البعض يدعي اختلاف التيار الديني المتطرف عن ذلك المعتدل، في حين لا يوجد في الخطاب الديني فرق بين خطاب معتدل وخطاب متطرف. فالإثنان يحملان نفس “المنطلقات الفكرية” ونفس “الآليات”، بينما الفارق بينهما هو في الدرجة لا في النوع، حسب ما يقول المفكر الراحل الدكتور نصر حامد أبوزيد، مضيفا أن الخطابين يعتمدان عناصر أساسية ثابتة في بنية الخطاب غير قابلة للنقاش أو الحوار أو المساومة. من هذه العناصر “التكفير” و”الحاكمية” و”النص”.
إن الخلاف بين الإعتدال وبين التطرف هو، حسب أبوزيد، خلاف هامشي وليس خلافا أساسيا، إنه خلاف حول مجال تطبيق المبدأ لا حول المبدأ نفسه، خلاف حول التوقيت أو الظرف المناسب. لذلك يُعتبر التكفير عنصر أساسي في بنية الخطاب الديني بشقيه المعتدل والمتطرف، لكنه واضح ومعلن في خطاب المتطرفين، وكامن وخفي في خطاب المعتدلين.
لقد استخدم عنصر التكفير ضد كتابات أبو زيد من قبل المعتدلين والمتطرفين، وكان آخر استخدامات ذلك العنصر اتفاق المعتدلين والمتطرفين الدينيين في الكويت على منعه من دخول البلاد. هذا الاستخدام طال أيضا الكثير من الكتاب والمفكرين والأدباء والفنانين ورجال الدين في الوطن العربي، لعل أبرزهم هو تجربة الراحل نجيب محفوظ.
يعتقد أبو زيد أن دعوة الإسلام في جوهرها هي دعوة لتأسيس العقل في مجال الفكر، والعدل في مجال السلوك الاجتماعي، وذلك بوصفهما نقيضين للجهل والظلم. كما يعتقد أن تاريخ الثقافة الإسلامية ظل حريصا على نفي أي تعارض بين الوحي والعقل، وأن النقل إنما يثبت بالعقل، وأن العقل هو الأساس في تقبل الوحي. ويرى أن أولى محاولات إلغاء العقل لحساب النقل تعود إلى حادثة رفع المصاحف وتحكيم القرآن من جانب الأمويين في موقعة “صفين”، حيث يعتبر ذلك نقلا للصراع من المجال السياسي إلى مجال الدين والنصوص، وهو ما يؤدى إلى تحول العقل لتابع للنص.
إن تحكيم النصوص في المجال السياسي، حسب أبوزيد، يهيئ لـ”شمولية” النصوص و”هيمنتها” في الخطاب الديني، وهو ما يؤدي إلى القضاء على استقلال العقل بتحويله إلى تابع يقتات بالنصوص. لذلك، يعتقد أبوزيد أن الخطاب الديني، وبالذات السلفي، لا يؤسس “النقل” لأنه ينفي أساسه المعرفي وهو العقل، وهو ما كانت نتيجته تغريب الإنسان في الواقع وإفساح المجال لتحكم سلطوي من نوع خاص. فالخطاب الديني منع العقل الإنساني من التواصل “تأويلا” مع الخطاب الإلهي “المنزّل بلغة الإنسان”، وهو ما أدى إلى تعميق الهوة بين الإلهي والإنساني، وإعادة صياغة المفاهيم الدينية بإعادة تأويلها لتصب في أيديولوجيا “الحاكمية”، التي تحث على إلغاء فاعلية العقل وتسليم الإنسان مقيدا إلى سلطة من نمط خاص. وتعتبر دعوى احتكار الحقائق وما يترتب عليها من دعوى احتكار القرار هي الأساس النظري لمفهوم الحاكمية.
يحتج أبو زيد على إصرار الخطاب الديني على اختصار علاقة الإنسان بالله في بعد واحد فقط هو العبودية، التي تتحول بفضل الحاكمية إلى عبودية الإنسان لإنسان من نوع خاص هو الفقيه، أي تقليد بشر يزعمون لأنفسهم احتكار حق الفهم والشرح والتفسير والتأويل وأنهم وحدهم الناقلون عن الله، وحصر فاعلية الإنسان في الطاعة والإذعان، حيث تحرم عليه السؤال أو النقاش، وأن أي نضال ضد حاكمية الفقهاء يوصم بالكفر والإلحاد والزندقة بوصفه تجديفا وهرطقة ضد حكم الله، الأمر الذي ينقل مجال الصراع من معركة بين البشر والبشر إلى معركة بين البشر والله.
في حين من وجهة نظر أبوزيد فإن الإسلام حرر الإنسان من سيطرة الأوهام والأساطير على عقله، وحرر وجدانه وعقائده من كل ما يعوق حريته، وأن الذي يقوم على التسليم على مستوى العقيدة هو الإيمان فقط، وهو مستوى قلبي شعوري دون تأويل أو اجتهاد أو تدخل للبشر.
يطرح أبوزيد مسألة “البعد التاريخي للنص الديني” بوصفه إشكالية يتعمد الخطاب الديني تجاهلها، وهو ما يتعلق بتاريخية المفاهيم التي يطرحها النص الديني بوصفها نتيجة طبيعية لتاريخية اللغة التي صيغ بها هذا النص. وهذه التاريخية تتضمن البعد الاجتماعي للنص وعلاقته بما يدل إليه. فوفق أبوزيد ليس ثمة عناصر جوهرية ثابتة في النص، بل لكل قراءة بالمعنى التاريخي الاجتماعي جوهرها الذي تكشفه في النص.
يريد أبو زيد لتجديد فهم النص الديني أن يتجاوز فهم الفقهاء وألا يقتصر على النصوص التشريعية دون نصوص العقائد أو القصص. ويشدد على أن النصوص، بشرية كانت أو دينية، محكومة بقوانين ثابتة، وأن المصدر الإلهي للنص لا يخرجها عن هذه القوانين لأنها “تأنسنت” منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر.
إن النصوص وفق أبو زيد، وبالذات تلك التي دونت وسجلت منذ لحظة ميلادها، ثابتة في “المنطوق” متحركة متغيرة في “المفهوم”، أما النصوص التي خضعت لآليات الانتقال الشفاهي (أي الأحاديث) فإنها تفقد صفة ثبات المنطوق. وأفق القارئ الفكري والثقافي، وفق أبو زيد، يتدخل في فهم لغة النص وفي إنتاج دلالته، لكن الخطاب الديني لا يعترف إلا بفهم يجمد دلالة النصوص في قوالب مجمدة. والنص الديني (القرآن) منذ لحظة نزوله الأولى، أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي، تحول من كونه نصا إلهيا وصار فهما إنسانيا، لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل. ففهم النبي للنص يمثل أولى مراحل حركة النص في تفاعله بالعقل البشري.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com
المنطلقات الفكرية في الخطاب الديني وفق ابو زيد
الهادي المزوغي — hedi.mzoughi@gmail.com
رحل أبو زيد ولكن فكره باق حي تتناقله الأقلام وتتفاعل معه العقول والنفوس.ومساهمة فاخر سلطان تمثل قراءة ثرية جادة تميط اللثام عن يعض منطلقات حامد أبي زيد في بنية الخطاب الديني في علاقته المزدوجة بعالم السماء وعالم الأرض أي الوحي والنص واللغةوالتاريخ والعقل والنقل وطبيعة الفهم والتأويل .وكل هذه المنطلقات مترايطة متشابكة استطاع فاخر سلطان أن يقدمها بأسلوبه الدقيق الواضح وبخطاب استدلالي مقنع