كما الشخوص والشخص، كما الشعوب والشعب، يجرى لديهم التفكير على مستويات ثلاثة :
فقد يكون عقلانياً ممنطقا، يتحرى الأسباب من كل مظانها، ويتصور النتائج القريبة والبعيدة، ويفسح مجالاً للاحتمالات المتوقعة والغير متوقعة.
وقد يكون خرافيا موهوما، لايقوم على سبب ولا يعرف نتيجة، لا يتصل بالواقع ولا يرتبط بالتاريخ، لا يعبّر عن حقيقة ولا يؤثر فى الأحداث.
وقد يكون بين ذلك وذلك، فهو يخالط بين العقل والخرافة، ويداخل بين الحقائق والأمانى ويغازل بين الواقعات والخيالات، فلا يعرف ولا يريد أن يعرف الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، والممكن من المستحيل.
وبينما تستطيع الشخوص والشعوب العقلانية الممنطقة أن تصل إلى النجاح، وأن تتوقى كثيراً من الاخفاق، فإن الشخوص والشعوب التى تعيش على الخرافة وتتغذى بالأوهام تسقط فى هاوية سحيقة من الفشل والضّياع، يغيبّها عن الزمان ويلفظها من المكان.
أما الشخوص والشعوب التى تخالط وتداخل وتغازل بين العقل والخرافة والحقائق والأمانى والواقعات والخيالات فإنها تكون شديدة الخطر على نفسها وعلى غيرها، لأنها قد تبرر الخرافة بما هو لديها من عقل، وتعلل الأمانى بما هو عندها من حقائق، وتتمسك بالخيالات بعد أن تساندها بالواقعات.
ولكى ما يصل شخص أو شعب إلى الحقائق السليمة والنتائج السديدة، ويتجنب مخاطر الأوهام ومزالق الأحلام، فعليه أن يعوّد نفسه ويدرب ذاته على منهج ينبنى على جمع الحقائق ومواجهتها، مهما كان فى ذلك من إيلام، ثم رصد النتائج وتحليلها، على الرغم مما يكون فيها من صدمات.
هذا المنهج هو الذى يلزم العالم العربى لكى يفهم المسألة الفلسطينية ويعمل على أن يجد لها حلا، خاصة وأن هذه المسألة استقطبت كل مناشطه، منذ عام 1948 حتى الآن، وأدت إلى عواقب ونتائج لم تكن فى الحسبان، ما زالت تتضخم وتتجسم بشكل خطر وضار، ففيما يُكتب أو يقال عن المسألة الفلسطينية لا توضع الحقائق جميعاً أمام الشعوب، وربما أنها لا تُطرح متكاملة على صنّاع القرار، وإذا بهؤلاء وهؤلاء أمام شظايا متناثرة وفسيفساء متجاورة، لا تعطى المفْهوم الصحيح ولا تنتهى إلى الرأى الصائب.
على مدى التاريخ وطول فترة الشتات، التى بدأت مرحلتها الأخيرة سنة 70م حين دمر الرومان مدينة أورشليم تماما، وشتتوا ما كان فيها من بقايا اليهود، كان اليهود دائما ما يحلمون بالعودة إلى فلسطين، التى تردد لهم الثقافة الشعبية والشفاهية أنها أرض الميعاد، وأن يقيموا فى مدينة القدس (أورشليم) هيكل سليمان، أو بيت الإله الرب، الذى تفيد الأدبيات الاسرائيلية وتتضمن نصوص التوراة، ما يعنى أن الإله يقيم وسطهم من خلال حلوله فى بيته، أى فى هيكل سليمان.
