اغلقت “شاردة” باب غرفتها وأقفلته بهدوء بعد أن ألقت السلام على صاحب البيت العجوز الذي كان ينظر اليها بريبة وشك. خلعت العقال والغترة ورمت بهما على الكرسي اليتيم في غرفتها، ثم القت بجسدها المنهك على سرير عتيق يكاد يقترب من الارض من شدة ترهله.
كانت “شاردة” تشعر بضيق غريب النزعة. ربما لأن نظرات مالك البيت إليها جعلتها تشك انه قد تعرّف على شخصيتها وتيقن أنها امرأة وليست رجلا.
بعد مرور بضع دقائق وهي مستلقية والحيرة تطحن قلبها وتلوك هدوءها النفسي، قررت “شاردة” ان تتوقف عن ذاك الفزع والافكار التي اخافتها، وصارت تحاول أن تطمئن نفسها على أنها بخير، وان ذاك الرجل العجوز لم يكتشف هويتها.
منذ ان قدِمَت “شاردة” الى جدة هاربة من مدينتها القنفذة، وهي تتنكر في زي رجل. بالرغم من انها في العقد الرابع من عمرها، لكن وجهها الغض، وجسمها النحيل يوحي بعكس ذلك. تبدو وكأنها ما زالت تتنعم بسنين العشرينات وبنشوتها. لها قوام جميل، ووجه صحراوي التقاسيم، وثديين صغيرين مما سهل عليها مهمة اخفاءهما.
حين قررت ان تهرب من عش الزوجية والتخفي في شخصية رجل، كانت مدركة تماماً مدى خطورة تلك الفعلة، لكنها وجدت انها افضل من ان تعيش مع زوج لا يربطها به سوى صك ملكية. زوجها مثل سائر الأزواج السعوديين، يُعد الزوجة ملكه بعد ان دفع ثمنها لوالدها بما يسمى بالمهر. صار هو المتصرف الشرعي في كل أحلامها وطموحاتها، والقانون وهبه الدور تحت مسمى “المحرم”، وحرّضه أيضا على انتهاك حق المرأة وامتلاك جميع قرارتها.
“شاردة” لم تعد تطيق ذاك الوضع، لذلك غامرت بالهروب من ذاك الزوج، وقررت أن تعش حياة محفوفة المخاطر بلباس رجل.
نهضت “شاردة” من على سريرها وخلعت الثوب الابيض ذو الملامح البليدة والذي يرتديه غالبية الرجال في بلدها، ثم فكّـت الرباط من على ثدييها الناعمين، لكي تريحهما من الضغط الذي تضعهما تحته كلما توجهت للعمل في الخارج.
حين اتت “شاردة” قبل شهرين الى جدة تمكنت من اقناع صاحب البيت أن يأجرها من بيته غرفة ذات باب خارج ومرفق بها حمام صغير. كان أهل البيت يستخدمون الغرفة لسائق المنزل، ومنذ أن هرب سائقهم ربما من سوء المعاملة، قرر الرجل العجوز صاحب البيت أن لا يجلب غيره، وحرم النساء من الخروج بدون أمره.
“شاردة” منذ أن لجأت إلى جدة، عملت متسببة حيث أن الحياة كانت تقذفها يمينا وشمالا حسب ما تأخذها لقمة عيشها. كانت في منتهى الصدق والأمانة مع من تتعامل معهم. لم تدخل جوفها لقمة حرام قط، ولم ترتكب أبدا أية خطيئة يعاقب عليها القانون. تنام كل ليلة وهي مرتاحة الضمير، وهادئة البال، لأنها تعلم جيدا أنها لم ولن تضر أحدا كونها أنها أُجبرت على أن تعيش حياة مختلفة عن سائر النساء.
في بلدها النساء اللواتي بلا رجل مثلها، اللقمة بالنسبة لهن مُرة بطعم العلقم، لأنهن محرومات من جميع سبل الحياة المستقلة الكريمة ، لذلك رأت “شاردة” لا حل لديها سوى أن تنتحل شخصية رجل، كي تنجو من مخالب الجوع وتفر من قبضة الرذيلة.
بعد أن خيَم الظلام على مدينة جدة الساهرة، أدت “شاردة” فريضة صلاة العشاء، ثم تناولت عشاء كفيف عبارة عن رغيف خبز وجبن ابيض وحبات قليلة من الزيتون الأخضر. شربت بعد تلك الوجبة البسيطة كأس شاهي ساخن.
اندست في سريرها محاولة أن تخلد إلى النوم، لكن لا زال ثمة قلق يحوم حول رأسها، ويغض مضجعها، ولم تعثر على وسيلة للخلاص منه.
أضاءت النور وجلست على سريرها وتناولت كتاب “دع القلق وابدأ الحياة” واسترسلت بالقراءة لبعض الوقت، وإذا بها تسمع طرقا شديدا على بابها. سألت وهي ترتعش خوفاً :من الطارق؟ ولكن قبل أن تسمع ردا، كُسر بابها، واقتحموا رجال الأمن الغرفة ومعهم صاحب البيت. ثم أمروها بصوت ذو نبرات قاسية أن ترتدي عباءة بسرعة، وقادوها معهم، وهي تقاوموهم، وتبكي وتصرخ بألم وحزن شديد: “خافوا الله فيني، أتركوني أعيش بسلام، خافوا الله فيني…”
رُمي “بشاردة” في السجن لأنها رفضت ان تعود لزوجها، والآن ستُخضع لاختبارات سيكولوجية للتأكد من صحتها النفسية، لأنها حاولت أن تعيش في بلد لم يترك مساحة للمرأة أن تحيا سوى في ظل رجل، حتى لو كان ذاك الرجل يمارس عليها كل أصناف القهر، ويحرمها من ابسط حقوقها.
ونشر الخبر في جريدة الرياض في عددها الصادر يوم 4 يونيو 2009
“شرطة القنفذة تعيد المرأة المسترجلة لأهلها”
salameyad@hotmail.com
* كاتبة سعودية
“امرأة مسترجلة”
مسيرة موفقة اختي الكاتبة في دفاعك المستميت عن حقوق المراة السعودية و من خلالها كل النساء العربيات…