الثامن من آذار (مارس) هو اليوم العالمي للمرأة، ولكنه عند أبناء سورية يسجّل ذكرى مختلفة تماماً، مريرة وبغيضة ومشؤومة: في هذا اليوم، سنة 1963، قام ضباط بعثيون وناصريون بانقلاب عسكري ضدّ حكومة الإنفصال، وفرضوا ـ بين ما اقترفوا في ميادين عديدة، تخصّ حاضر البلد ومستقبله ـ قانون الطوارىء والأحكام العرفية؛ هذه التي ما تزال سارية المفعول، بعد 46 سنة. ولكي لا يمرّ اليوم دون ذكرى وتذكرة، شاءت السلطات الأمنية أن تستند إلى تلك الأحكام، فتمنع الروائي والناقد نبيل سليمان من مغادرة البلاد، فردّته من مطار دمشق.
سليمان، بذلك، انضمّ إلى اللائحة الأحدث عهداً في مسلسل منع المثقفين السوريين من السفر، وهذه شملت عمر أميرألاي ومحمد ملص وعادل محمود؛ فضلاً عن اللائحة الكبرى التي تضمّ عشرات من المعارضين، وناشطي المجتمع المدني، ومنظمات حقوق الإنسان. بالطبع، هذه السلطات لا تُعلِم الممنوع بأنّ المنع قد فُرض عليه، بل يلذّ لها أن تتركه يصل إلى كوّة الجوازات الأخيرة قبل الصعود إلى الطائرة، فتبلغه بالقرار، ويكون عليه تدبّر عواقب إخطار مباغت لم يكن يخطر على البال! كذلك فإنّ رفع حظر السفر، إذا شاء جهابذة الأجهزة أن يتكرّموا به على الممنوع، ليس البتة شبيهاً بفرضه: الأخير يتمّ بجرّة قلم، واستناداً إلى وشايات سرعان ما يتضح أنها ليست كاذبة فحسب، بل هي لا تصمد أمام أبسط تدقيق عقلي؛ ولكنّ الأوّل، السماح بالسفر مجدداً، دونه خرط قتادٍ يجعل محاكمة السيد جوزيف ك.، بطل رواية فرانز كافكا الشهيرة، أضحوكة، بالقياس إلى ما يلقاه المواطن السوري في أروقة، أو بالأحرى: أقبية، الأجهزة الأمنية السورية.
وليس الأمر أنّ سياسات التنكيل هذه جديدة أو طارئة على عهد بشار الأسد، بل المغزى يتمثل في أنها تزداد انحطاطاً في الأساليب والطرائق والنطاق، من جهة أولى؛ كما تأخذ، من جهة ثانية، صفة السيرورة المتتابعة المتعاظمة التي لا تتباطأ إلا مؤقتاً، لكي تتسارع وتشتدّ وتستشرس. ذلك لأنّ سليمان، للتذكير، كان قد تعرّض لاعتداء بالضرب في اللاذقية، مطلع العام 2001، لأسباب سياسية بدت واضحة جليّة (نشاطه في منتديات الحوار ولجان المجتمع المدني آنذاك)، إلا عند الذين تقصدوا كمّ الأعين وعقد الألسن. ثمّ سافر بعدها، مراراً، إلى العالم العربي وأوروبا، ولاح أنّ الأجهزة قد “حلّت” عن ظهره، حتى جاء قرار المنع الأخير، فردّ الأمور إلى المربّع الأوّل… الذي نرجو أن لا يكون أسوأ من مربعات سابقة!
تلك، إذاً، سيرورة بدأت منذ الأشهر الأولى التي أعقبت رحيل الأسد الأب وتوريث ابنه حكم البلاد، وكان بين تباشيرها اجتماع رئيس الوزراء السابق محمد مصطفى ميرو (الذي قيل إنه جاء لكي يقلب تراث سلفه، محمود الزعبي، المنتحر فساداً كما سّولوا للعباد)، مع السينمائيين السوريين. ولقد لوّح بإعادة المؤسسة العامة للسينما 37 سنة إلى الوراء، واعتبر أنها ليست مكلّفة بإنتاج أفلام روائية، بل بأفلام سياحية ودعائية تخدم الثورة فقط، تماماً كما نصّ على ذلك مرسوم إحداثها! وبدل تطمين السينمائيين إلى أنّ سنوات «التغيير»، على يد “الرئيس الشابّ”، سوف تحسّن فُرص العمل والإنتاج في مؤسسة لعلّها بين أفضل المرايا التي تعكس صورة ثقافية مميزة عن سورية، أغلق ميرو الباب في وجه السينمائيين، وقرأ القانون بمفعول إرتجاعي و… رجعي أيضاً!
عدنان عمران، وزير الإعلام الأسبق، أدلى بدلوه في هجاء المثقفين، على طريقته المأثورة والحقّ يُقال: هؤلاء استوردوا مفهوم ” المجتمع المدني” من أمريكا، صرّح الوزير، لأنّ المفهوم “أمريكي أصلاً” في يقينه. وهم قبضوا «الفلوس» السخية من السفارات الأجنبية، وخدموا «الإستعمار الجديد» (خصوصاً وأنّ الإستعمار لم يعد يستخدم الجيوش وحدها، كما تذكّر الوزير!)، إلى جانب قيامهم بـ «مهامّ أمنية لصالح جهات أجنبية». من جانبها كانت زميلته مها قنوت، وزيرة الثقافة آنذاك، قد دشّنت عهدها بإجبار أنطون مقدسي، المفكر السوري الكبير الراحل، على الإستقالة من منصبه (الذي كان، أصلاً، يشغله بالتعاقد فقط) في مديرية التأليف والترجمة، لأنه تجاسر وكتب رسالة مفتوحة إلى بشار الأسد، يحثه فيها على تحويل شعب سورية «من وضع الرعية إلى وضع المواطنة».
أمّا الرئاسة، في غمرة هذه المعمعة، فقد كانت تميل إلى مزج التنظير بالتأثيم، وكان الأسد الابن يقول إنّ أفعال هؤلاء المثقفين (وهي، في كلّ حال، لم تتعدّ البيانات وارتياد المنتديات) إنما «تمسّ الإستقرار على مستوى الوطن»، وهنالك احتمالان: «أن يكون الفاعل عميلاً يخرّب لصالح دولة ما، أو أن يكون جاهلاً ويخرّب من دون قصد». أمّا النتيجة فهي «أنّ الإنسان في كلتا الحالتين يخدم أعداء بلده».
كلّ هذا حين كان النظام دائراً في الفلك السعودي، متصادقاً مع فرنسا جاك شيراك وبريطانيا توني بلير، آملاً الخير من أمريكا جورج بوش… فكيف، في سيرورة هذه الأيام، والنظام مقاوِم مقاتل ممانِع، لا يُمنع عمر أميرالاي ومحمد ملص وعادل محمود ونبيل سليمان من السفر، بوصفهم مخرّبين في كلّ حال، عن عمالة أو عن جهل!
s.hadidi@libertysurf.fr