سيبقى اليمن طويلا في واجهة الأخبار المهمّة في المنطقة والعالم. كان اليمن من اهمّ الأحداث التي شهدتها المنطقة في العام 2015 وسيبقى كذلك في 2016 وما بعد 2016، لا لشيء سوى لأن البلد في حاجة الى صيغة جديدة لم تتبلور بعد في اي شكل.
لم يحصل هذا التبلور للصيغة الجديدة لأسباب عديدة. في مقدّم هذه الأسباب ان سقوط النظام الذي اقامه علي عبدالله صالح هو سقوط لأشياء كثيرة، خصوصا ان هذا السقوط ترافق مع انتهاء الدولة المركزية التي تُحكم من صنعاء.
ماذا بعد سقوط الدولة المركزية في اليمن وثبوت ان علي عبدالله صالح كان اولّ رئيس لدولة الوحدة وآخر رئيس لها.
في عهد علي عبدالله صالح، كان الصراع على اليمن، بشماله وجنوبه، يُدار من صنعاء. استمرّ ذلك ثلاثة وثلاثين عاما، قبل تحقيق الوحدة وبعدها، اي من 1978، الى 2011.
كان في الإمكان حصر الحرب مع الحوثيين (انصار الله) في شمال الشمال. انتهى الأمر بعد الإنقلاب الذي نفّذه الإخوان المسلمون على الرئيس السابق الى جعل الصراع يدور داخل اسوار صنعاء. لم يدخل في حساب الإخوان المسلمين ان الحوثيين سيملأون الفراغ الناجم عن اسقاطهم لعلي عبدالله صالح، الذي واجه في بداية “الربيع العربي” ثورة شبابية حقيقية، وجد من يخطفها ويحوّلها عن مسارها من اجل احتكار السلطة تلبية لجشع ليس بعده جشع لها.
لم ينه استيلاء “انصار الله” على صنعاء الصراع الدائر داخل اسوار العاصمة. عاجلا ام آجلا سيتجدّد هذا الصراع، لا لشيء سوى لأنّه يستحيل استمرار سيطرة مجموعة متخلّفة، مدعومة من ايران، على مدينة في عراقة صنعاء، اللهمّ الّا اذا كان المطلوب تدمير المدينة عن بكرة ابيها وتهجير اهلها منها بعد تغيير تركيبتها كلّيا.
اكثر من ذلك، ليس واردا بقاء الحلف القائم بين علي عبدالله صالح و”انصار الله” الى ما لا نهاية. هناك “ست حروب بين الجانبين وما يزيد على ثلاثين الف قتيل بينهما”، هذا على الأقلّ ما يعترف به الرئيس السابق نفسه. فضلا عن ذلك، ان القادة الحوثيين الموجودين في صنعاء لا يكنون اي ودّ لعلي عبدالله صالح الذي ليس معروفا بعد السبب الذي دفعه الى الدخول في مغامرة خاسرة سلفا من نوع التعاون مع “انصار الله” عسكريا وربط مصيره بمصيرهم.
من عادة علي عبدالله صالح ان يتعامل مع التطورات بطريقة مختلفة اكثر براغماتية. يبدو انّه لم يستطع تقدير حجم الأحداث داخل اليمن وفي المنطقة المحيطة به. كان التفسير العلمي شبه الوحيد للتصرفات الأخيرة للرئيس السابق ما قاله الدكتور عبد الكريم الإرياني قبل اسابع قليلة من وفاته. سئل الإرياني عن تفسيره للموقف الذي اتخذه الشخص الذي يعرفه منذ ما يزيد على خمسة وثلاثين عاما، اي منذ وصوله الى السلطة في العام 1978؟
كان جوابه ان فريقا من الأطباء النفسيين الأميركيين التقى علي عبدالله صالح في اثناء العلاج الذي كان يخضع له في المملكة السعودية بعد محاولة الإغتيال التي تعرّض لها في الثالث من حزيران ـ يونيو 2011 في مسجد النهدين الواقع داخل حرم دار الرئاسة.
كشف الإرياني ان النتيجة التي خرج بها افراد الفريق هي انّ من يتعرّض لمحاولة اغتيال من هذا النوع واصيب بما اصيب به علي عبدالله صالح “يتصرّف باحدى طريقتين. امّا يدخل في انطواء على الذات وعزلة تامة عن العالم الخارجي وما يدور حوله… وامّا يعيش من اجل الإنتقام ولا شيء آخر غير الإنتقام”.
