يتّفق الأذكى بين اللبنانيّين والأقلّ غرضاً وعصبيّة فيهم على أن الطائفيّة ونظامها كفّا عن إنتاج أيّ معنى إيجابيّ، وأن كلّ ما قد ينجم عنهما خراب بحت. وما الأزمة الراهنة ذات المظهر الدستوريّ، بعد مسلسل الحروب والمواجهات الدمويّة المتقطّعة، غير شهادة نابضة في دلالتها على توقّف اشتغال الصيغة هذه، إن لم نقل على اشتغالها السلبيّ والكارثيّ وحده.
فقد ولّت تلك الأيّام التي كان اللبنانيّون إبّانها يتغزّلون بالتعدّديّة الطائفيّة بوصفها مصدراً للتوازن والاستقرار، فضلاً عن كونها مصدراً للثراء، أو حين يتغنّون بدور الطائفيّة في الحؤول دون انقلاب عسكريّ أو حكم استبداديّ من لون واحد. أما الفردوس الشهابيّ، في النصف الأوّل من الستينات، حين أمكن إخضاع الطوائف للدولة في ظلّ ارتضاء بهيمنة مارونيّة تمارس ذاتها على نحو مخفّف، عبر توسيع شبكة الخدمات للمناطق المسلمة والتحالف مع مصر الناصريّة في السياسات العربيّة والإقليميّة، فغدا أشبه بالذاكرة المنسيّة أو الممحوّة.
ذاك أن المسألة اليوم باتت ترقى الى ما يقارب البقاء والفناء، الوجود والعدم. فاللبنانيّون، حتّى لو تجاوزوا مأزقهم الضخم الراهن وتوصّلوا الى انتخاب قائد الجيش، ميشال سليمان، رئيساً لجمهوريّتهم، سيجدون أنفسهم، عاجلاً أم آجلاً، أمام مشكلات مستعصية متتالية لن يقلّ حجمها عن حجم المأزق المذكور. فالراهن أن الهيمنة القديمة في ظلّ الطائفة المارونيّة شرعت تنكسر أواسط السبعينات ثم اكتمل انكسارها في أواسط الثمانينات، مع حرب الجبل واستحالة توطّد السلطة لرئيس الجمهوريّة يومها أمين الجميّل، وهذا فيما لم تنشأ هيمنة بديل سنيّة أو شيعيّة لضعف الطرفين عن توليدها، على ما تدلّ التجربة الممتدّة منذ مطالع التسعينات.
والى هذا، يضعنا الاختلال الكامل في التوازنات السكّانيّة التي قام عليها النظام الطائفيّ وعبّر عنها، أمام خيارين أحلاهما مُرّ:
* هل يُعتمد نوع من “العمل الإيجابيّ” (أو في ترجمة أخرى “نظام الكوتا”) (affirmative action) يعطي المسيحيّ حصّة في التمثيل تعادل حصّة مسلمين اثنين أو أكثر، محافظةً على مبدأ المناصفة، وهكذا يؤسّس نظام لا يمكن اجتناب وصفه بالعنصريّة والتمييز الصارخ. وغنيّ عن القول أن شيئاً كهذا لا يمكن أن يكون مقبولاً من غير المسيحيّين، لا سيّما في ظلّ انتشار الدعوات المساواتيّة والديموقراطيّة وسطوعها؟
* أم يُتّجَه، بالتدريج أو بالقفزات الكبرى، نحو ترسيخ الديمقراطيّة العدديّة بحيث يتعادل التمثيل السياسيّ لكلّ واحدة من الطوائف مع عدد أبنائها الفعليّ. وهكذا يُطلَق العنان لشعبويّة، ربّما رست على الاستبداد، كفيلة بإطاحة خصوصيّة لبنان في منطقته والتي عمادها دور المسيحيّين؟
بيد أن التنويه بإعضال الطائفيّة في لبنان لا يعني مطلقاً أن استبدالها أو تجاوزها سهلان متاحان. فهي تستفحل على نحو غير مسبوق بين اللبنانيّين متجاوزةً السياسة وميدانها و”حصصها” الى مجالات أهليّة ومدنيّة على السواء في عدادها المؤسّسات والمصالح الاقتصاديّة والتعليم، مضيّقةً، في صورة متعاظمة، حيّز الاشتراك والتقاطُع بين اللبنانيّين.
والاستفحال هذا يستقي بعض مدده من مناخ يتعدّى لبنان عنوانه العريض انبعاث الهويّات الصغرى، الطائفيّ منها والدينيّ والإثنيّ، التي تقتات على حساب الدول والمجتمعات وهويّاتها الوطنيّة.
فوق هذا، يتصاحب الصعود الصاروخيّ للطائفيّة مع ضمور الداخل ضموراً كليّاً لمصلحة الخارج. صحيح أن الأخير كانت له، على الدوام، حصّته في صياغة القرار السياسيّ للبنان، إلا أن الحصّة هذه تكاد تبتلع اليوم كلّ ما عداها، على ما يشير تعبير “الساحة” وأدوار العواصم العربيّة والإقليميّة والغربيّة. هكذا اضمحل، أو كاد، كلّ مجال يحتضن المحاولات الذاتيّة التي تستجيب، أوّلاً وأخيراً، مصالح اللبنانيّين وضرورات التلاقي بينهم.
وأخيراً، تعمل المنطقة المحيطة بلبنان على تغذية الطائفيّة اللبنانيّة في معنيين:
من جهة، أن الظاهرة إيّاها تكاد تغدو عربيّة الامتداد، ما يُستدلّ عليه في حالة بلد كالعراق مثلاً لا حصراً،
ومن جهة أخرى، أن المنطقة تفتقر الى نماذج ناجحة في مكافحة الطائفيّة يمكن الاستعانة بها والقياس عليها. فإذا قيل إن الأنظمة الحداثيّة ظاهريّاً، كنظامي البعث في العراق وسورية، تعاملت مع مواطنيها كمواطنين، لا كأبناء طوائف وجماعات، يبقى من المؤكّد والموثّق أن المواطنيّة الجامعة في حالات كهذه لم تكن إلاّ غلالة رقيقة تقيم خلفها عمليّة تحديث الطائفيّة بولاءاتها كما بمصالحها.
وقصارى القول إن اللبنانيّين اليوم يبدون محاصَرين بالطائفيّة مثلما هم محاصَرون بمصاعب تذليلها. وهذا ما يرقى الى انسداد تاريخيّ عظيم لا تتوافر، حتّى إشعار آخر، طريقة لتدبّره.
*نقلا عن جريدة “الغد” الأردنية