(الصورة: رئيس أميركا “بيل كلينتون”، ورئيس روسيا “بوريس يلتسين”، ورئيس أوكرانيا “ليونيد كرافتشوك”، يوقّعون الإتفاقية الثلاثية لنقل الأسلحة النووية من أوكرانيا إلى روسيا في موسكو في يناير 1994)
*
خاص بـ”الشفاف”
في يوم 1 يونيو 1996، وصل إلى روسيا قطاران ينقلان آخر دفعة من الرؤوس الحربية التي كانت منشورة في أوكرانيا قبل انهيار الإتحاد السوفياتي.
كان وصول القطارين الفصل الأخير في عملية تنازل “كييف” عما كان يمثّل ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم- أي ما يزيد على الأسلحة النووية التي تملكها بريطانيا، وفرنسا،والصين مجتمعة! وقد تخلّت حكومة أوكرانيا عن ترسانتها لأسباب أبرزها تأكيدات روسيا بأنها ستحترم سيادة أوكرانيا وسلامةأراضيها، وبأنها ستمتنع عن استخدام القوة ضد أوكرانيا.
عودة إلى الوراء
حينما انهار الإتحاد السوفياتي في أواخر سنة 1991، تبيّن لأوكرانيا أن لديها 4,400 رأس حربي نووي- بينها 1,900 رأس نووي استراتيجي، و2,500 رأس حري غير استراتيجي، أي “تكتيكي”. وهذا إلى جانب صواريخ بالستية عابرة للقارات (ICBMs)من نوع SS-19 وSS-24، وقاذفات “بلاك جاك” (Blackjack) و”بير” (Bear) معدّة لنقل الرؤوس النووية إلى أراضي “العدو”. وقامت روسيا، على وجه السرعة، بترتيب عملية نقل الأسلحة النووية الأوكرانية غير الإستراتيجية إلى أراضيها، واكتملت تلك العملية في مايو 1992.
ولكن الأسلحة النووية الإستراتيجية ظلّت في أوكرانيا.
كانت حكومة أوكرانيا، التي حصلت للتوّ على استقلالها، مصمّمة على التحوّل إلى دولة منزوعة السلاح النووي. وجاء في إعلان استقلال أوكرانيا في يونيو 1990 أن أوكرانيا لن تقبل بالحصول على أسلحة نووية، وأنها ستمتنع عن إنتاج أو شراء أسلحة نووية. ولكن، قبل إعطاء موافقتهم النهائية على نزع أسلحة البلاد النووية، حدد المسؤولون الأوكرانيون عدداً من المسائل التي ينبغي التعامل معها. فالأسلحة النووية كانت تؤمن مزايا أمنية للبلاد، الأمر الذي دفع “كييف”، أولاً، للسعي للحصول على ضمانات أو تأكيدات تتعلق بأمنها بعد نزع أسلحتها النووية. ثانياً، طلب المسؤولون الأوكرانيون تعويضات عن قيمة اليورانيوم العالي التخصيب الموجود في الرؤوس الحربية. وثالثاً، فبصفتها إحدى الدول التي خَلَفت الإتحاد السوفياتي، فإن أوكرانيا اعتُبِرت طرفاً في “معاهدة الحد من التسلّح النووي” (“ستارت”) الموقّعة في العام 1991، الأمر الذي فرض عليها أن تزيل “الصواريخ البالستية العابرة للقارات”، ومخازن تلك الصواريخ البالستية، وقادفات القنابل القادرة على حمل رؤوس نووية، وغير ذلك من المرافق النووية، من أراضيها. ولم تكن أوكرانيا في ذلك الحين تعرف كيف يمكنها أن تتحمّل أكلاف تلك العملية وسط ظروفها الإقتصادية القلقة في حينه.
وفي سبتمبر 1993، أسفر اجتماع عقده الرئيس الروسي “بوريس يلتسين” والأوكراني “ليونيد كرافتشوك” عن إعلان بأن البلدين توصلا إلى اتفاق حول نقل الرؤوس الحربية النووية الإستراتيجية إلى روسيا بغية تفكيكها. ولكن الإتفاقية انهارت خلال أيام!
