تاريخيّاً، كان المسيحيون في الشرق الأكثر إنفتاحاً على التعليم الغربي والثقافة الغربية، وحتى على أنماط الحياة الإجتماعية الغربية، الأمر الذي أعطى بعض المدن المشرقية، وخصوصاً، بيروت، نكهةً مختلفة ومحبّبة! وشكّل المسيحيون رافعة تقدّم لبلدان المنطقة، خصوصاً في لبنان وسوريا، بفضل الإرساليات والمدارس والجامعات الأجنبية إلى حد كبير، كما تأثّر بإنتاجهم اللغوي والأدبي والفنّي معظم العالم العربي، وصولاً إلى الجزائر وليبيا وتونس.
الأقباط المصريون، وهم أغلبية المسيحيون العرب، لم يلعبوا دوراً ثقافياً مميّزاً، ربما لأنهم افتقدوا المؤسسات التعليمية الممتازة التي عرفها المشرق العربي. ففي مصر، كان “الأزهريون”، وللمفارقة، هم حَمَلة الفكر الليبرالي العربي، وأعطت مصر “المسلمة” للفكر العربي بعض أرقى نماذجه، من علي عبد الرازق إلى طه حسين، ونجيب محفوظ وغيرهم كثير.
المسيحية العربية أرثوكسبية بنسبة لا تقل عن 70 بالمئة على الأرجح، ولكن لقاء البابا مع بطريرك القسطنطينية في الأراضي المقدّسة مؤشّر على تقارب لم يلاحظه كثيرون بين الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية باتجاه نوع من.. الوحدة، مع استثناء الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، التي ربما تظل كنيسة “روسية”!
وإذا كان البابا فرنسيس “يسوعياً”، فقد درس بطريرك الأرثوذكس اليونانيين في معهد “اليسوعيين” في روما!
ومع أن اليهود العرب، الذين تضاءلت أعدادهم كثيراً، للأسف الشديد، لعبوا دوراً كبيراً في الموسيقى العراقية والخليجية، فلم يكن لهم دور ثقافي واجتماعي وسياسي كبير في العالم العربي الحديث، ربما لأنهم كانوا أقل اندماجاً ببيئتهم، أو ربما لافتقادهم مؤسسات تعليمية راقية ومفتوحة لأبناء الطوائف الأخرى.
الوجود المسيحي في الشرق الأوسط ضرورة للمنطقة لأنه دليل تنوّع، ولأنه رافعة تقدّم في أنحاء كثيرة. وهذا، بالذات، ما جعلهم هدفاً للجماعات الإسلامية المتشددة في العراق خصوصاً. ولكن، كذلك، في لبنان، حيث يسعى حزب الله لاستبدال نموذج الدولة اللبنانية “الوسطي” (دينياً وسياسياً)، وهو، على علاته، أفضل إسهام سياسي شاركت المسيحية الشرقية بصنعه، بنموذج شمولي إيراني يخضع لسيطرة الحزب الواحد، ولسيطرة الطائفة الواحدة على التنوّع الطائفي، ولسيطرة نمط إجتماعي واحد (متّشح بالسواد) على التنوّع الإجتماعي الذي عرفه حوض المتوسط طوال تاريخه!
هل تواجه المسيحية الشرقية خطر الإندثار؟ ذلك مستَبعد، مع أنهم سيظلّون يواجهون موجات اضطهاد وإرهاب حيث يتقدّم الإسلام الأصولي، السنّي ولكن الشيعي أيضاً.
والمفارقة هنا هو أن صعود الإسلام السلفي المتخلّف، والهمجي، في بعض أطراف المنطقة العربية (نماذج الزنداني، وبين لادن..) أعاد الإعتبار للمسيحية، التي تخلو من الفتاوى الغريبة العجيبة، ومن فتاوى القتل خصوصاً، حتى في.. اليمن حيث اعتنق أفراد من النخبة المسيحية سرّاً!
وبشكل أو بآخر، فإن الليبرالية العربية تتأثّر بـ”المسيحية”، سواءً كدين تعرّض لثورات إصلاحية منذ قرون، أو كـ”بيئة” أوروبية وأميركية “علمانية” ولكن جذورها المسيحية ما تزال ظاهرة!
بيار عقل
*
يبدأ البابا فرنسيس زيارة للأردن والضفة الغربية وإسرائيل يوم غد السبت. وقد أعرب البابا الجديد في عدة مناسبات عن قلقه إزاء أوضاع المسيحيين في الشرق، الذين قال أنهم “يعانون معاناة صعبة نتيجة للتوترات والتزاعات الناشبة في عدة أنحاء من الشرق الأوسط”. وبعد اجتماعه مع مسؤولين دينيين مسيحيين من المنطقة في الخريف الماضي، قال البابا فرنسيس أنه ومسؤولو الكنيسة الكاثوليكية “لن يذعنوا لتصوّر شرق أوسط خالٍ من المسيحية”.
كيف تطوّرت أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط؟
بين العام 1900 والعام 2010، ارتفع العدد الإجمالي للمسيحيين في المنطقة- بما فيها مصر، والعراق، وإسرائيل، والأردن، ولبنان، وسوريا، والأراضي الفلسطينية- من 6،1 مليون إلى 5،7 مليون.
ولكن، في حين تضاعف عدد المسيحيين بنسبة 4 أضعاف، فإن عدد سكان الشرق الأوسط من غير المسيحيين تزايد بنسبة 10 أضعاف. وبالنتيجة، انخفضت نسبة المسيحيين من مجموع سكان المنطقة من 10 بالمئة في العام 1900 إلى 5 بالمئة في 2010.
وفي السنوات الأخيرة، كان المسيحيون في المنطقة أكبر سنّاً، وينجبون عدداً أقل من الأطفال، وأكثر ميلاً للهجرة، مقارنةً بالمسلمين.
ومنذ العام 2010، حدثت تغييرات كبيرة في التركيبة السكانية للمنطقة بسبب الحرب في العراق وسوريا، والمشاكل في بلدان أخرى، وما نجم عنها من هجرات. ولكن، لا توجد أرقام كافية يمكن التعويل عليها لقياس التحوّلات السكانية على مستوى المنطقة في السنوات الأخيرة. وقد غادر مسيحيون كثيرون العراق في السنوات الأخيرة، وفرّوا إلى بلدان مجاورة بينها الأردن.
وأظهرت أبحاث مركز “بيو” أن التوتّرات الإجتماعية المرتبطة بالأديان قد تزايدت في المنطقة منذ العام 2007. وواجه المسيحيون مضايقات في القسم الأكبر من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تفوق ما تعرّضوا له في أية منطقة أخرى من العالم في العام 2012 (آخر سنة تتوفّر بيانات إحصائية حولها).
إن معظم مسيحيي الشرق الأوسط (56 %) هم من الأرثوذكس الشرقيين، بما فيها الأقباط الأرثوذكس ، والروم الأرثوذكس، والكنائس السريانية الشرقية. ويشكل الكاثوليك أقلية بين سكان الشرق الأوسط المسيحيين (27 %) ولا يتجاوز عددهم في الشرق الأوسط 2 مليون. أما بقية المسحيين فهم من البروتستانت (7 %).
وتضمّ مصر أكبر عدد من المسيحيين في الشرق الأوسط وفقاً لتقديرات مركز “بيو”، ووفقاً للإحصاءات الرسمية المصرية. ولكن قادة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية يُعطون أرقاماً تفوق بكثير الأرقام التي تتضمّنها الإحصاءات المصرية الرسمية.