من المعروف أن ما يحرك الإنسان في الحياة، جملةً من النظريات والأفكار والعقائد والأساطير، وأيضاً بشكل مباشر ربما الأوهام والخرافات والتخيلات المسكونة بالفنتازيا والميثولوجيات الدينية، ولا أحد في المقابل يستطيع أن ينكر أن النظريات والأساطير والأوهام وغيرها تحتل مساحات كبيرة في حياة الإنسان، ولكن المشكلة الحقيقية التي تدعو للتساؤل والاستغراب هي قدرتها الكاملة على أن تكون لها سطوة عميقة وسلطة مباشرة على عقل الإنسان، وهيمنة أكيدة على سلوكه وأفكاره وتدخل مباشر في توجهاته الحياتية وصياغة تكويناته الثقافية والسلوكية وحتى الشعورية..
وقد تتفاوت النظريات والأساطير والعقائد الدينية وغير الدينية من واحدة إلى أخرى في قدرتها المباشرة على التحكم بتوجهات الإنسان وعقله وتشكيل رؤاه حول مجمل ما يتداخل معه في الحياة وبرمجته آلياً وفق منظومتها الثقافية، وتشترك في ذلك النظريات والعقائد الدينية وغير الدينية في خاصية الاستحواذ الكامل على عقل تابعيها والسائرين في ركابها، لأن الإنسان هو في النهاية مَن يصنع كل تلك العوالم والفضاءات ويتمترس فيها ويستزيد بها تصلباً وعناداً واستمراراً، ولكن في مقابل ذلك لا يمكن لنا أن ننكر أن حتى الخرافات والأساطير والعقائد في تراث المجتمعات تكون ملهمة للكثير ربما من الإبداعات الفنية كالشعر والموسيقى والرسم كما يقول المفكر (عبد الله القصيمي) في كتابه القيم (أيها العقل مَن رآك)، ولكن المشكلة كما يراها القصيمي، ليست في استحضار المجتمعات للأساطير والخرافات، المشكلة تكمن في التعصب الأعمى لها، ورفض المساس بها والالتفاف المتزمت حولها والدفاع عنها بجنون وغباء، والتعايش معها كحالات شعورية مهيمنة ومحركة للكثير من تكوينات الإنسان النفسية وأحاسيسه العاطفية وقوالبه الثقافية، وقد نفهم من خلال كمية المحفزات النفسية والتخيلية والشعورية التي توجدها الأوهام والأساطير في اللاوعي واللاشعور وفي العقل الإنساني، وأيضاً في محفزاتها الثقافية المتوارثة والمسيطرة، طريقة الإنسان الاستحكامية في الدفاع عن تلك الأساطير والخرافات والعقائد والتمسك بها حد التعصب والغباء، حيث يقول (القصيمي) في كتابه الآنف الذكر: أن البشر لا يعنيهم أن تكون مذاهبهم أو أربابهم أو أخلاقهم طيبة أو صادقة، أن الذي يعنيهم أن تكون قادرة على إخضاعهم، أو تخويفهم، أو إذلالهم، أو إرضائهم عن أنفسهم، وتحويلهم إلى أعصاب متوترة، إلى ضحايا في معركة يرفضون أن يتناقشوا في شرعيتها، إلى ضحايا في معركة يموتون فيها من دون أن يفهموها، من دون أن يقبلوا فهمها، دون أن يقبلوا من يحاولون فهمها، إنتهى..
