزب اليابان الديمقراطي” تحقيقها بسهولة، لاسيما وأن البرنامج الذي فاز على أساسه كان فضفاضا وخاليا من الإشارة إلى سبل التنفيذ ومواعيده، بل وستكون له نتائج وخيمة على الميزانية العامة في حال تنفيذه – مثلا وعد الحزب الفائز بزيادة الإنفاق العام في صورة إقامة مشاريع إنشائية ضخمة أملا في كسب أصوات رجال الأعمال ممن يقترعون تقليديا لغريمه، كما وعد بإعداد ميزانية جديدة بمبلغ 2.172 بليون دولار أمريكي تشمل زيادات كبيرة في المعونات المقدمة للأسر التي لديها طفل واحد وللأسر المسئولة عن أقارب في سن الشيخوخة، كما تشمل زيادة مخصصات المنح الدراسية. ووعد أيضا بتخفيض الضرائب المفروضة على الشركات الصغيرة بنسبة 11 بالمئة، ناهيك عن وعد بإلغاء الرسوم المطبقة على استخدام الطرق السريعة. وهذا إن صدق، فانه سيتسبب في حدوث عجوزات في الميزانية وإغراق البلاد في دين عام، مما قد يعجل بخروج الديمقراطيين من الحكم وعودة الليبراليين الأحرار إلى السلطة مجددا، أي تماما مثلما حدث في منتصف التسعينات. وفي هذا السياق يجدر بنا الإشارة إلى ما قالته الأكاديمية اليابانية “هيرومي كوباياشي” من أن الأمة اليابانية كلها تواقة إلى التغيير لكن كل فرد في البلاد يعلم مسبقا أن حزب المعارضة الفائز قد يفشل في إدارة البلاد، ليس بسبب ضعف مواهب رئيس الحكومة الجديد “هاتوياما” أو عدم تمتع زملائه بالرؤية الثاقبة والخبرة اللازمة، وإنما بسبب النفوذ القوي للحزب الليبرالي الحر وتمدده في كل المواقع كنتيجة لطول الحقبة التي حكم فيها دون منازع وخبرته الطويلة في تحقيق الإنجازات وتجاوز الصعوبات.
في مقابل الرأي الأخير، هناك من يراهن في بقاء الديمقراطيين في الحكم على شخصية رئيس الحكومة الجديد ومناقبه. فيوكيو هاتوياما الذي كثيرا ما وصفته أجهزة الإعلام اليابانية بجون كينيدي اليابان يعتبر من الجيل الرابع من عائلة سياسية مشهورة في اليابان. فجده الأكبر لأبيه “كازيو” كان رئيسا للبرلمان ما بين عامي 1896 و1897 خلال حقبة الإمبراطور الإصلاحي ميجي، كما شغل منصب نائب وزير الخارجية ورئيس جامعة واسيدا التي تعتبر من اشهر جامعات اليابان على الإطلاق. وجده لأبيه “ايتشورو” ترأس الحكومة اليابانية ثلاث مرات ما بين عامي 1954 و1956، و هو الذي يعزى إليه إعادة الروابط الدبلوماسية ما بين طوكيو وموسكو، وإدخال اليابان إلى هيئة الأمم المتحدة. أما والده “ايتشورو” فقد كان نائبا لوزير المالية ووزيرا للخارجية. إلى ذلك فان جد هاتوياما من جهة أمه هو “شوجيرو ايشي ياشي” مؤسس شركة بريجستون التي تعتبر واحدة من كبريات الشركات المصنعة لإطارات السيارات في العالم. وبهذه الصفة فقد ترك لابنته (والدة هاتوياما) ثروة ضخمة تقدر ببلايين الدولارات، منحت بعضها إلى ولديها “هاتوياما” و “كوينو” حينما أرادا دخول المعترك السياسي في عام 1996 بعيدا عن الحزب الليبرالي الحر الذي تربيا في أحضانه. هذا علما بأن الابن الأصغر “كوينو” ترك حزب اليابان الديمقراطي وعاد إلى عشه الأصلي بعدما شعر أن الأول لم يعد يمثل الوسط وإنما اتجه بعيدا نحو اليسار. وكمكافأة له عينه رئيس الوزراء المستقيل ” تارو أسو” كوزير للداخلية والاتصالات في حكومته وظل فيها حتى يونيو 2009.
