المسيحيون في لبنان يحسون بالتأثير المناخي من أحوال شجرة الأرز

0
إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...

بشري (لبنان) – أحاطت أشجار الأرز بالعشرات من المسيحيين اللبنانيين الذين تجمعوا خارج كنيسة مبنية خلال القرن التاسع في غابة جبلية للاحتفال بعيد تجلي المسيح أمام تلاميذه على قمة الجبل. وأشعّ نور الشمس في غروبها عبر أغصان الأرز على بطريرك أنطاكية الماروني بشارة الراعي بينما كان يقف على منصة خشبية ويلقي خطبته. وأنشد السامعون بعد ذلك الترانيم باللغة العربية والآرامية.

 

 

وتعتبر أشجار الأرز دائمة الخضرة مقدسة بالنسبة إلى المسيحيين في لبنان. ويُذكر أنها أشجار صلبة تصمد في وجه فصول الشتاء الثلجية القاسية في الجبل. ويشير المتدينون بفخر إلى أرز لبنان المذكور في الكتاب المقدس 103 مرات. وتبقى شجرة الأرز رمزا للبنان، وتتوسط علم البلاد.

وتظل الأشجار الشهيرة المنتشرة في شمال لبنان بعيدة عن الاشتباكات بين مقاتلي حزب الله والقوات الإسرائيلية على طول الحدود الجنوبية. وتقول الحكومة اللبنانية إن استخدام إسرائيل للفسفور الأبيض وغيره من الأسلحة الحارقة أحرق عشرات الآلاف من أشجار الزيتون وغيرها من المحاصيل في المنطقة الحدودية، ويخشى المزارعون اللبنانيون الفقراء أن تفسد القذائف جودة ترابهم.

لكن بقاء غابات الأرز على المدى الطويل أصبح موضع شك لسبب آخر؛ إذ يهدد ارتفاع درجات الحرارة الناتج عن تغير المناخ بالقضاء على التنوع البيولوجي وتشويه أحد مواقع التراث المسيحي الأكثر شهرة في البلاد.

 

وتعد غابة أرز الرب الخضراء، التي ترتفع حوالي ألفي متر فوق مستوى سطح البحر بالقرب من بلدة بشري الشمالية، من المناظر الطبيعية التي يعتز بها المسيحيون. وكانت المحمية على وادي قاديشا (المقدس بالآرامية) مكانا لجأ إليه العديد من المسيحيين هربا من الاضطهاد على مدى تاريخ لبنان المضطرب. ولا تزال واحدة من أكبر مجموعات الأديرة في العالم موجودة بين الأشجار الكثيفة والكهوف على امتداد الوادي العميق الذي يبلغ طوله 35 كيلومترا.

وأدرجت اليونسكو في 1998 غابة الأرز والوادي ضمن مواقع التراث العالمي. وأصبحا من الوجهات الشعبية للزوار والمدافعين عن البيئة من جميع أنحاء العالم. ويقصدهما أيضا عدد متزايد من اللبنانيين من جميع الأديان بحثا عن الهواء النقي بعيدا عن المدن.

وقال الكاهن المسيحي الماروني هاني طوق بينما اصطحب حشدا من السياح حول دير القديس إليشع “يزور الكثيرون من جميع الأديان هذا المكان، وليس المسيحيون فقط… نستقبل المسلمين والملحدين. إن ديننا يذكرنا بجميع القديسين الذين عاشوا هنا، ونحن نعيش تجربة وجودنا في هذا البعد المقدس”. ويقول علماء البيئة والسكان إن آثار تغير المناخ المتفاقمة بسبب سوء الإدارة الحكومية تشكل تهديدا للنظام البيئي في الوادي وغابة الأرز.

وقال شربل طوق، وهو مهندس بيئي وناشط في بلدة بشري، لأسوشيتد برس “من الممكن أن نشهد تراجع التنوع البيولوجي في وادي قاديشا بعد ثلاثين أو 40 عاما من اليوم، بعد أن كان من أكثر المساحات ثراء على هذا المستوى”.

ويشعر لبنان منذ سنوات بارتفاع درجات الحرارة بسبب تغير المناخ، حيث اشتكى المزارعون من قلة الأمطار، ودمّرت حرائق الغابات غابات الصنوبر شمال البلاد، هذا دون أن نتحدث عن الحرائق التي اشتعلت في الغابات في سوريا ولبنان المجاوريْن. ولم يعد السكان الذين يعانون من انقطاعات الكهرباء المتفشية في معظم أنحاء البلاد قادرين على تحمل حرارة الصيف الحارقة.

لقد تجاوزت الحرارة 30 درجة مئوية في بلدة بشري، وهو أمر قد يحدث في مدن لبنان الساحلية، لكنه يُعدّ غير عادي بالنسبة إلى المدينة الجبلية الشمالية.وكانت الراهبات في دير قنوبين الذي يعود إلى القرون الوسطى، والذي يقع على جانب تلة في وادي قاديشا، يهوّين أنفسهن ويشربن الماء في ظل فناء الدير. وهنّ لا يتذكرن آخر مرة نِمْنَ فيها بشكل مريح خلال الصيف دون الحاجة إلى الكثير من الكهرباء.

