نشرت “الأيام”، قبل أيام، مقالة لسعيد يقطين، المثقف المغربي، بعنوان “المُتخيّل الثقافي”، استلهم موضوعها من التباس نجم عن سجال سياسي، بالعامية، بين رجل وامرأة، وأدت تأويلاته الجنسية إلى ردود فعل سَرَت “سَريان النار في الهشيم”، كما يقول، وخلص فيه إلى ضرورة الارتقاء بلغة الخطاب السياسي.
وكما يليق بمرافعة تستهدف الإقناع، نجد تعريفاً أولياً للمفاهيم، ومقدمات مقتضبة، لتسويغ الخلاصة باعتبارها نتيجة منطقية لنقد ونقض آليات بعينها لم يكن للالتباس أن يحضر دونها. والواقع أن كل ما ورد، في هذه المقالة القصيرة، يفتح أفقاً واسعاً للنقاش: بشأن الفرق بين خطابات الفصحى والعامية، والمعاني المحتملة للمُتخيّل الثقافي، والمعاني المحتملة، أيضاً، “للسياسي”، و”الشعبوي”، و”الثقافي”.
فلنتأمل العبارة التالية: “إن متخيّل أي ثقافة يترسب بعيد الغور في اللغة، أي لغة، وهو يطفو كلما تم تحفيز بُعد من أبعادِه المتعددة عن طريق الاستعمال أو المقام”. تجيب هذه العبارة عن سؤال كيف يعمل المُتخيّل الثقافي، ولكنها لا تجيب عن مصادره، وعلاقته باللغة، والتفكير، والاتصال، والسياسة. وهذا ما سنعثر عليه، بطريقة تبرر إعادة النظر في العبارة نفسها، كلما تقدمنا في التحليل.
فلنفكر، أولاً، في حقيقة أن التحفيز فعل يتسم بالديمومة، فلا حضور للغة، والتفكير، والاتصال، دون تحفيز. وبهذا المعنى، فإن المُحفز الذي يستدعي متخيّلاً ثقافياً من نوعٍ ما من خصائص الدماغ الإنساني نفسه. وبفضل هذه الخاصية، بالذات، انفصل الإنسان عن عالم الطبيعة والحيوان. التخيّل، والتخييل، فعلان سبقا اللغة وأنجباها.
مع وجود اللغة يجد المُتخيِّل اسماً يمكن تصنيفه، وأرشفته في الذاكرة، وتداوله عن طريق الاتصال، ويصبح بفضل تأويله “ثقافياً”. ولا وجود، في الواقع، لمُتخيّل دون تأويل. وبقدر ما تنجح اللغة في ضبط وتوحيد تأويلات المُتخيّل يصبح ثقافياً.
وهذه نعمة ونقمة في آن، فلم تكن الحضارة ممكنة دون الثقافة، بينما أصبحت السياسة مشروطة بضبط المُتخيّل وتوحيد تأويلاته، منذ أولى المستوطنات البشرية، وحتى يوم الناس هذا. وفي هذه العلاقة الإشكالية يتجلى معنى الثقافي والسياسي، فالأوّل سياسي بامتياز، كما الثاني ثقافي بامتياز. لذلك، المُتخيّل لا يترسب في اللغة بل يسكنها ليل نهار، في مفاوضات لا نهائية للإفلات أو التماهي، وما “يطفو” على سطحها منه يفضح سرّها وسرّه.
وبهذا المعنى، تبدو الدعوة إلى ضرورة الارتقاء بالخطاب السياسي، إذا صدرت عن عامل في الحقلين الديني أو السياسي، مفهومة تماماً، أما إذا صدرت عن عامل في الحقل الثقافي، يشتغل على أسئلة اللغة والسرد والخطاب، فتبدو، بقدر ما اجتمع فيها من الديني والسياسي، محافظة تماماً.
تُحرّض على ضرورة الكلام عن المحافظة العبارة التالية في مقالة يقطين: “إن اللغة كلما كانت كتابية ارتقى مُتخيلها إلى المستوى الثقافي، الذي وصل إليه المجتمع، وكلما كانت اللغة شفاهية كانت أكثر تعبيراً عن المُتخيّل الثقافي الشعبي”.