وحينما تغلّف النظريات بجهالات التعصب والانغلاق فإنها ترتدي أثواب القداسات وتغدو ناطقةً باليقينيات المطلقة، وتصبح هي المحركات الثقافية الوحيدة للإنسان في حياته وتمنحه بصفة لاصقة ودائمة هوية محددة تتسم بالعدائية للآخرين، وقد يكون مفهوماً تعلق المجتمعات عموماً بسيل جارف من الخرافات والأساطير ونجد هذا الأمر حتى في المجتمعات الأوروبية الحالية ذات الحضارات المذهلة العظيمة، ولكن في الوقت نفسه نجدها مجتمعات منتجة وفاعلة وتسير حثيثاً في مجالات التقدم والحداثة، لأنها لا ترى في الخرافات والأساطير سوى إنها تعكس تراثاً قد ارتبطَ بأزمنة معينة في تاريخها، انتجتها المخيلة الجماعية وقد تجاوزها العقل بمراحل كبيرة حينما انخرط عملياً في حقول المعرفة والعلم والاكتشاف، وحينما تستحضرها لا تعتنقها بتعصب وانغلاق وتزمت، ولا تجد فيها ضرورة التفعيل والمداولة والتطبيق في الحياة المعاصرة، وأتذكر في هذا المجال كلاماً لأحد الأصدقاء حيث يقول: هل ترى كم يعشق الشعب الأسباني مثلاً الاحتفال بأعياده التراثية الخرافية الكثيرة، ومنها على سبيل المثال عيد (الطماطم) وهناك غيره الكثير، ولكنه في الوقت نفسه نجده شعباً فاعلاً في الحضارة الحالية ومساهماً في تشكيلاتها المتنوعة ومنتجاً للكثير من الابداعات البشرية الحضارية، بينما المصيبة أن شعوبنا العربية والإسلامية غارقة في الخرافة والأوهام وفوق ذلك غير منتجة ولا فاعلة وبعيدة بمسافات ضوئية عن الحضارة الحالية..
ومن جهة ثانية يتساءل (القصيمي) في كتابه، لماذا كل هذه السطوة للأساطير والنظريات على فكر الإنسان وعقله ووجدانه وخياله وكل ما يرتبط به، حتى أن أسخف النظريات والعقائد الفكرية تبقى مسيطرة عليه سيطرة كاملة، تفقده مجرد التفكير في جدواها ومدى ملاءمتها للواقع والعصر وضرورات التطور، ويرجع (القصيمي) السبب في ذلك إلى إنها تتوالد وتتكاثر في المخيال الثقافي التراثي والذهني للمجتمات وتكون محاطة بالضرورة بالسحر وعادةً ما يستحيل ترجمتها إلى واقع ملموس حيث يقول : إن الناس قد يتمنون غائباً هو أسوأ، فراراً من حاضر هو أقل سوءاً، لأنهم في العادة لا يعدلون في المقارنة بين الألم الموجود والألم الذي سوف يوجد، بل إنهم لا يقبلون مثل هذه المقارنة، إن احساسهم مركز على الحالة الموجودة دون الحالة المنتظرة، ولهذا فإن أكثر العقائد والمذاهب بقاءً على الزمن، واستغواء للنفوس، هي أسخفها وأكثرها استحالة لأنها لا تتحول إلى واقع يجردها من سحرها، ويحولها إلى مشكلة تصنع الألم للمؤمنين بها والمتعاملين عليها، دون أن تظل أملاً خلاباً، انتهى..