خوفاً من أن تُخفق “كييف” و”موسكو” في التوصّل إلى اتفاق، قرّر المسؤولون الأميركيون أن ينخرطوا في المفاوضات مباشرةً. وكانت الولايات المتحدة، من جهتها، تتخوّف من عدم تنفيد “معاهدة الحد من التسلّح النووي” (“ستارت”) بعد أن اعتبرت الحكومة الروسية أن تنفيذها يتوقف على انضمام أوكرانيا إلى “معاهدة حظر التسلح النووي” (NPT) بصفتها دولة غير نووية. ورحّب المسؤولون الروس بتدخّل الولايات المتحدة لأنهم أدركوا أن واشنطن كانت تشاركهم في هدفهم المتمثل في إخراج الأسلحة النووية من أوكرانيا. كما رحّب المسؤولون الأوكرانيون بمشاركة الولايات المتحدة في العملية، اعتقاداً منهم بأن ذلك سيؤمن لهم دعماً أميركياً حول قضايا معينة.
بنود الصفقة
نصّ الإعلان الثلاثي على عدد من النقاط، بينها التزام أوكرانيا بالإنضمام إلى “معاهدة حظر التسلح النووي” (NPT) بصفة دولة غير نووية “في أقصر وقت ممكن”. كما تضمّن الإتفاق أن يتزامن “نقل الرؤوس الحربية النووية من أوكرانيا إلى رويسيا مع دفع تعويض لأوكرانيا (يمثّل قيمة اليورانيوم العالي التخصيب الموجود في الرؤوس النووية) في صورة “منظومات وقود” لتشغيل محطات الطافة النووية الأوكرانية. كما اشتمل الإتفاق على التزام أميركي بمساعدة أوكرانيا للتخلص من “نُظُم نقل الأسلحة النووية الإستراتيجية” الموجودة على أراضيها وفقاً لنصوص “معاهدة الحد من التسلّح النووي” (“ستارت”) الموقّعة في العام 1991.
تضمّن “الإعلان الثلاثي” كذلك التأكيدات الأمنية المحددة التي وافقت الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا على تقديمها لأوكرانيا فور انضمامها إلى “معاهدة حظر التسلح النووي” (NPT). وتضمنت التأكيدات الأمنية التزامات “باحترام استقلال أوكرانيا، وسيادتها، وحدودها الراهنة”، وكذلك “الإمتناع عن أي استخدام للقوة أو عن التهديد باستخدام القوة” ضد أوكرانيا.
ولاحقاً، تضمّنت “مذكرة بودابسبت للتأكيدات الأمنية” (Budapest Memorandum of Security Assurances)، في ديسمبر 1994 نفس الإلتزامات المذكورة أعلاه.
علاوةً على توقيع “البيان الثلاثي” (Trilateral Statement) تبادل قادة روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة خطابات سرّية تتضمن موافقة “كييف” على نقل كل الرؤوس الحربية النووية إلى روسيا بغية تفكيكها قبل 1 يونيو 1996، والتزام موسكو بتوفير تعويضات لأوكرانيا عن الرؤوس الحربية النووية غير الإستراتيجية التي سبق أن نقلتها أوكرانيا إلى روسيا.
في فبراير 1994، عقد ممثلو روسيا وأوكرانيا اجتماعات ثنائية واتفقا على الجداول الزمنية لنقل الرؤوس الحربية النووية الإستراتيجية إلى روسيا ونقل منظومات الوقود النووي (السلمي) إلى أوكرانيا. كما اتفقوا على قيمة التعويض الذي ستحصل عليه أوكرانيا- وهو عبارة عن “إعفاء من الديون”- بقيمة اليورانيوم العالي التخصيب الذي كان موجوداً في الرؤوس الحربية غير الإستراتيجية التي سلمتها أوكرانيا لروسيا. وبدأت عملية النقل مباشرة بعد ذلك الإتفاق.
في نوفمبر 1994، وافق برلمان أوكرانيا- “الرادا”- على قانون انضمام أوكرانيا إلى “معاهدة حظر التسلح النووي” (NPT). وشكل تصويت البرلمان الأوكراني التمهيد اللازم لاستلام الرؤساء كلينتون، ويلتسين، ورئيس أوكرانيا المنتخب حديثاً “ليونيد كوتشما”، ورئيس حكومة بريطانيا جون ميجور، لوثبقة الإنضمام إلى “معاهدة حظر التسلح النووي” (NPT) وبالتالي لتوقيع “مذكرة بودابست للتأكيدات الأمنية” (Budapest Memorandum of Security Assurances) في 5 ديسمبر 1994. وبناءً عليه، أكملت أوكرانيا وروسيا عمليات النقل المتبادل، للرؤوس الحربية النووية ومنمات الوقود السلمي، خلال السنة ونصف السنة التالية.