هذه الأهداف هى نتاج ثقافة شفاهية وأيديولوجيا دينية ؛ لأن اليهود الموجودين حالا (حالياً) فى العالم ليسوا هم بنو إسرائيل المذكورين فى التوراة، ولا هم أولادهم وأحفادهم، إنما هم يهود بالثقافة، تكونوا من أجناس وشعوب مختلفة اعتنقت اليهودية على مدى التاريخ، بعدما تبددت تماما عشر قبائل من قبائل أو أمم أو أسباط بنى إسرائيل الإثنى عشر. هذا فضلا عن أن كل ما ورد فى التوراة عن حلول الرب فى بيته الذى بنى فى أورشليم، مسألة قد يجادل فيها الكثير من اليهود المعاصرين أنفسهم، وهيكل سليمان ذاته لم يستمر إلا مدة تقل عن قرن (969-586ق.م). غير أنه لما كان علماء الإجتماع يقررون أن الشعوب تُسيّر بالأوهام أكثر مما تُحرّك بالحقائق، خاصة إذا كانت الأوهام نسيج أيديولوجية دينية لا تتحمل جدالا ولا تتصور نقاشا ولا تقبل أى تحليل ولا تقدم أى تعليل ؛ لما كان ذلك، فإن أوهام الايدلوجيات تكون ذات فاعلية بالغة وأثر عظيم على معتنقيها، مما يفرض على البشرية واجب معاونتهم للتخلص من سجن الفكر ومحرقة الروح.
فى سبيل تحقيق اليهود لحلمهم بإنشاء دولة عاصمتها القدس التى يعاد بناء هيكل سليمان (بيت الإله) فيها، فإنهم عملوا على الهجرة المبكرة إلى أرض فلسطين، فبدأ هجرات لهم سنة 1882 من روسيا ورومانيا، حيث أقام المهاجرون نحو عشر مستوطنات خلال الخمس سنوات الأولى، زادت بعد ذلك إلى سبعين مستوطنة سنة 1909 (ويلاحظ أن لفظ مستوطنة settlement)) هو نفس اللفظ كان يستعمله الأمريكيون المهاجرين، فكانوا يطلقونه على كل تجمع ينشئونه، خاصة فى إتجاههم للإستيلاء على الغرب أو إستعماره ؛ إذ أن الإستعمار لغة يعنى إنشاء العمار، أو الإعمار، ولم يصبح له معنى كريه إلا من خلال الإحتلال الأجنبى لبلاد الشرق الأوسط والشرق الأدنى، فيما سمى (imperialism) أى أبْطرة، بإلحاق بلد بإمبراطورية محتلة.
فى يونيو سنة 1909 انعقدت جمعية اتحاد الصهاينة الأمريكيين (أى الأمريكيون اليهود الذين اعتنقوا المبدأ الصهيونى الذى اختمر فى مؤتمر بازل بسويسرا فى 29 أغسطس 1897، وقررت هذه الجمعية، التى كان مقرها نيويورك، أن تنشىء لها فرعا فى كل المدن الأمريكية الكبرى، تجمع الأموال لشراء أرض فلسطين واستعمارها.
وبدأ شراء الأراضى بأساليب مخادعة تستعملها الحكومة العثمانية وعماّلها ؛ إذ كانت فلسطين آنذاك تدخل ضمن أملاك الدولة العثمانية.
فقد فُرضت ضرائب باهظة على الأراضى الزراعية، وخاصة فى منطقة صفد وطبرية مما دفع الفلاحين أصحاب هذه الأراضى الزراعية إلى بيعها للتخلص من الديون الحكومية التى كان يُسجن من يتخلف عن سدادها. ومن جانب آخر، فقد كانت الأراضى فيما بين بحيرة طبرية والبحر الميت (المسمى آنذاك بحْر لوط) تدخل ضمن ممتلكات الدولة، أى إنها كانت ملكا عاما (دومين عام)، وعمل اليهود على شرائها تباعاً برشوة الحكام والموظفين، وكان المشترى الظاهر يهودى عثمانى (أى رعية عثمانية) اسمه فرايم بن ليب كراوس، كان مقيما فى باريس، بينما تدفع أثمان الأراضى المشتراة باسمه الوكالة اليهودية التى كانت تُصب فى خزانتها أموال التبرعات اليهودية والغير يهودية.
هذا بالإضافة إلى حالات البيع الإختيارى التى كانت تحدث من بعض الفلسطينيين لأسباب كثيرة، منها الأغراء بالمال الكثير والأغواء بعوامل شتى.