من جهة أخرى فان عائلة “هاتوياما” ترتبط بصلة قرابة بثلاثة من رؤساء الحكومات اليابانية السابقة وهم: ايشورو هاتوياما، وهاياتو ايكيدا، وكيشي ميازاوا. وبهذا فان رئيس الحكومة الجديد يشبه سلفه الذي يرتبط نسبه بسبعة رؤساء حكومات سابقة من بينهم أول رئيس وزراء بعد الحرب العالمية الثانية وهو “شيجيرو يوشيدا”.
لجهة تحصيله العلمي، يعرف عن “هاتوياما” أنه أكمل تعليمه الجامعي في جامعة طوكيو في عام 1969، وأنه حصل على الدكتوراه في الهندسة من جامعة “ستانفورد” الأمريكية الشهيرة في عام 1976، وأنه عمل كأستاذ مساعد في كلية إدارة الأعمال في جامعة “سينشو” اليابانية قبل أن يدخل البرلمان كمشرع في عام 1986 ممثلا للحزب الليبرالي الحر الذي تركه هو ومجموعة من زملائه في عام 1993 عشية تعرض الحزب لأول خسارة في تاريخه، وذلك من أجل تأسيس حزب جديد عرف باسم ” ساكيغاكي”. ورغم أن الرجل حصل على زعامة الحزب في عام 1999، إلا أنه آثر أن يستقيل قبيل الحيرة التي وجد رموز الحزب أنفسهم فيها كنتيجة لدمج حزبهم مع الحزب الليبرالي بقيادة “ايشيرو أوزاوا” في عام 2003. ذلك الدمج الذي تسبب في تحول “هوتاياما” إلى شخصية حزبية هامشية وغير مؤثرة لبعض الوقت.
ويتخوف البعض من أن يتسبب التنافس المعروف ما بين “هاتوياما” و”أوزاوا” وشخصيتاهما المتباينتان (على خلاف “هاتوياما”، يعتبر “أوزاوا” شخصية لا تؤمن بالاستشارة أو بالإقناع أو بالتوضيح) في حدوث صراع خلف الكواليس قد يضر بوحدة الحزب الحاكم الجديد، خصوصا وأن “أوزاوا” يعتبر نفسه مهندس عودة المعارضة إلى السلطة ومخطط برامجه ووعوده التي جذبت المقترعين بكثافة غير مسبوقة، بل يعتبر ما حدث مؤخرا حصيلة لجهوده الشخصية خلال السنوات الخمسة عشر الماضية في ضرب مفاصل حزب اليابان التاريخي الأقدم. هذا على الرغم من الفضائح المالية التي لاحقته منذ مطلع العام الجاري وكانت سببا في إثارة الجدل حول استمراره في الحياة السياسية اليابانية.
الأمر الآخر الذي يجدر بنا الإشارة إليه وقد حدث ما حدث، هو أن التطورات الأخيرة تبشر بحدوث نقلة نوعية في علاقات طوكيو مع بكين والتي تعرضت للمد والجزر خلال حكم الحزب الليبرالي الحر. فالصينيون كثيرا ما اشتكوا من سياسات ومواقف الأخير – ولاسيما جناحه اليميني المحافظ – حول مسألة الغزو الياباني للصين و أقطار جنوب شرق آسيا في الحرب العالمية الثانية، قائلين أن ساسة ورموز الحزب الليبرالي يتهربون من إبداء الاعتذار والندم، بل ويدعون أن ما قام به جيشهم لم يكن سوى حملة لتحرير الجنس الأصفر من استعمار الجنس الأبيض، علاوة على أنهم يشجعون الأعمال والكتابات التي تهدف إلى تبييض صفحة ما قام به الجيش الياباني في الصين وسواها من أعمال قتل واغتصاب وسلب في الماضي. بينما تعتبر بكين أن قادة حزب اليابان الديمقراطي أقل عدوانية و أقرب تفهما لمواقف الصين حيال القضية المذكورة.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh