رئيس تحرير إحدى الصحف البحرينية إتجه مؤخرا، من خلال عمود اليومي، إلى الحديث عن بورما متقمصا دور الخبير المطلع على أوضاع هذا البلد الآسيوي المنكوب بجملة من المشاكل والتعقيدات التي ما كانت لتوجد لولا ديكتاتورية العسكر منذ الإطاحة برئيس الوزراء المدني المنتخب وأحد قادة مؤتمر باندونغ الشهير وحركة عدم الإنحياز السيد أونو الذي حكم لفترة قصيرة قبل أن يطيح به إنقلاب عسكري مشؤوم في عام 1962 بقيادة قائد الجيش وقتذاك الجنرال “ني وين”.
وبطبيعة الحال فإنه ليس من حق أحد أن يعترض على الآخر تناوله للأوضاع السياسية في دولة أخرى، شريطة أن يكون هذا التناول موضوعيا ولا يستخف بعقول الناس، ولا يقلب الحقائق رأسا على عقب، ولا يعقد المقارنات المجحفة من أجل أجندات حزبية ضيقة أو دعما لمواقف شخصية خاصة. غير أن رئيس التحرير المذكور ضرب بكل هذا عرض الحائط وراح يتحدث عن المشهد البورمي غامزا من قناة ما يجري على الساحة السياسية لبلده البحرين، ولكأنما بورما هي البحرين أو البحرين هي بورما رغم علمه المسبق بأن الفرق بينهما هو كما الفرق بين الثرى والثريا، بدليل أن بورما عاشت معظم سنواتها منذ إستقلالها في عام 1948 في حروب أهلية أو عزلة دولية قاسية، الأمر الذي أفقر شعبها وحال دون تنافسها مع جاراتها في منطقة جنوب شرق آسيا في مجالات التنمية والتقدم الإقتصادي وتحديث البنية التحتية، فيما عاشت البحرين منذ إستقلالها في عام 1971 في سلام أهلي يظلله الإنفتاح والرخاء ومشاريع التنمية الجبارة التي لا تخطئها عين، والقدرة على منافسة الجيران رغم تواضع مواردها وإمكانياتها.
فمثلا هو يشيد بجهود رئيس السلطة العسكرية في بورما الجنرال “تين سين” ويصف الأخير بمحرك المياه الراكدة في بلاده، والرجل الذي حول بورما من بلد منبوذ، ومعاقب إقتصاديا، ومقاطع إقليميا ودوليا إلى بلد تسعى القوى الدولية والآسيوية الإقليمية إلى مساندته ودعمه من أجل أن يقف على قدميه ويستمر في برنامجه الإصلاحي.
والمعروف للقاصي والداني أن الجنرال “تين سين”، لئن إختلف عن كل أسلافه من ذوي البدلات الكاكية والرتب النحاسية لجهة العجرفة والتسلط والفساد، ورغم سلامة نيته وصدق توجهات الإصلاحية التي سبق وأن أشدنا بها في مقالات سابقة عن الشأن البورمي، فإن إصلاحاته حتى الآن لم تتعد إطلاقه في عام 2010 لسراح السيدة “أونغ سان سوشي” إبنة بطل الإستقلال “سان سوشي التي تتزعم منذ عام 1989 قوى المعارضة مجسدة في ما يعرف بـ “الرابطة الوطنية للديمقراطية”، والسماح لها، تحت الضغوط الدولية والإقليمية، بالمشاركة في الانتخابات التشريعية التكميلية التي جرت في عام 2011 وفازت بها. بل أن تلك الإصلاحات سرعان ما شابهها لغط كبير بسبب مواقف “تين سين” وحكومته المتساهلة إزاء ما تعرضت له أقلية الروهينغيا المسلمة (يشكلون 40 بالمائة من أصل عدد سكان بورما البالغ تعدادهم أكثر من 60 مليون نسمة) من مذابح وعمليات تهديد وتهجير قسرية، ولاسيما في ولاية راكين.