إذا قرأنا الإحالة إلى الفرق بين مُتخيّل الكتابي والشفاهي على خلفية وظيفة اللغة في ضبط وتوحيد المُتخيّل ليصبح ثقافياً، والسياسة باعتبارها ممكنة، ومشروطة، بالثقافة، أي ضبط وتوحيد المُتخيّل، نكتشف أن قدرة اللغة على الضبط والتوحيد كلما كانت شفاهية أقل بكثير من قدرتها كلما كانت كتابية.
وإذا كان في هذا ما يجعل من العامية أكثر صدقاً في علاقتها بالمتخيّل وطريقة استدعائه والتعبير عنه، فإن فيه، أيضاً، ما يفضح الفصحى (الكتابية والشفاهية) باعتبارها أكثر كذباً في علاقتها بالمُتخيّل، وطريقة استدعائه وتعبيرها عنه. وفيه، أيضاً، ما يفسّر الشكوك الدائمة بشأن صدقية خطاب السياسة، والتسامي المُفتعل للثقافي.
نُكمل قراءة العبارة نفسها: “لذلك، أعتبر أن العلة الأولى فيما وصل إليه تواصلنا السياسي كامنة في توظيف الدراجة في الخطاب السياسي، وهذا التوظيف هو الذي يُوّلد “الشعبوية” في التصوّر والتواصل”.
مرّة أخرى، في الإحالة استدعاء لوظيفة ضبط المُتخيّل وتوحيده، التي تؤديها الفصحى (الكتابية والشفاهية) بكفاءة أكثر من العامية، ولكن للحيلولة دون توليد “الشعبوية”، التي تتجلى، هنا، باعتبارها دونية، وثيقة الصلة بلغة تبدو أكثر قابلية للإفلات من آليات الضبط والتوحيد التي توفرها الفصحى.
والواقع أن الشعبوية غير مشروطة بالعامية، بل بتحويل القائد والشعب والأمة واللغة (وهي الفصحى في كل الأحوال) والتاريخ القومي (وهو مُتخيّل في كل الأحوال) إلى أيقونات مُقدّسة لا يطالها النقد، وإلى مُتخيّلات ثقافية مُوّحَدة وموّحِدة لا يفسرها سوى حلول الروح في التاريخ. ولم يكن من قبيل الصدفة، عندما أدركت العرب حرفة الإنتاج الدرامي والتلفزيوني أنهم لفقوا مسلسلات تاريخية ينطق أبطالها المُتوهمون بالفصحى.
يقول يقطين في عبارة لاحقة، وتعزيزاً للفكرة نفسها: “اللغات الشفاهية تتطور في الشارع (…). الدارجة المغربية (…) عندما كانت متصلة بالبادية كانت أكثر رزانة ووقاراً، ولكنها ما أن صارت تتطوّر من خلال المدينة، حتى باتت أكثر عنفاً وقسوة، وكان البعد الجنسي واللاديني هو ما يحدد المكانة التي يريد المستعمل إبرازها عن نفسه في حالات الغضب والانفعال”.
نجد في الإحالة إلى رزانة ووقار العامية ما يُذكرنا بقدرة الفصحى على ضبط وتوحيد المُتخيّل، كما نجد علاقة تضاد بين براءة البادية، وغواية المدينة. وفي الحالتين يُعبّر الكاتب عن نزعة محافظة. فلنفكر، مثلاً، في حالات الغضب والانفعال باعتبارها محاولات للتمرّد على، والتحرر من، آليات الضبط والتوحيد اللغوية، ولنفكر في المدينة باعتبارها مكاناً تلتقي وتتفاعل فيه مصادر متعددة للمُتخيل الثقافي، ولننسَ البادية، فقد كانت مجرّد مُتخيّل وهمي ومتوهم لم نتحرر، بعد، من شبحه المقيم في اللغة، والمُتخيّل الثقافي، والسياسة.
khaderhas1@hotmail.com