الواقع التاريخى إذن، يثبت التخطيط البعيد الواضح والتنفيذ المتئد المتواصل لإستعمار أراضى فلسطين حتى تقام دولة اسرائيل وعاصمتها القدس (أورشليم) التى يعاد فيها بناء بيت الإله (هيكل سليمان). وقد بدأ تنفيذ ذلك المخطط مبكرا، فى عهد السلطنة العثمانية، حين كانت فلسطين تدخل ضمن ممتلكات هذه السلطنة. فأول هجرة – على ما سلف – بدأت سنة 1882، وقد أدت إلى إنشاء خمس مستوطنات، صارت سبعين مستوطنة سنة 1909 (أى فى حوالى ربع قرن). ولم تقف (توقف) السلطنة العثمانية هذه الهجرة، ولا غيرها، كما أنها لم تمنع إنشاء المستوطنات، ومن ثم فقد أرسيت المبادىء واستقرت القواعد وتأكدت السوابق التى صارت مثلا وأساسا ونماذج لكل ما تلاها.
على عكس ما يقال إشاعة، فإن سياسة الدولة العثمانية كانت تقوم على تشجيع اليهود على الهجرة إلى ممتلكاتها، غير أنها كانت تخشى أن يقيم اليهود دولة لهم فى منطقة حول القدس، فيؤدى ذلك إلى فصم بلاد الشام منها، تباعا بعد أن انفصلت مصر واقعيا منذ عهد محمد على الكبير. وفى بيان هذه السياسة العثمانية كان يقال إن البلاد العثمانية (أى تركيا ومستعمراتها فى أراض الشام، ومنها فلسطين) تبلغ مساحتها ستة أضعاف مساحة فرنسا بينما لا يزيد تعداد شعبها (ورعاياها) عن نصف عدد الشعب الفرنسى، ومن ثم فإنها (أى البلاد العثمانية) قادرة على إستيعاب خمسة ملايين من الاسرائيلين. لكن إسكان هؤلاء فى بقعة واحدة يعتبرونها أرض الميعاد يعود بالخطر عليهم وعلى الرعية (العثمانية) وعلى الدولة العثمانية.
فإذا كان اليهود طامعين فى الملك (إنشاء دولة) فإنه لا يوجد عثمانى واحد يمكّنهم من ذلك إلا بعد فنائه، وإذا كانوا قاصدين الاستيطان فى بلاد يجدون فيها الراحة والسعادة والنعم والخير، فإن العثمانية تفتح أذرعها لقبولهم على الرحب والسعة.
هذا هو موقف السلطة العثمانية، أن تسمح بالاستيطان (أو الاستعمار) ولا تسمح بإنشاء دولة مستقلة لاسرائيل ؛ وهو موقف يُقر المبدأ ولا يتصور نتائجه أو يقدر احتمالاته. هذا فضلا عن أنه موقف من لم يدرس التاريخ ولا يعرف الواقع ولا يفهم حقيقة الأهداف اليهودية.
وهذا الموقف بذاته هو الذى دعا السلطان عبد الحميد إلى أن يبْعث برسالة إلى تيودور هرتزل (2/5/1860 – 3/7/1904) يقول له فيها إنه (أى السلطان) لا يستطيع التنازل عن أرض فلسطين، لأن هذه الأراضى ليست ملكا له لكنها ملك للشعب العثمانى (يقصد التركى) الذى حصل عليها بدماء أبنائه. فقولة السلطان عبد الحميد هذه، لا تدافع عن الشعب الفلسطينى ولا عن الأمة العربية ولا عن أراضى فلسطين لذاتها، ولكنها تدافع عن ملكية للعثمانين الأتراك، حصلوا عليها بدماء جدودهم، ولا يتخلون عنها إلا بالدم، لا لمعنى من معانى العدالة أو الإنسانية أو حق الشعب الفلسطينى؛ بل لمفهوم الملكية وحده.
هذه السياسة العثمانية التى أقرت مبدأ هجرة اليهود إلى أرض فلسطين وإقامة مستوطنات (مستعمرات) فيها دون أن تتبصر النتائج أو تتحسب للأيديولوجيا الصهيونية أعاد بيانها أحمد رضا رئيس مجلس المبعوثان (البرلمان التركى) سنة 1909 فى مقابلة له مع حاخام اليهود فى السلطنة العثمانية فقال : إن الحكومة (العثمانية) تود كثيرا أن يهود روسيا ورومانيا ويهود كل بلد من الذين يشكون الظلم أن يحضروا لبلاد تركيا حيث توجد أطيان كافية للفلاحة والصنائع والتجارة. والحكومة ترى من اليهود إخلاصا تاما وبصدد منشرح تقابل استعمار اليهود!!