وتتعدّد بالفعل العلامات المثيرة للقلق حول تأثير الطقس على الأرز وقاديشا. وقال شربل طوق إن درجات الحرارة المرتفعة جلبت حشرات المن التي تتغذى على لحاء أشجار الأرز وتترك إفرازات يمكن أن تسبب العفن. ويساهم النحل عادة في إزالة الإفرازات، لكنه أصبح أقل نشاطا. كما تبقى حشرات المن والآفات الأخرى لفترة أطول في الموسم وتصل إلى ارتفاعات أعلى بسبب الطقس الدافئ وتهدد بإعاقة نمو شجر الأرز أو إتلافه.

ويشعر طوق بالقلق من أن أشجار الأرز الموجودة على ارتفاعات منخفضة قد لا تتمكن من البقاء إذا استمر تغير درجات الحرارة. وأصبحت الحرائق الأكثر خطورة أكثر احتمالا.

وتنمو أشجار الأرز عادة على ارتفاع يتراوح بين 700 و1800 متر فوق مستوى سطح البحر. وعلى مدى سنوات عملت منظمة طوق على زراعة نحو 200 ألف شجرة أرز على ارتفاعات أعلى وفي مناطق لم تكن موجودة فيها. ونجت حوالي 180 ألف واحدة منها. وتساءل طوق، بينما كان يتفقد مزرعة أرز على قمة تلة نائية، “هل جعل تغير المناخ أشجار الأرز هذه قادرة على البقاء على ارتفاع 2100 إلى 2400 متر أم أن الأمر يرجع إلى سبب آخر؟”.

وحثّ القساوسة المحليون والناشطون البيئيون الحكومة اللبنانية على العمل مع الجامعات لإجراء دراسة واسعة النطاق حول التغيرات في درجات الحرارة وتأثيرها على التنوع البيولوجي. لكن لبنان يعاني من أزمة اقتصادية خانقة منذ سنوات. وفرغت خزائن الدولة، ويبحث العديد من كبار الخبراء في البلاد عن فرص عمل في الخارج.

وقال فريدي كيروز رئيس بلدية بشري “لا يوجد اليوم شيء اسمه دولة.. لم تعد الوزارات المعنية تملك الإمكانات المالية”. وطلب مع رؤساء بلديات البلدات المجاورة المساعدة في مبادرات الحفاظ على البيئة، كما طلبوا من المغتربين اللبنانيين في الخارج المساعدة في التمويل.

وتتّبع الكنيسة المارونية قواعد صارمة لحماية غابة أرز الرب، بما في ذلك إبعاد أيادي التطوير عنها. وأبقِيَ موقف السيارات الكبير والأكشاك والمحلات السياحية بعيدة عن الغابة. وقال شربل مخلوف، وهو كاهن رعية مار سابا في بشري، “لا نسمح بإدخال أي شيء قابل للاشتعال إلى الغابة المقدسة”.

وترعى لجنة أصدقاء غابة الأرز، التي ينشط فيها طوق، أشجار الأرز منذ حوالي ثلاثين سنة بدعم من الكنيسة. ونجحت في تركيب أجهزة استشعار على الأشجار لقياس درجة الحرارة والرياح والرطوبة، ومراقبة العوامل التي قد ترفع خطر حرائق الغابات. ويشير طوق إلى مخاوف أخرى في وادي قاديشا، حيث يهدد انتشار أشجار السرو بمزاحمة الأنواع الأخرى “وكسْر هذا التوازن الموجود في الوادي”.

وقال طوق “نراها (أشجار السرو) تتزايد وتتفوق على الأنواع الأخرى، سواء كان ذلك بسبب تعرضها لأشعة الشمس أو الرياح أو توسيع جذورها. سيؤثر ذلك على النباتات والطيور والحشرات الأخرى وجميع أنواع الزواحف الموجودة”.

ويرى طوق أن خطوات حماية الوادي أضرت بالفعل بتنوعه البيولوجي من خلال إقصاء الممارسات البشرية التي كانت مفيدة. وساعد الرعاة بمواشيهم في الماضي على منع انتشار أنواع النباتات الغازية. كما ساهم الرعي وتجميع الأسر المحلية للأخشاب الميتة من أجل التدفئة خلال الشتاء في تقليل مخاطر الحرائق.

لكن السكان غادروا الوادي عندما أصبح موقعا تراثيا وطبّقت الحكومة اللبنانية لوائح صارمة عليه. وأصبح جلّ الموجودين هنا ككهنة وراهبات. وقال طوق “طغت الأشجار على الأماكن التي يعيش فيها الناس ويزرعونها. ويمكن أن تنتقل النار الآن من أحد أطراف الوادي إلى الطرف الآخر”.

واستمع الأب هاني طوق إلى زقزقة عصافير الوادي، وهو جالس في مغارة قريبة من دير قنوبين. وقال إنه يؤمن بالمجتمع ووعيه المتأصل بالطبيعة منذ أن لجأ أسلافه إلى المنطقة. وأضاف “عندما تنتهك تلك الشجرة، فإنك تمسّ تاريخا طويلا، وربما مستقبل أطفالك”.

 

اترك رد

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading