« المرء يخلق شينتوياً، ويتزوج مسيحياً، ويموت بوذياً »!
تندمج المعابد ضمن المشهد العام للمدن في اليابان إلى درجة أن المرء بالكاد يلاحظها. والأهم، فاليابانيون لا يدخلونها إلا في ما ندر، أي في بضع مناسبات سنوية فحسب!
وفي تحقيق أجراه « معهد غالوب الدولي » في العام ٢٠١٥، وكان موضوعه «مستوى » الإلحاد في ٦٥ دولة، احتلت اليابان المرتبة الثانية. مباشرةً بعد الصين. وأعلن ٣١ بالمئة من اليابانيين صراحةً أنهم « مُلحدون »، كما أعلن ٥٧ بالمئة من الشعب أنه « بدون انتماء ديني » معيّن!
ولذلك يشعر المرء بالحيرة حينما يطالع الأرقام التي تجمعها السلطات اليابانية: فحسب أحد الإحصاءات، هنالك « ٢٠٩ مليون مؤمن في اليابان »! وهذا مع أن عدد اليابانيين لا يتجاوز ١٢٧ مليون نسمة!
لكن هذا الرقم العبثي يضمر خاصية يابانية مهمة: فالياباني لا يجد أي حرج في أن يعتنق عدداً من الأديان في الوقت نفسه، حتى لو كانت متناقضة في ما بينها، ثم أن يعلن أنه « مُلحد »!
الإلحاد بالنسبة للياياني يعني غياب أي مرجعية دينية لأعماله اليومية، ولا يعني- كما في الغرب- رفض المبدأ الديني على المستوى الوجودي.
ويمكن القول ان الدين منتشر في كل مكان في اليابان بسبب كثرة العَرض. ومن الشائع القول بأن « المرء يخلق شينتوياً، ويتزوج مسيحياً، ويموت بوذياً »!
الشينتوية، دين الحياة
تقوم الحياة الروحية للياباني، جزئياً، على ازدواجية الحياة والموت التي تجد جذورها في « الشينتوية » و« البوذية » معاً. ولا يزعم أي من هذين الدينين، وهما الأكثر انتشاراً في البلاد، أنه يطرح كل مسائل الوجود. وبصورة خاصة، فإن « الشينتوية »، التي تتّسم بكثرة آلهتها وتتوّعهم، ترمي إلى الردّ على التساؤلات حول أصل العالم (أي حول أصل اليابان!). ويُنظَر إليها كدين للحياة، حيث أنها تظل غامضة حول الـ« ما بَعد ».
وهنا يأتي دور البوذية، التي تقترح شرعة سلوك لضمان « خلاص الروح »، ما يجعل منها « ديناً للموت » مُكَمّلاً للشينتوية!
ويقول الكاهن « يوماسوبا »، وهو كاهن بوذي في معبد « دايجيوجي »، وهو أحد أهم معابد محافظة « هيوغو » في وسط اليابان: « لقد اختلط الدينان منذ وقت طويل إلى درجة أننا نتعاون بفعالية »! ولكنه لا ينسى أن يضيف أن « البوذية لا تحظى بدعم مالي من الدولة »!
وينجم ذلك التعايش عن الطبيعة الصعبة التعريف لـ »الشينتوية »، وهي دين الأصول، في حين أن « البوذية » كانت دائماً « استعارة » من العالم الصيني! إن « الشينتوية »، التي كانت حتى سنة ١٩٤٧ تعتبر الإمبراطور حفيداً للآلهة- تخلّى الدستور الياباني عن إلوهية الإمبراطور تحت الضغط الأميركي في زمن الإحتلال- هي عقيدة أمة بقدر ما هي دين. إن جمعيات الصداقة « الشينتوية » المنتشرة بين أعضاء البرلمان تمثّل « لوبيات » قوية تسعى لتعزيز التماسك القومي أكثر مما تسعى لتشجيع التأملات اللاهوتية.
كيف يصبح المرء « شينتوياً »؟
يجيب « يوشينوري أماب »، هو كاهن شينتوي تدير عائلته معبد « موتويز كونو »، القريب من « كيوتو »، أنه «يكفي أن يذهب المرء إلى المعبد وأن يتعبّد! هذا كل شيء، وليست هنالك « عِمادة » (كما عند المسيحيين)، ونحن لا نرى حرجاً في أن ينضم أي إلينا أي أجنبي»! وحيث أن « الشينتوية » تقوم بمعظمها على مجموعة أساطير حول حياة الآلهة التي خلقت اليابان، فمن الصعب أن يجد فيها الإنسان رسالةً عالمية. وليست هنالك دعوات تبشيرية إزاء الأجانب الذين يعيشون في اليابان.
