“من رأى منكم عراقياً فليذبحه بيده فان لم يستطع فبمدفع هاون وان لم يستطع فبسيارة مفخخة وذلك أضعف الإيمان”
موفق محمد أبو خمرة (فتاوى للإيجار – 2005)
*
لا عجب أن يتعرض المسيحيون في الموصل للقتل والتهجير، فقد تعرضوا لذلك سابقا في بغداد والبصرة وغيرهما مثلهم مثل الصابئة واليزيديين والشبك، فهم وفق الدستور القائم ليسوا بمواطنين كاملي الحقوق بل مجرد “مكوّن”، أحد المصطلحات المتعددة في عراق العهد الجديد التي أخذت طريقها كالحرباء إلى الثقافة السياسية العراقية. و”المكون” هذا قد يكون كبيرا أو صغيرا، وقد يكون دينيا أو قوميا أو مذهبيا، ولكنه في جميع الأحوال مختزل (بكسر الزاي) ولاغ لمفهوم المواطن الفرد ذي الحقوق الثابتة غير القابلة للنقض. إذ يحدد حجم المكون مقدار سلطته وامتيازاته وحقوقه بل وحتى قيمة حياة أبناءه وبناته. إنه معيار الغاب في القرن الحادي والعشرين بعد أن أفنت البشرية قرونا في النضال من أجل مفاهيم المواطنة المتساوية وقيمة الإنسان بذاته لا بلونه أو بعرقه أو بمعتقده أو بانتمائه السياسي.
و في ظل ثقافة “المكونات” اللاديمقراطية وتكريسها دستوريا وتنفيذيا عن سبق إصرار وترصد، بات من الطبيعي وفق قوانين الطبيعة أن يحاول “المكون الأكبر” التهام حقوق “المكون” الأصغر إن لم يكن التهامه ذاته بالكامل كما في عالم الحيوان، وبذا تتكرس مفاهيم الأكثرية والأقلية، حيث لا حقوق متساوية بل هبات من الأولى للثانية في حالات التجلي، وعنف في حالات أخرى، وفي جميع الأحوال مصادرة واختزال المواطنة من الدرجة الأولى في المكون الأكبر، وترك فتات المواطنة للمكون الأصغر، واستمرار إمكانيات الصدام بين المكونات ما دام قاسم المواطنة المشترك غائبا .
ولذا وفي ظل هذه الثقافة الهجينة قانونيا وحقوقيا، من الطبيعي أيضا أن تتأسس حكومات المحاصصة بين “المكونات” لا حكومات الانتخاب الحر المباشر لمواطنين بواسطة مواطنين آخرين يقرءون برامجهم السياسية وينتخبونهم على أساسها، حيث تتأسس الشراكة بين الناخب والمنتخب وفق الرؤية المشتركة لمصلحة الوطن ككل كما هو الحل في ديمقراطيات العالم المتقدم. ففي ظل ثقافة المكونات، يصبح الناخب جزءا من “مكون” يلتزم جمعيا ويفكر جمعيا وينتخب جمعيا، حيث لا إرادة حرة ولا فردانية، فيصبح تصويته بيعة لا انتخابا حاله حال قرينه في “ديمقراطيات” الشمولية والاستبداد. ويتناسخ هذا النوع من الثقافة عموديا وينعكس على العلاقة بين المكون “الأصغر” وذلك الذي يصغره وهكذا يتم نقل معادلة الاستبداد “المكونية” بمختلف صورها الاقتصادية والسياسية والدينية والمذهبية من أعلى الهرم إلى قاعدته. ولذلك عمل ناشطو حقوق الإنسان عبر عقود من الصدام مع الاستبداد والشمولية ونظم الانتهاك على الدعوة لدول وأنظمة وحقوق وتشريعات المواطنة الحرة المتساوية، وعلى ذلك الأساس ولد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الوثيقة الأكثر نضجا والأقل شعبية بين السياسيين ومن يتبعهم من الكتبة في مناطقنا المنكوبة تحت مختلف اللافتات والشعارات، فالقمع وانتهاك الحقوق وصولا إلى التهجير والقتل الفردي والجماعي انعكاس مباشر لثقافة المكونات المقرة دستوريا ، حيث التبرير الإيديولوجي حاضر دوما بين أيدي القتلة من أتباع هذا “المكون” أو ذاك. وفي هذا الإطار، قتل السنة والشيعة بعضهم البعض، وقتل الشيعة والسنة أبناء “مكونهم” ذاته، وقتل كلاهما آخرين من “مكونات” أخرى، وانسحب ذلك على العراق ككل.
عندما خرجت القوى السياسية العراقية بالدستور العراقي الجديد (ولا أعلم بالضبط من كتبه) وبرعاية واستشارة غربية لم تؤد الأمانة كما يجب (حقوقيا لا مصلحيا)، وفي ظل ثقافات المكونات وردود الأفعال والمظلومية عوضا عن ثقافة بناء وطن جديد حر ومواطن عصري يستحق على أقل تقدير أن يتمتع بحد أدنى مما يتمتع به الآخرون على وجه الأرض، جاءت تلك القوى بنص ينادي صراحة بأوطان ضمن الوطن، بما يتجاوز كثيرا الأنظمة الفدرالية وحتى الكونفدرالية. فبات “للمكونات” حقوق تأسيس أوطان لا قيود لها، تعرّف حدودها وخرائطها مذهبيا ودينا وقوميا، وفق ما حاولت الولايات المتحدة وحليفاتها تطبيقه في يوغسلافيا السابقة وكوسوفو، وابتلعت لسانها غيظا عندما كال لهم الروس الصاع صاعين في أبخازيا و أوسيتيا الجنوبية تحت نفس الذريعة.