لم يتوقف اليهود عند مجرد الأقوال ولا استناموا لخدر الأحلام، وإنما قرنوا القول بالعمل وحرصوا على فرض الأحلام على الواقع. وفى سبيل ذلك عُقد المؤتمر الصهيونى الأول (فى بازل بسويسرا بتاريخ 29 أغسطس 1897) فوضع استراتيجية محددة لقرن كامل، تم تنفيذها بدقة. وقد عُقد المؤتمر الثانى فى 29 أغسطس 1997 فى نفس البلدة، ولا شك أنه وضع استراتيجية القرن القادم التى قد تبدو للبعض خيالا، لكن الواقع يفيد أن أبعد الخيالات قد تتحقق بالدأب والمثابرة. وأنشأ يهودى اسمه جاك هرنستين ما أسماه حزب الله (وهو الإسم الذى تبناه حزب شيعى لبنانى بعد أقل قليلا من قرن)، وحدد هرنستين أهداف اليهود بتمويه شديد، فقال ما يؤكد أن فلسطين هى هدف الصهيونيين، وأضاف إن القهقريين (يقصد السلفيين) يحلمون بإعادة مملكة سليمان فيقيمون حكومة داخل الحكومة تنسلخ من قلب الدولة العثمانية، فى حين أن الصهيونيين الحقيقيين يسعون إلى أن يكون لهم فى تلك الأرض (فلسطين) مركز أدبى وزراعى وصناعى وتجارى تخلصا من الظلم والاستبداد الواقعين عليهم فى كثير من البلاد التى يوجدون فيها بكثرة. وبهذه المقولات وغيرها، كان هرنستين (وغيره) يخدعون الدولة العثمانية فيزعمون أنهم تحت سلطة ونفوذ الدولة العليّة كباقى الأجْناس، لهم ما لها وعليهم ما عليها ؛ ومع ذلك فهم يعملون بدأب واستمرار لتحقيق الأهداف الحقيقية لهم بإنشاء دولة إسرائيل التى تكون عاصمتها القدس. وأنشئت الوكالة اليهودية لتجميع التبرعات فى يد واحدة، ومساعدة اليهود على الهجرة المنظمة إلى فلسطين، وشراء الأراضى بالخداع والتزوير، أو بالاغراء والاغواء، وإقامة المستوطنات بنظام استراتيجى يسمح بالسيطرة على المواقع المهمة والأماكن المهيمنة.
وبعد أن استقر الحال باليهود نوعا ما بدأوا يسفرون عن أغراضهم الحقيقية وأهدافهم البعيدة. ففى السنوات الأولى من هجرة اليهود الروس والرومانين فرح الأهالى الفلسطينين بحالة الرواج الأقتصادى المؤقت التى حدثت، غالبا من أثمان الأراضى المشتراة والإنفاق الذى تمّ لإنشاء المستوطنات، لكن ما حدث بعد ذلك أن هؤلاء اليهود قاطعوا الأهالى وطردوهم وجعلوا من المستوطنات ولايات مستقلة لا تخضع لقوانين الدولة (العثمانية) ولا لنظامها، تارة بالإدعاء بأنهم أجانب وليسوا من الرعايا العثمانيين، وتارة بمجرد التمسك بشريعتهم ونظامهم الذى يتعين عليهم أن يطبقوه بدلا من أى قانون أو نظام آخر.
