يبدو أن ارتفاع المد الثقافي الليبرالي بين الشباب الكويتي بات مزعجا للتيار الديني. وذلك جعل دعاة هذا التيار يطلقون جرس الإنذار، محذرين من هذا المد، وموجهين سهام نقدهم إلى الثقافة الليبرالية والنهج الليبرالي من دون فهم أو وعي، ومطلقين عبارات منافية للأخلاق إلى الكتّاب الليبراليين.
لذلك هناك مؤشرات تدل على تغيّر الواقع الاجتماعي الكويتي وقبول الثقافة الليبرالية والنهج الليبرالي، وهو ما يُعتبر مؤشر خطورة للدعاة. فبعض المقالات التي يكتبها الدعاة تشير إلى انزعاجهم من انتشار النهج الليبرالي بين الشباب، كما تشير إلى خوفهم من المزج الذي يقوم به الشباب بين التديّن و”اللبرلة”. كما باتت المحاضرات الثقافية والعلمية التي ينظمها الليبراليون والعلمانيون تجلب جمهورا من الشباب أكبر بكثير من ذي قبل، مما فند ادعاءات الدعاة من أن الحضور في تلك المحاضرات لا يتعدى عدد أصابع اليد، حيث وصل عدد الحضور في بعضها إلى المئات رغم أنها ليست محاضرات سياسية حماسية بل محاضرات علمية تحاكي العقل وتنتقد الخرافة.
وفي تقديري فإن نقد فكر التيار الديني، أي نقد الفهم الديني الأصولي التاريخي والسعي لطرح فهم ديني جديد قادر على التعايش وسط عالم الحداثة الجديد ومتناغم مع مفاهيمها، يعتبر من أبرز الأمور التي من شأنها أن تساعد في “لَبرَلَة” المجتمع الكويتي. لذلك تقع مسؤولية تغيير الخطاب الديني وتجديده على عاتق التيار الليبرالي. فالفهم الديني غير المعادي لليبرالية وغير المناهض للحداثة ومفاهيمها، سيشجع التغيير في الواقع الاجتماعي الكويتي.
فلو ساهم التيار الليبرالي في الكويت في الدعوة لإسلام مستنير مستند إلى رؤى لا تخالف مفاهيم الحداثة، كالليبرالية والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان والتعددية الثقافية والفكرية والدينية، إسلام يضفي على العمل السياسي والاجتماعي استقامة أخلاقية، بديلا عن الإسلام السياسي المؤدلج، أو الإسلام التقليدي الماضوي، اللذين يؤطران الحلول لقضايا المجتمع ومشاكله من خلال قوالب دينية جاهزة مسبقا (أي من خلال قوالب تاريخية مؤدلجة) وغير قابلة للتغيير إلا عن طريق الأطر الدعوية الضيقة، لو ساهم الخطاب الليبرالي في ذلك يكون قد خطا خطوة مميزة نحو مزيد من “لبرلة” الواقع الاجتماعي وانتقاله نحو الحداثة.
إن إنزعاج التيار الديني ودعاته من انتشار النهج الليبرالي والثقافة الليبرالية بين الشباب، يعود جزء منه إلى إحساسه بأنه بدأ يفقد هيمنته على الهوية الاجتماعية الكويتية. في المقابل، يجب ألاّ يستحوذ على اهتمام النخب الليبرالية، وبالذات النخب الثقافية، ممارسة النقد اللاذع والمتطرف ضد الأصولية الدينية من دون تقديم البديل الديني المتمثل في الفهم الديني المستنير القادر على التعايش مع الحداثة. لذلك، يقوم التيار الديني ودعاته باستغلال الخطاب الليبرالي الناقد من أجل تأليب الرأي العام ضد الليبرالية بوصفها ثقافة معادية للدين الإسلامي. في حين أن الليبراليين ينتقدون الفهم الديني المسيّس والفهم التقليدي التاريخي، بسبب معادات الفهمين للحداثة. لكن الليبراليين لا يعادون الأديان، بل إن النهج الليبرالي هو ضمانة لمختلف الأديان بل ولمختلف المذاهب داخل الدين الواحد للعيش معا.
فالتيار الديني لا يزال ينهل من الثقافة التاريخية، ولا يزال يعتمد على الفقه الماضوي في تفسير مسائل الحياة الحديثة ووضع حلول لها، مما جعله يعتمد على منبع فكري واحد، ما لبث أن أوحى هذا المنبع لجمهوره بأنه يتبنى حلولا “نهائية” معلبة في قوالب غير قابلة للنقاش إلا في الإطار الفقهي. بمعنى أن أبرز ما يسعى إليه التيار ودعاته هو الرد على أسئلة الحاضر بإجابات تاريخية ماضوية.
هناك شرط رئيسي لوصف المدرسة المحتضنة لخطاب التجديد الديني بـ”المستنيرة”، وهو ألا يتعارض نهجها مع الإجابات الحديثة على أسئلة الحياة ومشاكل الواقع، وإلا لن يطلق عليها “المستنيرة”. وتلك الإجابات تستند إلى فصل العقل الديني عن العقل الطبيعي (العلمانية) أو فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية. بمعنى الاعتماد على العقل الحر ومواجهة الواقع بسلاح العلوم البشرية الحديثة.
فزعزعة مكانة الثقافة الدينية التاريخية في المجتمع، ممكنة من خلال رؤية دينية تتفاعل مع الحداثة وتهز الأركان الفقهية الماضوية المؤدلجة وتكشف النوايا الوصائية الإلغائية والحلول الماضوية التعجيزية لمشاكل الواقع.
صحيح أن الأصولية الكويتية أقل تشددا في مواقع متعددة من أخواتها الأصوليات الأخرى في المنطقة، إلاّ أن ذلك لا يلغي تشددها تجاه الليبرالي والعلماني والآخر الديني.