في عراق اليوم، وضمن ما يروج له بالأقاليم، مشاريع صريحة لدول شيعية وسنية وكردية. وإن كان للقضية الكردية خصوصية كونها تشمل شعبا ذي لغة وثقافة خاصة وحقوقا شرعية لا غبار عليها، فإن حكاية الدولتين الشيعية والسنية لا تعكس سوى العجز الإنساني و العقلي والفكري عن التعايش رغم المرجعية القومية والدينية المشتركة والوطن الواحد الذي كان، حتى باتت أية خطوة حكومية “عراقية” التوجه تواجه بالنواح والتحذير من عودة الشمولية وعسكرة المجتمع والانقلابات، وكأن العراق لا يستحق أكثر من أن يكون شبه دولة تحكمه طالبان عراقية متعددة الألوان.
وعندما نتحدث عن الكرد اليوم، الذين باتت سياساتهم وخطابهم مصدر إحباط لكثيرين من مثقفي العراق وكتابه وناشطيه الذين افنوا معظم تأريخهم السياسي في الدفاع عن قضية الكرد وحقوقهم ، فإننا لا نتحدث عن الشعب الجميل الذي انجب عبدالله كوران وشيركو بيكه س ونوزاد على أحمد ورعد عبدالقادر وجلال زنكابادي، ولا عن الجبال الخضراء وغابات السماق والزنبق، وإنما عن الساسة الذين صوروا للأجيال الجديدة من شعبهم بأن حلم كردستان لا يمكن أن يتحقق إلا على أشلاء العراق كما أفصح بيان الرئاسة الكردستانية عند نشر مشروع “بايدن” سيء الصيت، ذلك الجيل الذي يجهل كم من العراقيين من غير الكرد قد سقط من أجل القضية الكردية في سهول كردستان وجبالها، ذلك غير سقف المطالب المتصاعد باستمرار مشوبا بلغه تهديد غريبة وغير مسبوقة وقراءة غير متوازنة للتاريخ والجغرافيا إلى الدرجة التي لم يعد من المجدي عندها الحديث عن نيل الحقوق المشروعة ومناقشة طبيعة العلاقة مع العراق عبر التفاوض المتوازن والمتكافئ بين النخب السياسية والثقافية والشعبية بعد استقرار العراق ووضعه على الطريق الصحيح للديمقراطية والتنمية، ناهيك عن أن “جو بايدن” شخصيا قادم إلينا، برفقة باراك اوباما نائبا له ومنظرا لسياسته الخارجية، ليحقق لنا حلم دويلات “المكونات” وفق مشروعه الآنف الذكر، الذي أقره الكونجرس الأمريكي بصفة قانون غير ملزم، والتي قد يأتي في ظلها يوم ليس ببعيد يحتاج فيه البغدادي تأشيرة دخول لزيارة الناصرية أو كفيلا ليعمل في البصرة.
لم ير التأريخ الحديث تشظية مبرمجة للنفوس قبل الأرض كما حدث في العراق باستخدام أوسخ وأنجح سلاح عرفه الطغيان منذ أن رأت البشرية النور، ذلكم هو غسيل المخ الجمعي باستخدام “المقدس” الذي يمكنه تحويل رجل الشارع قاتلا، وتلميذة المدرسة قنبلة متحركة، وخطيب الجامع رئيسا لعصابة. وقد ينجح هذا المشروع لعام أو عامين أو عشرة، وقد لا ينجح. وقد يسكب العراق مزيدا من الدماء والدموع، وقد يأتي يوم نطالع فيه أطلس العالم فلا نرى فيه عراقا، إلا أن سقف التفاؤل لا حدود له، وها هو تأريخ العالم يروي بأن أية تسوية قسرية لقضية رغم أنف التأريخ والجغرافية والمنطق تلد عشرات القضايا الانفجارية الأخرى، وإن صارت للشيعة والسنة في العراق دول، فقد يأتي يوم يصبح فيه للكلدان والأثوريين واليزيديين والصابئة دول، فتذيق الدول الكبرى “المكونات” التي تعتقد بأنها كبيرة من نفس الكأس التي سقتها تلك المكونات لقريناتها الأصغر، وتعم الفوضى حتى تضطر للعودة إلى النظام وفق قوانين الطبيعة.
لا يحتاج المرء إلى كثير من العقل (وإن احتاج ربما لكثير من الوقت) ليستنتج بأن المشروع السياسي الديني ووليده غير الشرعي المذهبي الذي يٌدفع العراق إليه دفعا سائر إلى زوال، وأن الهش من المشاريع مما يفرض اليوم قد ينهار بأسرع مما يتوقع منظرو فكر الوهم والخرافة، وبأن بغداد ليست “قمّ” أو قندهار، ولن تكون.
skhalis@yahoo.com
* كاتب عراقي
ايلاف
المسيحيون.. وآخرون وبغداد قم وقندهار1. ينهي الكاتب مقاله بطموح أشاركه به. فهو يقول (وبأن بغداد ليست “قمّ” أو قندهار، ولن تكون.) .. لكنني تأملت العبارة: لم لا تكون بغداد قم أو قندهار؟ ما المانع؟ ما هي العناصر التي تعرقل ذلك؟ أن من يريد أن يجعل من بغداد قم أو قندهار هم المتنفذين . فالحكيم والقاعدة أكثر قوة من الشعب الأعزل الذي يطمح كالأستاذ سعد صلاح خالص ولكن هل بيده حيلة؟ كما أن مستقبل الوطن من صناعة الأنسان. الأقوى هو المنتصر في عالم السياسة. والشعب العراقي بسيط وساذج ولاحيلة له وتخدعه أصوات الحكيم والبغدادي ويغريه دولار المحتل الامريكي. من سيقف امام… قراءة المزيد ..