واحتال اليهود على الفلسطنيين، لأسباب ينبغى تحقيقها واعلانها، فاستطاعوا أن يحصلوا على الحق فى اعتبار الجدار الغربى للمسجد الأقصى بقية من هيكل سليمان، وأطلقوا عليه اسم حائط المبْكَى، فصار لهم بذلك أثر مقدس فى صميم المسجد الأقصى. وحاول اليهود الاستيلاء على هذا الحائط بالقوة، مع أنه جدار المسجد، فوقعت صدامات بينهم وبين المسلمين سنة 1920، وتولت لجنة دولية برياسة ايليل لوفجرين وزير الخارجية السويدية الأسبق أمر التحقيق فى ذلك، وانتهت فى تقريرها الصادر سنة 1930 إلى أن الحائط جزء من المسجد وأن المسلمين كانوا قد تركوا اليهود يؤدون شعائرهم أمامه من قبيل التسامح (ويلاحظ أن هيكل سليمان كان قد دمر تماما سنة 586ق.م)، وحصل اليهود من بريطانيا على وعد (بِالِفور) فى 2 نوفمبر 1917 الذى يبدى التعاطف لإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين، التى كانت لم تزل ضمن الممتلكات العثمانية.
وعمل اليهود على تغيير أسلوبهم لمواجهة الواقع الجديد، فتحولوا إلى الزراعة والصناعة والحرب بعد أن كانت سماتهم الأساسية أنهم تجار وأصحاب مال، وبالزراعة والفلاحة والصناعة صارت كل مستوطنة وحدة متكاملة، كما أصبح الدفاع عنها موكولا إلى أبنائها. وخلال الحرب العالمية الثانية تطوع الكثير منهم ضمن جيوش الحلفاء فاكتسبوا خبرات قتالية وإدارية، فضلا عما جنوه من تعاطف هذه الدول وشعوبها معهم. وبعدما إنتهت الحرب كون المقاتلون السابقون فرقا حربية هى الهاجاناة (جيش الدفاع) وشيترن (ليهى) وأرجون زفاه ليومى (إيزل أو المنظمة الوطنية العسكرية) فقامت بكل الأعمال العسكرية والإرهابية التى مهدت لإنشاء دولة إسرائيل، ثم صارت البنية الأساسية العسكرية لجيش الدفاع الإسرائيلى بعد إعلان هذه الدولة، إثر إنتهاء الإنتداب البريطانى فى 15 مايو 1948، دون أن يحدث بينهم خلاف قط.
تلك أعمال منظمة ومتكاملة، تحقق أهدافا واضحة ومحددة، فتعمل على المستوى الدولى كما تعمل على المستوى المحلى، بهدوء ودون جعجعة وفى ثبات دون طنطنة، فتغير من طبيعة اليهودى، وتجعل منه مزارعا ومحاربا، وتقيم دولة فى قلب العالم العربى، وتستقطب التأييد العالمى. وما زالت تعمل لتحقيق أهداف أخرى معروفة ومفهومة للعرب، فماذا فعل العرب ؟ وماذا يفعلون الآن؟
فى غضون سنة 1947 نشرت الصحف المصرية الخريطة (المنشورة مع هذه الدراسة) تحت عنوان ضخم “خريطة سرية تكشف حدود الدولة اليهودية”، كُتب عنها إن سياسى عربى حصل عليها بطريقة خاصة فى نيويورك، وأنها تبين حدود الدولة اليهودية (إسرائيل) كما رسمها المؤتمر الصهيونى العالمى، وهى تشمل شبه جزيرة سيناء إلى الضفة الشرقية بما فى ذلك صحراء سيناء والعقبة وخليج العقبة (من الأراضى المصرية) والجزء الشمالى الغربى (من السعودية) وشرق الأردن، والجزء الجنوبى من سوريا إلى تخوم دمشق (بما فى ذلك هضبة الجولان) والساحل الجنوبى المتاخم لفلسطين من أرض لبنان ؛ هذا بالإضافة إلى كل أراضى فلسطين. وهذه الخريطة التى نشرت سنة 1947 هى بذاتها التى تحققت بعد ذلك خلال الحروب العربية الفلسطينية فى سنوات 1948، 1956، 1967 ثم عند غزو لبنان سنة 1981.
وفى سنة 1947 أيضا، نشرت الصحف العربية، والمصرية، أنها طرحت خلال إجتماع مجلس الجامعة العربية فى لبنان فكرة إنشاء حكومة فلسطينية برياسة الحاج أمين الحسينى، وأيدت بعض الدول العربية الفكرة لكى تتولى هذه الحكومة قيادة الشعب الفلسطينى وتنظيم جهاده، لكن مندوب مملكة شرق الأردن عارض الفكرة، ثم استطاع الملك عبد الله أن يقنع أمين جامعة الدول العربية (عبد الرحمان عزام) بأن إنشاء حكومة فلسطينية سوف يؤدى إلى أن تكون هناك دولتان فى فلسطين، إحداهما عربية والأخرى يهودية، لكل منهما من يعترف بها من الدول، وبذلك يكون مشروع التقسيم قد تم بالفعل بما يمنع إنقاذ فلسطين كلها من أيدى الصهيونية!!
