“هند اليوم غير هند الأمس”، و”هند الغد بالتأكيد ستكون مختلفة عن هند اليوم”. بهاتين العبارتين يلخص احد المراقبين الأجانب رؤيته لما تعيشه الهند اليوم من ازدهار اقتصادي ومعدلات نمو متصاعدة وطفرة غير مسبوقة في الأعمال والأنشطة وتراكم الثروات إلى الحد الذي باتت معه الفجوة التي تفصل المستثمرين الهنود عن نظرائهم في الخليج لجهة الاستحواذ على المؤسسات والشركات والمصارف والعقارات الاجنبية تتضاءل يوما بعد يوم على نحو ما أشار إليه صديقنا الأكاديمي الإماراتي د. محمد العسومي في احد مقالاته الأخيرة.
وهذا بطبيعة الحال احد نتائج القرار التاريخي الذي اتخذه رئيس الحكومة الأسبق “ناراسيمها راو” قبل عقد ونصف بتوصية من رئيس الحكومة الحالي “مانموهان سينغ” الذي كان وقتها وزيرا للمالية، حول التخلي عن الاقتصاد المخطط وتبني اقتصاد السوق، الأمر الذي كان إيذانا بالانفتاح الاقتصادي من بعد عقود طويلة من سيطرة الدولة على الأنشطة الاقتصادية وتقييد الاستثمار والاستيراد والتصدير والتحويلات المالية بحزمة من القيود والموانع البيروقراطية المنيعة على النمط الاشتراكي. وقد جاءت تلك الخطوة انسجاما مع التحولات الكبيرة التي شهدها العالم في أوائل التسعينات بانهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، وعلاجا لاقتراب البلاد وقتذاك من شفا الإفلاس بفعل تراجع احتياطياتها من العملة الصعبة إلى مستويات متدنية غير مسبوقة. كما أنها أثبتت مدى مرونة السياسة الهندية وقدرتها على الانتقال من خيار إلى آخر بسلاسة بحسب ما تقتضيه الظروف، بمعنى عدم الارتهان كليا لنهج معين وكأنه قدر منزل من السماء.
وبدخول الهند عصر الانفتاح واقتصاد السوق، لم يعد هناك من يلقي السؤال التقليدي: لماذا يتفوق الهندي المقيم في بلاد الغرب ويبرز، فيما هو داخل وطنه غير ذلك؟ فلقد اثبت الهنود في خلال فترة وجيزة انه حينما يتوفر لهم في وطنهم ما يوفره المهجر الغربي من بيئة تنافسية وفرص متكافئة وحوافز اقتصادية و ظروف عمل واستثمار وكسب غير مقيدة، فإنهم يستطيعون خلق المعجزات. وهكذا شهدت الهند خلال السنوات الخمس عشرة الماضية ما لم تشهده خلال عقود من الزمن سواء لجهة معدلات النمو أو ارتفاع حجم الصادرات أو انتعاش الأسواق المحلية أو ازدهار قطاع العقارات والإنشاءات أو تعزز مكانة العملة الوطنية أو ارتفاع احتياطي البلاد من العملة الصعبة أو تنامي حجم الاستثمارات الاجنبية. وبطبيعة الحال فان هذه التحولات أفضت إلى جملة من الظواهر من بينها تزايد عدد الهنود الذين تقدر ثرواتهم ببلايين الدولارات، بل احتلالهم الموقع الثالث في قائمة أثرى أثرياء آسيا بعد اليابانيين والهونغكونغيين على التوالي. أما آخر التقارير في هذا السياق فيشير إلى أن المواطن الهندي موكيش أمباني (50 عاما) أطاح بعملاق السوفت وير الأمريكي بيل غيتس وتايكون المال والأعمال المكسيكي كارلوس سليم حلو وحل محلهما على عرش أغنى أغنياء العالم بثروة تقدر بنحو 63.2 بليون دولار من حصصه في مجموعات ريلاينس الثلاث الصناعية والإنشائية والنفطية، علما بأن للرجل أنشطة كثيرة أخرى. فهو إلى جانب بناء شركته لأكبر مصفاة لتكرير النفط في العالم في ولاية غوجرات، وامتلاكه لشبكة من محطات الوقود يصل عددها إلى نحو 5800 محطة، ودخوله في مشاريع التنقيب عن النفط والغاز في المياه العميقة، يمتلك شركة انفوكوم كبرى شركات الهواتف الخليوية في الهند، ويستثمر في قطاع البيع بالتجزئة من خلال سلسلة من المتاجر الكبرى في المدن الهندية الرئيسية، ويخطط لدخول قطاع الصناعات الدوائية والاستشفاء.