ولذلك يجد الإنسان ضرورة ملحة على مدار الزمن لاختراع الأساطير والأوهام وجملة من النظريات والعقائد، وقد ينسجها تارةً من الخيال، وتارةً أخرى من خيوط الوهم، وتارةً ثالثة من العدم والمستحيل، ليبقى متشبثاً بأمل قد يتراءى له في نهاية المطاف من خلال السراب، وليبقى متعلقاً على المستوى النفسي والتخيلي بنهايات تنتشله من عذاباته الحالية، وليس بالضرورة أن يعمل في سبيل أن تتحقق أمامه، بقدر ما تغنيه ذاتياً عن التفكير بحدوثها واقعاً ملموساً، ولتبقى تتراقص في أعماقه كأمنيات جذلى بمكنوناتها الافتراضية، وفي هذا المعنى يشير المفكر (القصيمي) إشارة بليغة، حيث يقول في كتابه : إن الإنسان حتماً محتاج إلى أن يتجاوز نفسه ووضعه، إنه لا يستطيع أن يعيش محبوساً داخل حدود ذاته وواقعه، وإلا لاختنق، إنه دائماً أكبر من ذاته وواقعه، إنه يتجاوز حدوده الذاتية والواقعية بالشعر والنظريات، والعقائد، والإنسان ليس كاذباً ولا ضالاً حينما يقول ما لا يستطيع أن يلتزم، كما أنه ليس كاذباً ولا ضالاً حينما يقول الشعر والأغاني، ويسمعها ويطرب لها دون أن يحياها، إن الشعر والغناء، والعقائد والنظريات المستحيلة التطبيق، هي الجسور النفسية التي يعبر عليها البشر ذواتهم إلى غير ما شيء، التي يعبرون عليها ذواتهم ووجودهم وكونهم البليد الأليم العقيم، يعبرونها إلى الفضاء البعيد لتتحرك في آمالهم ونظرياتهم بلا حدود ولا حواجز حتى تموت بكبرياء بهذا التيه النفسي المملوء بالأشباح، وبالأحزان، وبالدموع، وبالآلهة، وبالمعلمين المتعبين الصارخين في الظلام بلغات كل البداوة، بهذا التيه المملوء بالسحر وبالتهاويل، إن خيالات البشر ومذاهبهم الكاذبة هي التعويض الطبيعي عن عجزهم الذي يعذبهم ويحاصرهم، كلما أرادوا أو تحركوا، وقد حاول الإنسان أن يفك هذا الحصار عن نفسه بالكذب العقلي على حياته، لقد عجزَ أن يكون كما يريد فراح يفكر كما يريد.. انتهى..
وليس أكثر سوءاً من أن يبقى الإنسان مريضاً طوال الوقت بالأوهام والأساطير والنظريات المخادعة والثقافات المعتلة والعقائد المسكونة بفنتازيا السحر، وهارباً إلى عالم المنقولات الماضوية ذات الصبغة النقلية الجماعية، يقتات منها وجوده، ويبني عليها حياته، ويستفرغ فيها آلامه وعذاباته وأحلامه، وينتشي بها غناءً وتطرباً، ويستولد منها احتياجاته النفسية الكثيرة، ويصنع منها أسواراً عالية تسد عليه منافذ الهواء والضوء، ويتماهى معها حد الذوبان والتيه والفراغ، ويتخندق خلفها دفاعاً عن وجوده الظاهري، ويحارب بها الآخرين، ويقيم من تهويماتها سرادقَ للحزن والبكاء والعويل، ويتخشّب واقفاً في عوالمها رافضاً التغيير، وفي غمار كل تلك الأشياء ومعها ينشأ الإنسان مؤمناً إيماناً مخلصاً وخالصاً بقيمتها المطلقة في حياته ووجوده ونفسيته وعقله وشعوره، فلا يتجرأ على تدميرها ونسفها أو تغييرها، ليصنع من حطامها المتناثر عالماً آخر يتخلق في تماهياته مع الواقع..
tloo1996@hotmail.com
كاتب كويتي
المرض بالأوهام فاروق عيتاني — farouk_itani@live.com غالبا ما سألت نفسي: لماذا يسمح العقل للاوهام بالد خول اليه بعد ممارسته عليها عملية عقلنة اللامعقول؟ربما كان السبب الشطت بالمحبة! الشطط بالمحبة يولد التعالي. يتبع التعالي التقديس بعد حكاية الاساطير (المبالغات) عنه. بعد التقديس ندخل في العبودية.اذا هل يمكن القول ان المحبة تؤدي الى العبودية ! أو الافراط فيها يؤدي الى العبودية! هل يمكن عكس الكلام والقول ان الكره يؤدي الى الحرية! لنعود الى المحبة، لربما بدأ الانسان بالاعجاب بذاته جسدا او تفكيرا، من الاعجاب الى التعالي، فالتقديس. من هنا تنشأ عبادة الجسد، ولطالما قلت لنفسي انها عبادة النساء خصوصا.وان تعالى الانسان بعقله… قراءة المزيد ..