وفى ذات السنة قررت الجامعة العربية فى جلستها التى عُقدت فى لبنان حشد جيوش عربية على الحدود الفلسطينية بواقع 5000 جندى لبنانى على الحدود الشمالية، 12000 جندى سورى على حدود فلسطين الشمالية الشرقية، 12000 جندى أردنى على الحدود الشرقية أى على مجرى نهر الأردن، 11000 جندى مصرى على حدود فلسطين الجنوبية، 11000 فارس من قوات المطاردة فى الجيش السعودى يرابطون فى واحة ينبع على الشاطى الشرقى للبحر الأحمر. وتضمن قرار الجامعة العربية زحف هذه القوات إلى فلسطين فى حالة انسحاب القوات البريطانية، وتحددت لكل جيش منطقة إحتلال خاصة.
وذكرت الصحف المصرية التى أوردت هذا القرار أن الحكومة المصرية لم توافق حتى الآن (وقت النشر) على اشتراك قواتها فى الأعمال الحربية ولا فى عمليات الإحتلال، لكنها تعهدت بأن تزود القوات العربية بالطائرات وسلاح الإشارة وسلاح القسم الطبى.
فهل حدث على مدار التاريخ، أو يمكن أن يحدث وضع كهذا؟ اليهود يحددون أهدافهم، ويرسمون خريطة الدولة التى يزمعون إنشاءها، ويستعدون لذلك بما يغير من طبيعتهم التى درجوا عليها طوال قرون فيتحولوا إلى مزارعين ومحاربين، وينشئون الفرق الحربية المدربة، ويتمسكنون أمام العالم ويدّعون السلام ؛ فى حين أن كل ذلك معروف للعرب ومع ذلك لا يتخذون خطى جدية ولا يقومون باستعدادات صحيحة ؛ ولا يتفهمون الأوضاع الدولية، ومع ذلك فهم يتصايحون بدعاوى الحرب ويتصارخون باسم الجهاد، وعندما يضعون خطة ساذجة لدخول جيوشهم أرض فلسطين يعلنونها للكافة ويذيعونها دون حذر، ويعتمدون فى هذا الجيش على فوارس ترابط فى ينبع، ولا تكون لهذه الجيوش أغطية من الطيران ولا حتى سلاح للإشارة أو سلاح للقسم الطبى (وهذا الخطأ بإعلان الخطة الحربية تكرر سنة 1967 حين أعلنت الحكومة المصرية قبل 5 يونيو أنها لن تبدأ بالضربة الأولى لكنها سوف تتبعها بضربة ثانية، فأذاعت بذلك خطتها وأعلنت للعدو أنها ستقف مكتوفة الأيدى مشلولة التصرف حين يضربها الضربة الأولى، التى كانت ضربة أولى وضربة قاضية).
الحكومة المصرية حتى شهر نوفمبر 1947 كانت سياستها تقوم على عدم دخول جيوشها النظامية إلى أرض فلسطين، ومع ذلك فقد تغيرت هذه السياسة إلى النقيض تماما خلال ستة شهور، فإذا بها تدخل بجيوشها النظامية إلى أرض فلسطين، فتقع فى شرك نصبته لها الصهيونية العالمية وتلقى بمصر فى مستنقع ابتلع الكثير من أبنائها وأموالها وجهودها للتنمية الإجتماعية والإقتصادية. لقد كانت الحكومة المصرية على بيّنة بلا شك من حقيقة الأمر، ومن أن الجيش المصرى غير مهىء للقتال، فضلا عن قصور الذخائر ونقص الأسلحة وإنعدام المعلومات الصحيحة عن جيوش العدو ومعداته ؛ لكنها دخلت الحرب استدراجا، واعتقادا بأنها نزهة، ومسايرة للضغوط الشعبية المسيّرة بدهاء فى مظاهرات تدعو للحرب وتهتف للجهاد.