فأين هذا من الإصلاحات التي تم تدشينها في بلد رئيس التحرير، والتي لولاها لما أصدر جريدته وجلس على مقعد رئيس تحريرها، مخصصا لنفسه عمودا يوميا غالبا ما يخلط فيه الحق بالباطل. وبكلام آخر أين ما قام به الجنرال البورمي مما قام به حمد بن عيسى آل خليفة في البحرين بمجرد توليه السلطة في عام 1999 حينما بادر من تلقاء نفسه، ودون ضغوط خارجية، وقبل إنطلاق ما يسمى بـ “ثورات الربيع العربي” بعشر سنوات، إلى إخلاء السجون من كافة المعتقلين السياسيين، والسماح لكل المبعدين والمنفيين بالعودة إلى بلدهم معززين مكرمين، وإطلاق حرية إصدار الصحف وتشكيل المنظمات السياسية والنقابية والنسوية، ووضع دستور حديث للبلاد يتناغم مع كل هذه التطورات ويقننها، وهو الدستور الذي حاز على موافقة الاغلبية الساحقة من الشعب ونظمت بموجبه انتخابات حرة لتشكيل أول مجلس نيابي منذ حل برلمان السبعينات.
كل هذا معروف وموثق، لكن من يلبس نظارة سوداء، ولا يرى الأمور إلا بعين إنتقامية واحدة يستطيع بالتأكيد تقزيم ما تحقق في بلده وتضخيم ما تحقق في أماكن أخرى طلبا لتحريض الأتباع وتجييشهم ضد حكومته. ألم يذهبوا إلى جنوب أفريقيا في وفد رسمي للإطلاع كما يقولون على تجربتها في مقاومة الفصل العنصري “الأبارتيد”، كما لو كانت حكومة البحرين تمارس مع مكون رئيسي من مكونات شعبها ما مارسته حكومة “دي كليرك” وأسلافها مع الأفارقة السود!
ثم إذا كان الأمر يتعلق بالمقارنة بين دعم المجتمعين الدولي والإقليمي للإصلاحات السياسية في البحرين وبورما، فإن البحرين متفوقه على الأطلاق، لأنها نالت تأييد القريب والبعيد بإستثناء نظام التأزيم والتوتير القائم في طهران، مقارنة بتأييد متأرجح ومتأخر نالته إصلاحات بورما، ولم يــُلاحظ بصورة واضحة إلا في الإسبوع الماضي حينما إستضافت العاصمة البورمية الجلسة الـ 22 لإقليم شرق آسيا لمنتدى الإقتصاد العالمي.
وأخيرا لا بد من التطرق لنقطة في غاية الأهمية هي أنه إذا كنا حقا بصدد المقارنة العادلة بين المشهدين البحريني والبورمي. فلنقارن بين تصرفات المعارضة البورمية بقيادة “أونغ سان سو شي”، وهي معارضة رشيدة تريد تحقيق العدالة والمساواة لشعبها من خلال الحراك السلمي الحقيقي بدليل ما قالته في إحدى جلسات منتدى الإقتصاد العالمي من أنها إنسانة مسالمة وتؤمن بالطرق السلمية وبالتعاون مع المؤسسة العسكرية الحاكمة من أجل المضي خطوة خطوة نحو بناء الدولة البورمية العادلة والمستقرة التي يطمح إليها الجميع. فأين هذه المعارضة العاقلة من المعارضة البحرينية المتوترة التي يحابيها رئيس التحرير المذكور ويصمت عن تصرفاتها العبثية ولا يتعرض لها بكلة سؤ او نقد على الرغم من كل ما مارسته وتمارسه منذ فبراير 2011 من أعمال قتل لرجال الأمن وترويع للمواطنين وقطع للشوارع بالاطارات المشتعلة وتحطيم لدور العلم وإستهداف للإقتصاد الوطني وتفتيت للحمة الوطنية بهدف إسقاط السلطة الشرعية بالقوة والحلول مكانها لتأسيس دولة مذهبية طائفية. دعك من إستقوائها بالخارج المعادي للبحرين، بحسب المؤتمرات التي يعقدها رموزها في طهران ولندن وجنيف وواشنطون والعواصم الإسكندنافية.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
Elmadani@batelco.com.bh