قد يكون هذا الكلام المنقول عن الفريق الطبي الأميركي غير دقيق تماما، لكنّ لا شك انه يتضمن جانبا من الصحّة، خصوصا اذا اخذنا في الإعتبار رفض ايّ عروض تلقاها الرئيس السابق في مرحلة معيّنة من اجل الخروج من اليمن لقاء ضمانات محدّدة.
ليس مطلوبا البقاء في اسر الماضي وتعقيدات الحاضر. هناك جديد اليمن المتمثل في “عاصفة الحزم” التي بدأت في آذار ـ مارس الماضي. لم يكن من خيار امام دول الخليج العربي، باستثناء سلطنة عُمان التي لديها حسابات خاصة بها، سوى التصدي للمحاولة الإيرانية الهادفة الى تطويقها انطلاقا من اليمن.
لم يكن طبيعيا وقوف المملكة العربية السعودية، حيث قيادة تمتلك روح المبادرة، الوقوف مكتوفة لا حيال مناورات الحوثيين عند حدودها ولا حيال الإتفاقات التي وقّعها هؤلاء مع ايران بصفة كونهم الدولة اليمنية والنظام الجديد فيها القائم على “الشرعية الثورية”، على حد تعبير عبد الملك الحوثي نفسه.
هناك جولات جديدة من القتال ستدور على ارض اليمن نظرا الى ان الحوثيين لم يستوعبوا حتّى الآن ان “عاصفة الحزم” لا يمكن ان تنتهي الّا بانتصار على الأرض يغيّر موازين القوى كلّيا، حتّى في صنعاء نفسها والمناطق المحيطة بها.
تبقي اسئلة عدة تحتاج الى اجوبة. كيف يمكن ايجاد قيادة سياسية قادرة على الإستفادة، باسم الشرعية، من تمكن القوات العربية المشاركة في “عاصفة الحزم” من اجبار الحوثيين على التراجع في مناطق عدّة، خصوصا في المحافظات الجنوبية؟
ثمّة حاجة الى شخصية سياسية تجذب المواطن تكون قادرة على ملء الفراغ الذي خلفته استقالة علي عبدالله صالح استنادا الى المبادرة الخليجية.
الأهمّ من ذلك، كيف مواجهة “القاعدة” و”داعش” وما شابههما من تنظيمات ارهابية بعدما تبيّن ان هناك مناطق يمنية يسيطر الإرهابيون عليها، بما في ذلك ميناء المكلا عاصمة حضرموت واجزاء من محافظتي ابين وشبوه، وحتّى احياء في عدن واجزاء من ذمار ومأرب…
هناك تغيير جذري طرأ على طبيعة المجتمع اليمني، خصوصا في الجنوب، في ضوء ما مارسه الإخوان المسلمون والسلفيون منذ انتهاء حرب الإنفصال بالطريقة التي انتهت بها صيف العام 1994، اي قبل عقدين من الزمن. كان العقدان كافيين لنشوء جيل جديد من الشبّان اليمنيين الذين لا علاقة له من قريب او بعيد بما كان عليه الجنوب في الماضي القريب.
تتوالى الأسئلة المتعلّقة باليمن وصولا الى السؤال الأساسي. ماذا بعد مرحلة الصوملة الحالية التي بدأت تأخذ بعدا جديدا اثر انهيار الدولة المركزية؟
لا شكّ ان الحوثيين ادركوا معنى ان خيارهم الوحيد بات محصورا بدولتهم ذات الطابع المذهبي في شمال الشمال بعدما اضطروا الى تقليص طموحاتهم، التي هي في الأساس طموحات ايرانية تستهدف وضع اليد على باب المندب الإستراتيجي وكلّ بقعة في اليمن.
كم ستستمر مرحلة الصوملة في اليمن؟ هل تنتهي سريعا ويتبيّن كم عدد الدول او الكيانات التي ستنشأ بعد سنة او بعد سنوات؟
اخيرا، وليس آخرا، ما الثمن الذي سيدفعه الشعب اليمني المظلوم والمقهور نتيجة دخول البلد مرحلة الصوملة، المستمرّة في الصومال منذ العام 1991؟