ونتيجة لإستدراج الشعوب العربية فقد دخلت جيوش عربية أرض فلسطين يوم 15 مايو 1948، فكان ذلك ذريعة لكى تعلن إسرائيل أن الحدود التى رسمها قرار التقسيم الصادر من الأمم المتحدة فى 29 نوفمبر 1947 (رقم 181) قد سقط ولم يعد له وجود، وأن حدودها سوف تصل إلى ما تصل إليه بنادقها، وهو ما حدث بعد ذلك تماما. وفى سنة 1956 كسبت إسرائيل من العدوان الثلاثى حق المرور فى خليج العقبة ومضايق تيران، بإتفاق سرى لم تعلنه الحكومة المصرية. وعندما حدث ضغط على الرئيس المصرى سنة 1967 بإعلان هذا الإتفاق أراد أن يتخلص منه فأمر بغلق الخليج والمضايق أمام السفن الإسرائيلية، وبذلك وقعت حرب يونيو 1967 التى كسبت منها إسرائيل أغلب ما جاء فى الخريطة : صحراء سيناء، هضبة الجولان، الضفة الغربية لنهر الأردن، ومدينة القدس محل أحلامهم وموضع آمالهم قرونا وقروناً.
فهل كسبت إسرائيل بكفاية عسكرية أم بدهاء سياسى إستدرج العرب فوقعوا فى مصيدة الكلام الفخم والتهديد الضخم، حتى إذا ما وقعت الواقعة إذا بها تكسب كل مرة، بأخطاء العرب وتهورهم أكثر مما تكسب بقدرتها وكفايتها.
فى سنة 1979 وقعت مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، ورفضتها سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية، بينما توافق كل منها عليها الآن. وبعد فوات الآوان.
فاثر توقيع إتفاقية أوسلو 1، أعلن بنيامين ناتيناهو أنه لا يوافق على هذه الإتفاقية، وأنه لن ينفذها إذا ما وصل إلى الحكم. ووصل إلى الحكم فعلاً لينفذ ما أعلنه من قبل، ومع ذلك فإن كثيرا من الحكومات العربية لم تنتبه إلى إعلانه ذلك عندما كان زعيم المعارضة، وأمّلت خيرا فى أن يتبع طريق السلام. لكن السلام فى رأيه هو الأرض والأمن. وتعمل الحكومة الإسرائيلية حالا (حالياً) فى سباق مع الزمن لتغيير واقع الأرض والطبيعة بإنشاء مستعمرات كثيرة وفى مواضع استراتيجية، وبشق طرق طويلة وفى أماكن مرسومة، حتى تعزل كل المدن الفلسطينية بعد إنشائها، فلا يمكن أن تقوم للفلسطينين دولة، وإنما تكون لهم مدن متفرقة لها بعض مظاهر السلطة الذاتية لا غير.
ومع أن الحكومة الإسرائيلية الحالية المتشددة تعلن ذلك المرة تلو المرة، فما زال العرب يتكلمون ويتكلمون، ويتحدثون عن السلام، ويطالبون بمساعدات أمريكية وأوروبية للضغط على إسرائيل. ومن يستقرىء الواقع ويتفهم الحقيقة لابد أن يدرك أن للمسألة حلا آخر، وأن كل ما يجرى على الساحة العربية مسكنات ومهدئات، وربما كانت مُغيَّبات.
إن فى القرآن آية نصها (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وهو ما يلزم عنه أن يعرف العرب أن فى الأمر خطأ، وأن هذا الخطأ مستمر، وأنه لن يتغير إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من جهل وضعف وهوان وطمع وجشع، فيلتفتوا إلى الشعوب بالتنمية الصحيحة والترقية الناجحة والتفسير السليم لمعنى الحرب، وأنه يكون تمكينا للعدو وتفريطا فى البلاد إذا لم يقم على الإسلوب الحضارى والعلمى وينبنى على الأخلاق السليمة التى تلفظ الأنانية والكسب المادى السريع وتُعنىَ بالجماعية والتكامل والتخطيط.
Email : saidalashmawy@hotmail.com