إلى جانب أمباني، لكن بثروات بليونية اقل، يبرز قطب صناعة الصلب لاكشمي ميتال الذي يعتبر ثاني اكبر مستثمر في هذه الصناعة على مستوى العالم بدليل امتلاكه لمصانع للصلب في جمهورية التشيك وجنوب أفريقيا، فضلا عن حصص معتبرة في شركات أمريكية ومكسيكية وفرنسية وألمانية ورومانية وكازاخية تقدر قيمتها الإجمالية بنحو 52 بليون دولار، ثم يأتي بعده البليونير المسلم عظيم هاشم بريمجي الذي جمع ثروته من العمل في قطاع البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات عبر شركته المعروفة باسم ويبرو. ومن الأسماء الأخرى كومارامانغالام بيرلا الذي صعد من خلال الاستثمار في صناعة النحاس والاسمنت والإنشاءات الهندسية، وادي غودريج الذي ينشط في قطاعات متنوعة تمتد من صناعة الأقفال والأثاث والصابون إلى صناعة البرمجيات وقطاع الخدمات الطبية، ناهيك عن عائلة تاتا المعروفة باستثماراتها الضخمة في صناعة النسيج والمركبات والآلات الثقيلة والفندقة.
وإذا سلمنا بمقولة أن ما تشهده الهند من طفرة اقتصادية قد جعلت الأغنياء أكثر ثراء، فان ما هو قابل للجدل القول بأن الطفرة المذكورة قد زادت الفقراء فقرا على نحو ما يردده البعض من أنصار التخطيط المركزي. صحيح أن نحو 450 مليون مواطن هندي لا يحصلون إلا على دولار واحد في اليوم طبقا لآخر تقرير صادر عن البنك الدولي، إلا أن الصحيح أيضا هو أن سنوات النمو والازدهار الاقتصادي قد رفعت الملايين من خانة الطبقة الفقيرة إلى خانة الطبقة المتوسطة لتصبح الهند صاحبة اكبر طبقة متوسطة في العالم بعدد يزيد عن 200 مليون نسمة أو ما يعادل أكثر من خمس سكان البلاد.
وفي هذا السياق لا بد من التذكير بأن تعاظم ثروة الأغنياء في الهند صحبها ازدياد في حجم الاستثمارات الداخلية واتساع في الأنشطة والمشاريع القديمة والجديدة، الأمر الذي انعكس إيجابا على حركة المشتريات الداخلية وسوق التوظيف ومعدلات الأجور وازدهار قطاع الخدمات وفرص التدريب، وهذا أدى بدوره إلى تحسن المستويات المعيشية للملايين من الهنود وزيادة قدراتهم الانفاقية وبالتالي تبدل أوضاعهم من حال إلى حال بما في ذلك قدرتهم على توفير تعليم عصري أفضل لأبنائهم. وبالمثل فقد كانت للظاهرة المذكورة انعكاسات ايجابية على إيرادات الدولة المتأتية من الضرائب والرسوم، وبما جعلها في وضع أفضل لجهة تحسين البنية التحتية و توفير الخدمات العامة لقطاع أوسع من المواطنين، وان كانت تلك الخدمات عاجزة حتى الآن عن الوصول إلى مستوياتها المعروفة في الدول الصناعية كما ونوعا.
غير أن هذا لا يعني أن البلاد لا تعاني من بعض الاختناقات والظواهر السلبية الناشئة من الطفرة الاقتصادية المشار إليها. إذ انه من الطبيعي حدوث مثل تلك السلبيات في غمرة التحولات الكبرى واكتواء المجموعات المهمشة والضعيفة بنارها، وهذا ما تحاول حكومة حزب المؤتمر الحالية معالجتها بحزمة من القوانين والإجراءات والسياسات الاجتماعية، خاصة وان هذا الحزب عرف تاريخيا بانحيازه إلى جموع الفقراء والمستضعفين. من هذه السياسات محاولة إعادة توزيع الأراضي واستصلاحها وزيادة إنتاجيتها كوسيلة لتأمين معيشة مئات الملايين من الفقراء القاطنين في الأرياف وبالتالي إبعاد شبح الفقر عنهم. حيث أشارت دراسة وضعتها منظمة الأغذية والزراعة الدولية مؤخرا أن إعادة توزيع نسبة 5 بالمئة من الأراضي في الهند، معطوفة على تمكين المزارعين من مصادر جيدة للري، بامكانها تخفيض معدلات الفقر بنسبة 30 بالمئة عن مستواها الحالي.
*محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh