الهبّة السوريّة المتواصلة منذ ثلاثة أعوام تكشف على الملأ مأزق الحال العربيّة، أو الحال العروبيّة على وجه التحديد. فعندما انطلقت شرارة الانتفاضات من تونس وحملتها الرياح الغربية شرقاً لتتسع إلى أصقاع مختلفة في هذا العالم العربي المريض، بدأ يتّضح أنّ هذه النيران اشتعلت في بلدان عربيّة دون غيرها.
فلو أمعنّا النّظر في ما جرى ولا يزال جارياً حتّى الآن، لرأينا أنّ النّيران أخذت بتلابيب تلك الأنظمة التي برزت على سطح الساحة العربية بعد عمليّات اغتصاب للسلطة بواسطة الانقلابات العسكرية. هذه الاغتصابات السّلطوية هي ما حصل على اتّساع الساحة العربية منذ منتصف القرن الفائت في مصر وليبيا واليمن وسورية والعراق.
عندما بدأت هذه الانتفاضات الشعبية العربية، وسمها الإعلام الغربي فألاً باسم «الربيع العربي»، فسارع الإعلام العربي إلى تلقُّف هذا المصطلح جهلاً بما يدور في ربوعه وأشاعه على الملأ العربي من دون أن يكلّف نفسه سبر أغوار هذه الاهتزازات الاجتماعية التي تشلّ الكثير من البلدان العربية التي حصلت فيها هذه الانتفاضات.
والسؤال الذي لا يجرؤ اليسار العربي، أو ما تبقّى منه، على طرحه في هذا السياق هو: كيف ذا، ولماذا، ضربت هذه الرجّات الكبرى كلّ تلك الدّول التي طالما أشبعتنا بشعارات الثورية والاشتراكية والديموقراطية والحرية والوحدوية والعروبة، وما إلى ذلك من تصانيف الدّجل البلاغي العربي؟ وكيف ذا، ولماذا، تخطّت هذه الاهتزازات كلّ تلك الإمارات والممالك العربيّة التي لم تفقد شرعيّتها في نظر العامّة؟
ولو رغبنا في الخوض عميقاً في توصيف هذه الحال العربيّة، فلا نجد مناصاً من وضع إصبعنا على الجرح العربي الدّامي. يمكننا القول في هذا السياق، إنّه، وباستثناء الحال المصريّة، وبصورة ما التونسية لأسباب أخرى، لا توجد في كلّ العالم العربي دولة قوميّة بما يحمله هذا المصطلح من دلالات. وبكلمات أخرى، فقط في سياق حدود الدولة المصرية، يمكننا الحديث عن «شعب مصري» ودولة قومية تحمل مقوّمات هذا المصطلح. بينما لا يمكننا إضفاء هذه الصفة على جمهرة البشر الذين يعيشون في حدود الدّول العربيّة المصطنعة الأخرى. على هذه الخلفيّة، وعلى رغم أنّ النّظام المصري من مخلّفات الاغتصاب العسكري للسلطة، فإنّ الجيش المصري يظلّ بقياداته وضبّاطه من نسيج «الشعب المصري» ومن صلبه، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يستخدم ترسانته العسكرية للبطش بالشّعب الذي ينتمي إليه.
ليست هذه هي الحال مع سائر الأقطار العربية. إنّ الاغتصابات «الثورية» للسلطة في المواقع الأخرى بقيت مجرّد شعار فقط. لقد شكّلت شعارات الدّجل العروبي الرنّانة غطاءً لمؤامرات قبليّة طائفيّة للاستئثار بالسلطة وبموارد البلاد. وخير مثال، وربّما الأصحّ: شرّ مثال، على ذلك هو نظام البعث العراقي والسوري. إذ إنّ الأيديولوجية البعثيّة العروبيّة المعلنة شيء، بينما حقيقة ما يدور في الواقع كان شيئاً آخر مختلفاً تماماً.
«سورية ليست مصر»، صرّح بشّار الأسد مراراً وتكراراً لوسائل الإعلام مع بدء الهبّة السوريّة. لقد كان يعني ما يقول، وكان يعرف ما يقول. سورية ليست مصر حقّاً، والجيش السّوري ليس الجيش المصري. إذ إنّ الجيش السّوري ليس جيش الشّعب، فليس هنالك شعب أصلاً، بل هو جيش النّظام القبلي والطائفي، على غرار جيش البعث العراقي الآفل، جيش صدّام.
إذاً، الأيديولوجيّة العروبية على العموم، والبعثيّة على وجه الخصوص، لم تفلح في خلق دولة قوميّة. لقد تحوّلت هذه الأيديولوجية مع مرور الوقت إلى أداة للتسلّط القبلي والطائفي. لقد أوغلت هذه الأنظمة في القمع، لأنّ القمع جزء من تركيبتها، ومن ذهنيّتها الوحشيّة، القبليّة والطائفيّة السابقة للدّولة والسابقة للشعب. لهذا السبب جاء ردّ النّظام السّوري بهذه الوحشيّة البدائيّة على مطالب التحرّر السلميّة لبني البشر مع بداية الهبّة في ربوع الشام. وبعد الإيغال في كلّ هذه الجرائم، لم يعد لدى النّظام طريق رجعة. لقد اتّسعت رقعة الوحشية في الشام مع دخول العناصر الطائفيّة الوحشية الأخرى، الداعشية وغيرها، على الساحة السورية.
وهكذا، فإنّ الحال السوريّة ذاهبة، مثلما جرى في العراق، إلى تفكّك كبير. بل يمكننا القول إنّ سورية، تلك الدولة التي خرجت من رحم سايكس- بيكو، قضت نحبها. بكلمات أخرى، إنّها إعلان صريح بفشل هذه العروبة، وبفشل الدولة القومية في العالم العربي.
خلاصة القول، لقد انتصرت الحال اللبنانية على سائر المشرق العربي، فأهلاً وسهلاً بكم في ربوع المشيخات القبليّة والطائفيّة.
* كاتب فلسطيني
الحياة