إذا نظرنا في التعبير الشهير «الكتائب الفاشيّة» وطبّقناه على ما يجري الآن في لبنان، خرجنا بمعنى جديد كلّ الجدّة للفاشيّ: إنه من يُقتَل أكثر ومن يخاف أكثر ومن يُهدَّد أكثر.
يقال هذا وفي البال نسبة الكتائبيّين الذين سقطوا ضحايا اغتيالات منفّذوها هم الأقرب، بلا قياس، لأن يكونوا فاشيّين. وما يصحّ في الكتائبيّين خصوصاً يصحّ عموماً في الـ14 آذاريّين الذين وحدهم يُغتالون على نحو صار الشكّ فيه سبباً للارتياب بالمشكّك.
وكان يمكن القول، على ما يفعل البعض، إن أميركا تقف وراء أفعال الاغتيال لولا أن أميركا وسفيرها متّهمان، من المصادر نفسها، بالتدخّل في لبنان لمصلحة النصف زائد واحد. وهو ما يعني أن الأميركيّين وسفيرهم، ومن ورائهم إسرائيل التي يقضي الواجب بأن نتّهمها، لن يعملوا على إنقاص الأكثريّة التي هي «عميلتهم».
والأمر نفسه ينطبق على قوى 14 آذار التي يُستَبعد، فيما هي متّهمة بالسعي الى قضم المزيد من السلطة، أن تقوّض عناصرها الذين بهم ستمارس القضم.
وهذا وذاك يظهّران عدداً من الحقائق التي يصعب حجبها: فهناك، في لبنان اليوم، تشيع لغة شعبويّة هي بعض ما تعمّمه أزمنة القرف واليأس والشعور بالانسداد السياسيّ، مفادها أن السياسيّين متساوون في المسؤوليّة عمّا يحصل. وهذا ليس صحيحاً، إذ ليس الذين يُقتلون متساوين مع الذين يستفيدون من إنقاص عددهم. والأمر ليس دفاعاً عن 14 آذار التي قد يُقال من الكلام النقديّ، في قادتها وفي سلوكهم، ما يكاد يكون نقضيّاً. بيد أن شرط محاسبتهم مرهون بوجود دولة وقانون وحدود دوليّة وسلاح محصور في يد السلطة الشرعيّة. أما معارضو 14 آذار، في المقابل، فهم الذين يمتدّ أذاهم الى الأساسيّات، حائلين دون نهائيّة ما ينبغي أن يكون نهائيّاً. وهو ما يمنح سياسات الاغتيال أدواتها وقدرتها الفعليّة.
وتتّخذ المساواة المزعومة تلك شكلاً آخر إذ تموّه المصادر السياسيّة لعمليّات الاغتيال والقتل. والواقع، وفي معزل عن ميل خرافيّ لدى اللبنانيّين الى تبرئة أنفسهم، فإن هذه التقنيّة الجريميّة تستدعي شرطاً غير لبنانيّ. ذاك أن اللبنانيّين صنعوا حرباً أهليّة وخاضوها، كما ارتكبوا سائر أشكال النذالات والسفالات. إلاّ أن الاغتيال، من النوع الذي حصد أنطوان غانم والذين سبقوه، يلزمه قرار بيروقراطيّ بارد لا تتّخذه إلا الأنظمة «العقائديّة» التي لا تعبأ بالبشر. فلنلاحظ، مثلاً لا حصراً، أن الأنظمة العربيّة المحافظة والتقليديّة لم تُشتهر بأعمال الاغتيال، ولا أجادت التعامل مع التفخيخ والعبوات. فرياض الصلح وملك الأردن عبد الله الأول وهزّاع المجالي ونسيب المتني وكامل مروّة ووصفي التل قضوا إما على يد أحزاب ومنظّمات «عقائديّة» أو على يد أنظمة عسكريّة «عقائديّة» هي الأخرى بطريقتها. ولنلاحظ، كذلك، أن النزاعات السياسيّة اللبنانيّة، ما خلا الفصول الأخيرة من الحرب الأهليّة حين تحوّلت الميليشيات بُنى مغلقة مكتملة، لم تعرف هذه الطريقة في حسم النزاعات. لا بشارة الخوري صفّى إميل إدّه ولا فؤاد شهاب اغتال كميل شمعون.
وهي أسباب لتوكيد الاختلاف والمغايرة على غير وجه بين الفرقاء المعنيّين. وهذا ما يعمل على طمسه أطراف محليّون لا تتسبّب قوّتهم الفعليّة وتمثيليّتهم المؤكّدة إلا برفع وتيرة التشاؤم الى يأس. فكيف العيش مع كذب قويّ يحظى بتأييد جماهيريّ لا يرقى الشكّ إليه!؟
* نقلا عن صحيفة “الحياة” اللندنية