لماذا يكون هنالك إله واحد؟
إن الخاصية الأخرى لليابان هي « تعدّد الآلهة ». ويُعتبر مفهوم « الإله الوحداني » مفهوماً غريباً، وشاذاً، في اليابان. إن مسؤول السياحة في « كيوتو »، وعمره ٣٠ سنة، لا يفهم هذه العوالم المسيحية والإسلامية التي تعتبر أنه ليس هنالك إله إلا الله: « الحقيقة أنني معجب بهذه القدرة على الإعتقاد بأن هنالك إلهاً واحداً هو أصل كل شيء! ولكن يصعب علي، أنا شخصياً، أن أتصوّر ذلك! »
الزواج المسيحي، احتفال رومنطيقي
ويعني ما سبق أن من الصعب أن تجد المسيحية، والإسلام خصوصاً، حيّزاً في البلاد. وهذا عدا أن التبشيرية الغازية للمسيحية والإسلامية غير مفهومة هنا. وحينما نزل القديس « سان فرنسوا كزافييه » في مرفأ « كاغوشيما » في العام ١٥٤٩، فقد استقبل اليابانيون تعليمه استقبالاً حسناً وانتشرت المسيحية في اليابان المنفتحة على أية روحانيات جديدة. ولكن، بعد أقل من ٤٠ سنة، وبعد أن حققت المسيحية نجاحات كبيرة- مدارس، ومستوصفات، وعدد متزايد من الذين تمت « عمادتهم »- قرّر النبلاء اليابانيون أن يتخلصوا من المزعجين الذين اعتنقوا المسيحية، وأمروا بإعدامهم، صلباً في أغلب الأحيان. إن « شهداء ناغازاكي »، حيث جرت حفلات إعدام جماعية، اعتُبروا قديسين بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية. وفي « ناغازاكي » يوجد نصب تذكاري للإحتفال بوصول المسيحية إلى اليابان.
إن ١ بالمئة من اليابانيين مسيحيون. ويتمتع المسيحيون بجاذبية لدى اليابانيين بسبب الزواج. إن الوعد بالوفاء حتى الموت، وثوب العروس الأبيض، موتبادل المحابس، وطقوس الإحتفال، تبدو رومنطيقية جداً، وتجتذب الشبان الراغبين بالزواج أكثر مما تجتذبهم طقوس الزواج الشينتوية الجافة. وقال لنا « أنطوني »، وهو فرنسي مقيم في « توتوري » منذ ٥ سنوات: « سنحتفل بزواجنا بعد شهرين، ولكننا لم نقرر حتى الآن ما إذا كنا سنتزوج وفقاً للطقوس الشينتوية أو في الكنيسة! »
ماذا عن الطابع الديني للزواج في اليابان؟ إنه فولكلور، في أفضل الأحوال؛ أو مجرد ديكور في أسوأها!
الإسلام
الإسلام غير موجود عملياً، وفهمه أصعب على اليابانيين، مع أن اول مسجد في اليابان، وهو مسجد « كوبي »، يعود إلى العام ١٩٣٥. وبمعزل عن المهاجرين الإندونيسيين، والبنغلاديشيين، والأتراك، والإيرانيين، فليس هنالك أكثر من ١٠ آلاف ياباني اعتنقوا الإسلام. والمسلمون اليابانيون غالباً من طبقات غنية، ومعظمهم من المثقفين أو ممن عاشوا خارج البلاد. ويقول « بسام طيارة »، مؤلف كتاب « اليابان والإسلام »، أنه « بمعزل عن طقوسهم الدينية، فالمسلمون اليابانيون لا يتردّدون في المشاركة باحتفالات ثقافية شينتوية، أو في شرب الكحول. كما ليس هنالك في ملابسهم ما يظهر عقيدتهم الدينية »! رغم ذلك، فقد انضم ٤٠ ياباني إلى الجهاديين في سوريا والعراق: معظمهم من الجامعيين، أو الصحفيين، أو الطلاب من أبناء عائلات ميسورة…
يعني كل ما سبق أن أي دين لا يملك إمكانية منافسة البوذية، أو الشينتوية، التي باتت فولكلوراً أكثر منها ديناً. وفي يونيو ٢٠١٥، توفّيت « تاما »، وهي قطّة كانت تتجوّل في محطة قطارات « كيشي » منذ ٨ سنوات. وأقيمت لها جنازة دينية، واعتبرت « كامي »، أي أنها أصبحت في مصاف القديسين الشينتويين، وباتت بين من يمكن للشينتويين التعبّد لهم.
وإذا كان صعباً على أي دين خارجي أن ينافس الشينتوية والبوذية، فإن الـ٨٠ ألف معبد شينتوي التي تضمّها اليابان تظل خاوية! ويظل اليابانيون على تعلّقهم بها، وهم يعرفون ويحترمون المعتقدات الشينتوية، ولكنهم توقفوا عن المشاركة في الإحتفالات النظامية.
وقال لنا الكاهن الشينتوي « يوشينوري أماب »: « عدد المساجد مستمر بالتناقض. وكان في اليابان ٢٠٠ ألف مسجد في الماضي. وأنا شخصياً، لا أعرف إذا كان اولادي سيلخلفونني بعد وفاتي. هنالك أقل وأقل من الإحتفالات الدينية لتأطير الشبان، ولتعويدهم على الدين. وفي أي حال، فأي شاب لم يعد يرغب في أن يكرّس نفسه لوظيفة لمدى الحياة، ولا تنتهي براتب تقاعد »!
في بلاد « المُلحدين متعددي الأديان »، إذا كان القرن العشرين قد سجل انتهاء سيطرة الدين، فإن القرن الواحد والعشرين، ورغم تعدّد العَرض، لا يؤذن بعودته..!
الأصل في جريدة “الفيغارو” الفرنسية:
Damien Durand: Au Japon, beaucoup de dieux, mais si peu de religion…