(جدير بالذكر أن “مذكرة بودابست للتأكيدات الأمنية” (Budapest Memorandum of Security Assurances) لم تقتصر على نزع سلاح أوكرانيا النووي، بل شملت نزع السلاح النووي من “بيلاروسيا” و”قازاخستان” أيضاً. وشملت كذلك ضمانات آمنية “أقل قوّةً” من جانب الصين وفرنسا).
ماذا حدث؟
في فبراير 2014، استخدمت روسيا البوتينية- في ما يشكّل خرقاً فاضحاً لالتزامات روسيا نفسها بموجب “مذكرة بودابست للتأكيدات الأمنية” – القوة العسكرية لانتزاع شبه جزيرة “القرم” من أوكرانيا ولضمّها لأراضيها لاحقاً. وبعد ذلك مباشرةً، في مارس 2014، تدخّلت قوى الأمن والجيش الروسية في “حرب الدونباس” في شرق أوكرانيا (التي أسفرت عن مقتل 14,000 إنسان حتى فبراير 2022 حينما قامت روسيا بشن غزو واسع النطاق لأوكرانيا كلها.
والنتيجة؟
لو كانت أوكرانيا قد اختفظت بأسلحتها النووية، فإن علاقاتها مع الولايات المتحدة، وأوروبا، و”الإتحاد الأوروبي” وحلف “الناتو” ما كانت لتتطوّر على نحو ما حدث خلال 25 سنة الماضية، مع أنها كانت ستواجه مشكلة كبيرة مع موسكو! ولكن وقائع النزاع كانت ستبدو مختلفة! وبالنتيجة، فمن المفهوم أن يتساءل الأوكرانيون الآن عما إذا كانوا قد أخطأوا بالتخلي عن أسلحتهم النووية قبل ربع قرن.
هل كانت روسيا ستتصرّف كما فعلت في 2014 وفي 2022 لو احتفظت أوكرانيا برؤوسها الحربية النووية؟
ماذا عن التسليح الأميركي الهائل لأوكرانيا بعد الغزو الروسي؟
بناءً على التأكيدات التي قدّمها مسؤولون أميركيون للمفاوضين الأوكرانيين في فترة التسعينات، فقد وفّرت واشنطن مساعدة عسكرية كبيرة جداً لأوكرانيا، شملت صواريخ مضادة للدروع، وعربات مدرّعة، ومدفعية ثقيلة، وكميات كبيرة من الذخائر- أي “حزمة مساعدات عسكرية” بقيمة 4.5 بليون دولار منذ يناير 2021. وفي مايو 2022، أقرّ الكونغرس الأميركي. حزمة مساعدات عسكرية واقتصادية لـ”كييف” تبلغ قيمتها عدة مليارات من الدولارات. كما عملت الولايات المتحدة مع “الإتحاد الأوروبي” ودول أخرى لفرض عقوبات إقتصادية كبرى على روسيا.
أي درس ستستخلصه طهران من حرب أوكرانيا؟
الدرس الذي سيستخلصه “الملا خامنئي” وحرسه (ورئيس كوريا الشمالية، وجنرالات باكستان) هو أنه ينبغي لهم الإستمرار في مشروع الحصول على قنبلة ذرية لأنه لا قيمة للضمانات الأمنية الغربية (والروسية)! أوكرانيا سلّمت روسيا “طوعاً” 4,400 رأس حربي نووي، وعدداً من قاذفات القنابل والصواريخ القادرة على قصف مدن أميركا وأوروبا. فكانت مكافأتها أن بوتين غزا أراضيها، وهو الآن يهددها باستخدام الأسلحة النووية التي كانت تملكها.. ضدها!
خيانة “بوتين” للإتفاقات الروسية-الأميركية-الأوروبية مع أوكرانيا ستعزّز التسلّح النووي في العالم!
*
تعتمد المقاربة أعلاه على شهادة سفير أميركا السابق في أوكرانيا “ستيفن بايفر” (Steven Pifer) الذي شارك في المفاوضات حول “الإعلان الثلاثي” الأوكراني-الروسي-الأميركي، وفي مفاوضات “مذكرة بودابسبت للتأكيدات الأمنية” في 1993-1994. يمكن قراءة الشهادة بالإنكليزية هنا.
إقرأ أيضاً:
سقطت رهاناته.. متى يسقط بوتين؟
في نداءٍ مفتوح: 664 عالم وباحث روسي يطالبون بوقف الحرب على أوكرانيا