يطالبون بنقاب. وبمئذنة.
معاركهم لا تتعدى الصراخ بحثاً عن لون أو هوية قديمة وبضعة نزاعات من أجل رسوم كاريكاتورية.
معارك قشرية. آخرها كان غضباً وسخطاً تجاه التصويت لصالح حظر بناء مآذن جديدة فى سويسرا مع الإبقاء على الأربع الموجودة.
يطالبون بطوب. بأسمنت.
أما السويسريون فخائفون. مثل خوف بقية الأوروبيين. ومن لا يخاف اليوم من الأصولية الإسلامية؟ حتى المسلمون أنفسهم صاروا يتحسبون لها. والسعودية التى كانت مركزاً مصدّراً للتطرف صار شغلها الشاغل القضاء على التطرف قدر الإمكان.
سويسرا المحايدة. سويسرا التى تحترم الأديان. سويسرا الديمقراطية. سويسرا خائفة. قلقة من تفشى تطرف فى زوايا أشهر الدول المسالمة.
القرار لن يكون له شأن بمساجد المسلمين، فحتى اليوم مسموح بإقامة المساجد والصلاة فيها هناك. المئذنة فقط هى التى مُنعت. أياً كان صواب توجه التصويت السويسرى أو خطأه، عمقه أو سطحيته، فقد أعلنت الديمقراطية كلمتها.
الخطأ أن يعتقد أن هذا هو الموقف السويسرى الرسمى. إذ رغم توجه الحكومة نحو معارضة مشروع الحظر الذى طرحه الحزب اليمينى عام ٢٠٠٨ وتصريحها بأنها ستدعو الشعب إلى رفضه فإن ٥٧% قالت كلمتها: لا نريد مآذن.
ذلك هو موقف أفراد الشعب الذين راقبونا وراقبوا تصرفاتنا وهمجيتنا فى الشوارع لأتفه الأسباب، وثورتنا لأسخفها. راقبوا الإرهاب. تخلف التعليم. التشدد فى الشوارع العربية. محاربة قوانين الشوارع الأجنبية. تفجيرات الحادى عشر. رسائل تهديد بتدمير عدد من العواصم الأوروبية كل حين. جرائم شرف يرتكبها مسلمو أوروبا أشهرهم أتراك ألمانيا. خطف صحفيين وسائحين ونحرهم أمام الكاميرات. شماتة ما بعدها شماتة إزاء كل كارثة أو حريق أو فيضان باسم العقاب الإلهى. تكفير ودعوات بالموت والحرق والعذاب.
ولعنات.. تخرج من ميكرفونات آلاف المآذن الشاهقة بمساجد العواصم والمدن العربية فى خطب الجمعة وعقب الصلوات وبمختلف المناسبات بأصوات عالية قاسية لا تنسى. قاسية حتى على أنفسنا. تشتم منا كل مسيحى كافر وكل شيعى كافر وكل من ليس على الملة المتطرفة.
ألذلك يطالبون بمآذن فى أوروبا؟
آلاف من المآذن المنتشرة لم تصنع سوى الترهيب والتخويف، دون أن تسهم بتقريب وجهات النظر ونشر السلام والعدالة والمساواة وتقبل ثقافة الحوار والدعوة للتقدم.
بل صدحت بالمزيد من اللعنات..
اللعنات على أوروبا المضيفة الكافرة، وعلى أولئك الذين منحونا الأوطان الحقيقية. وهبونا الجنسيات. ولأول مرة يحظى بعضنا بفرصة أن يكون إنساناً. الذى كان اسمه (بدون) وكان معدوم الحقوق محروما من كل شىء بما فى ذلك الجنسية والسكن والتعليم والصحة والسفر والزواج، محروماً حتى من وثيقة الممات، وصل إلى أوروبا وصار مواطنا أوروبياً له هوية وحقوق ودخل ووظيفة وصوت مشارك فى القرارات وفى انتخابات الرئاسة أيضاً.
والفرد المسلم الطموح الذى لا يجد مأوى لحلمه.. والمفكر الذى تلفظه أرضه ويشعل أهلها النيران بأوراقه وأفكاره المدنسة صار له اسم لامع ومناخ حر (فى أرض الكفر) يبيح له الإبحار والإبداع وحتى الكتابة عن إصلاح وطنه الأول.
هل سيشتاق إليه؟
إلى وطن يغصبه على الصلاة.
فيما وطن بديل يمنحه حرية التمتع بها.
هل تستبدل الأوطان؟
وطن يفاخر بالمآذن ودور العبادات، دون أن يعترف بالإنسان والكرامات. يترك البائسين يرحلون، ولا يذرف عليهم الدموع.
فيما وطن بديل يفتح لهم أذرعه، يمدها. لا يبخل. لا يشح. يستمع لكل حلم. ويساوى بين الجميع. أساسه التعددية والسلام. لا المآذن ووحدة المعتقدات.
هل سيتذكر مسلمو سويسرا وأوروبا عموماً أوضاعهم فى بلدهم الأول.. هل سيقدرون للوطن الجديد هباته وعطاياه، ويمررون قانون حظر ليس من أركان ولا شروط ولا أعمدة الإسلام بشىء؟ هل سيبادلون أوطانهم الجديدة انتماءها إليهم وولاءها لهم وإخلاصها؟ أم يخونون كما تخون أوطانهم الأولى؟
أو ستمارس فى المستقبل القريب الهمجية المعتادة ويتحول الأمر لقضية رأى عام كبقية قضايا العالم الإسلامى اليوم. وبعد الصراع على القماش يبدأ صراع طائفى على الأحجار.
وتتحول المئذنة إلى مقصلة تنسف وجود مسلمى أوروبا.
عموماً لا تقع مسؤولية نتيجة التصويت على عاتق الحكومة السويسرية أو الناخبين إنما على عاتق المسلمين الذين دفعوا بالآخر للرهبة من عامود.
عامود منتصب كان فيما مضى أعجوبة موسيقية توصل لنا أجمل أصوات الأذان.. صارت تخرج منه جميع أشكال التحريض كما قد تخرج منه الأمنية الأبدية لكثير من أئمة المساجد.
(اللهم دمّر أعداء الدين).
كاتبة سعودية
Albdairnadine@hotmail.com
المئذنة.. من منبر سلام لمنبر لعنات
نادين أنت رائعة