قلنا في مقال سابق أن الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم في اليابان فقد أغلبيته البرلمانية بعد أن فض حليفه، “حزب كوميتو” البوذي الصغير، شراكته معه، لكنه سارع إلى الائتلاف مع حزب بديل هو “حزب تجديد اليابان” المعروف باسم “نيبون إيشين نو كاي” (حزب سياسي قومي يميني ولد في عام 2015 من رحم حزب الابتكار الياباني بعد ان انشق عدد من اعضائه وشكلوا حزبا جديدا تحت هذا الاسم وهو ينتمي الى وسط اليمين ويعتبر اليوم ثالث اكبر كتلة معارضة في البرلمان)، وبذلك نجحت السيدة ساناي تاكائيتشي في نيل ثقة البرلمان لقيادة البلاد بإسم الحزب الديمقراطي الليبرالي، وتفادت السقوط.
لكن ما هي التداعيات المستقبلية للائتلاف الجديد على السياستين الداخلية والخارجية لليابان؟ هذا السؤال شغل بال المراقبين في الأيام الماضية انطلاقا من حقيقة ما تتبناه تاكائيتشي من مواقف محافظة، وما يعتنقه حليفها من توجهات قومية يمينية.
لاشك أن اليابان تمر اليوم، بمنعطف صعب وحاسم في تطورها السياسي هو الأخطر من نوعه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ذلك أن الإئتلاف الجديد لا يشير الى مجرد تغيير في شكل الحكومة فقط، وإنما ينبيء بتغيرات إيديولوجية وسياسية عميقة، وانحرافات عن السياسات البرغماتية والمواقف التوافقية التي صبغت سياسات اليابان لسنوات في ظل الإئتلاف السابق بين الحزب الديمقراطي الليبرالي وحزب كوميتو.
وبعبارة أخرى، قد نشهد عصرا يابانيا جديدا من القومية المتصاعدة والمواقف الأمنية الحاسمة والتصرفات المستقلة. وهذا سوف يؤثر لا محالة على البيئة الجيوسياسية للمحيطين الهندي والهاديء وشرق آسيا المعقدة أصلا، وعلى مجمل سياسات طوكيو الاقليمية والدولية وعلاقاتها مع بعض القوى الآسيوية الحليفة كالهند مثلا. وفي هذا السياق، دعونا لا ننسى أن زعيمة اليابان الجديدة عرف عنها دفاعها عن قضية مراجعة دستور بلادها، ولاسيما المادة التاسعة منه والتي تقيد دور اليابان العسكري. ومثل هذا التوجه يتباه أيضا حليفها الجديد، حزب تجديد اليابان، الذي يدعو إلى تحول اليابان من قوة مسالمة مقيدة عسكريا إلى قوة فاعلة قادرة على التصرف الاستراتيجي المستقل. ومن نافلة القول أن تفعيل هذا التوجه سوف يفاقم الحساسيات الاقليمية، لاسيما مع الصين وكوريا الجنوبية اللتين تطغى على علاقاتهما باليابان توترات من حين إلى آخر بسبب أحداث تاريخية، ويعزز من ناحية أخرى علاقات طوكيو مع نيودلهي وكانبرا وواشنطن. وهذا سيؤدي بدوره إلى تقوية التحالف العسكري المضاد بين بكين وموسكو وبيونغيانغ.
من جانب آخر، يتفق طرفا الإئتلاف الجديد على مجموعة من السياسات الاجتماعية المحافظة والقيم التقليدية الخاصة بالأسرة وأدوار الجنسين وزواج المثليين ودور الإناث في المؤسسة الأمبراطورية. فتاكائيتشي ضد منح إناث الأسرة الامبراطورية حقوقا كاملة، وتعارض زواج المثليين، وتروج لتفسير أكثر تقليدية لأدوار الجنسين في المجتمع. وحليفها الجديد يدعو من أجل التماسك الأسري والحفاظ على الهوية القومية، وسلامة المجتمع إلى فرض قيود مشددة على الهجرة والعمالة الأجنبية.
أما على الصعيد الاقتصادي، فهناك بعض التنافر والاختلاف بين طرفي الائتلاف الحاكم، فإستراتيجية تاكائيتشي تقوم على مزيج من تدخل الدولة والإعفاءات الضريبية لتحفيز الاستهلاك وتخفيف التضخم من أجل تنشيط النمو الاقتصادي المحلي، بينما يروج حليفها لسياسات إصلاحية مؤسساتية مثل تقييد الاقتراض، وتقليل النفقات الحكومية، وضمان الشفافية. وهكذا فإن الحكومة الجديدة التي شكلتها تاكائيتشي تواجه مهمة دقيقة لمعالجة هذا التنافر، وأيضا لتحقيق التوازن بين الضرورات الاقتصادية الشعبوية والانضباط المالي المحافظ. ولأن تاكائيتشي تسعى للنجاح من أجل ترسيخ صورتها كأول إمرأة تتزعم اليابان، فقد تقدم على تنازلات تكتيكية لصالح شريكها في الحكم كي تحافظ على الأئتلاف الحاكم في الأشهر المقبلة.
نخالة القول هي أن تحالف الحزب الديمقراطي الليبرالي مع حزب تجديد اليابان تجربة جريئة في السياسة اليابانية تستحق التأمل والدراسة، إلا أن دوامه واستمراريته محل شك، لأنه تحالف هش وانتهازي وتكتيكي، وليس شراكة مؤسسية راسخة كالإئتلاف الحاكم سابقا، وبالتالي فهو مهدد بالسقوط، خصوصا مع انعدام الثقة الكاملة بين طرفيه وتباين مواقفهما حيال الخطط المالية والاقتصادية الجديدة التي ينتظرها اليابانيون بفارغ الصبر.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