كما أنها أثبتت أنها متناقضة إلى حد كبير في وصف – مثلا – ظاهرة الإرهاب. حيث تنظر للعمليات الانتحارية لقتل المدنيين في منطقة من المناطق بأنها إرهابية في حين ترى الإرهاب في منطقة أخرى بأنه مقاومة مشروعة ضد الغزاة.
هذا التناقض في التأكيد على شرعية قتل المدنيين، كاف للتدليل على خطورة الأصولية، وضرورة ظهور فكر ديني حداثي يهيئ الساحة السياسية والاجتماعية لقبول الليبرالية والديموقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان.
إن تزايد عدد الليبراليين يزيد من ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقهم في تبني خطاب ديني حداثي يستطيع مواجهة الخطاب الديني الأصولي التاريخي والمسيّس. وقد أشار الكاتب شاكر النابلسي في أحد مقالاته إلى ذلك بالقول إن “أكبر دليل على تقدم الليبرالية العربية في السنوات الخمس الماضية، هو ظهور كثير من الليبراليين النساء والرجال في الصحراء العربية ومنطقة الخليج العربي. فمن كان يظن أن هذه المنطقة من العالم العربي هي ساحة رمّاحة للأصوليين فقط، فهو خاطئ. ولعل ليبراليي هذه المنطقة من العالم العربي، هم من أكثر ليبراليي العالم العربي حماسة وشجاعة وإقداماً. ومن يقرأ الصحافة الورقية الخليجية الآن، يرى أن تسعين بالمائة منها ذات توجه ليبرالي، تنادي وينادي كتابها – وهم الأكثرية – بضرورة النقد الذاتي، وفرز التراث، واحترام حقوق الإنسان، وبالمساواة بين الرجل والمرأة، وبحرية الرأي والرأي الآخر، ورفع الرقابة كليةً عن الثقافة، وبالمساواة بين كافة المواطنين بالحقوق والواجبات بغض النظر عن جنسهم، ولونهم، وطائفتهم”.
إن مسعى تجديد الفهم الديني لا يمكن أن ينجح من دون تحصين وارف بمعرفة عميقة مرتبطة بالعلوم والمعارف البشرية الجديدة. فالفقه، على سبيل المثال، سوف يظل جامدا وراكدا وتاريخيا ما دام صاحبه، الذي يفسره ثم يطرحه في الساحة الاجتماعية الدينية، غير متطور وغير متجدد في أسسه الكلامية والفلسفية والعلمية. أوبعبارة أخرى، مادام مفسِّر الدين غير مرتبط بالحياة الحديثة. فلا يجب أن ننتظر من الفقهاء الراهنين، من السنة والشيعة، أي خطوة باتجاه تجديد الفهم الديني، ما داموا غير حداثيين في جوانب الحياة المختلفة.
إن من يمعن النظر في طبيعة حياة المجتمعات العربية والمسلمة الراهنة سوف يجد تداخلا واضحا – أذكته الصورة النمطية التاريخية حول الدين – بين الديني وغير الديني. فالمواطن العربي والمسلم لا يزال لا يعرف من له الأولوية في تحديد المفاهيم الخاصة التي من شأنها أن تدبّر وتدير شؤون حياته، هل هي المفاهيم المرتبطة بالعلم، أم تلك التي ينتجها الخطاب الديني، أم غيره؟ هل الدين يسبق المواطنة في تعريف هويته؟ هل الانتماءات الدينية الطائفية تحقق له مصالحه في الحياة؟ هل القتل على أساس الهوية الدينية مشروع؟ إن كل ذلك يحدث للمرء تشويشا فكريا، وهو نتاج هيمنة الفكر الديني التاريخي على مجريات الحياة، مما يجعله عاجزا عن التمييز أيهما يختار ما بين الدين وغير الدين لإدارة شؤون حياته. فإذا اختار الدين وجد نفسه لايزال يسبح في بحر الحياة التاريخية القديمة التي تعجز عن أن تتوافق مع تغيّرات الحياة أو عن طرح حلول لمسائل الحياة الراهنة. أما إذا اختار غيره فسوف يرمى بمختلف النعوت التي تجعل حياته مهددة ومعذبة.
يجب أن نقرّ بأن الدين لم يعد هو “كل الحياة” في العصر الجديد، مثلما كان في العصر القديم. فإذا كان الدين في الماضي سبيلا لتحقيق التديّن، وأيضا لحل مشاكل الحياة، فإنه لم يعد كذلك الآن. فالحياة تغيّرت ولم يعد الدين يمثل “مركز” العلاقة بينها وبين البشر، في حين لم يتغيّر المسلمون ولا يزالون يعتبرون الدين، بتفسيره التاريخي الذي يعتقد بأنه الأساس لأي علاقة بين الإنسان والحياة، “ركيزة” الحياة في الماضي والحاضر معا. لذلك، نجد إصرارا وعنادا من قبل الدعاة على أن الدين التاريخي الذي توافق مع الحياة القديمة صالح لكل زمان، وهو ما جعلهم يعيشون أزمة مع الحداثة، وجعلوا الدين غريبا في الحياة وغير طبيعي. لذلك لابد من إيجاد السبل التي تساهم في تكوين علاقة جديدة بين الدين والحداثة، من أجل أن يتعايشا طبيعيا في العالم الجديد.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com
الليبرالية المزعجة أبوحسام – — hedi.mzoughi@gmail.com الطرح الليبرالي ينمو في ظل الأزمة الراهنة بخطى وئيدة ولكنها ثابتة في الكثير من المواقع العربية . والكويت تمثل واحة مافتئ يترعرع فيها الفكر المتحرر ويقيني أن الانفتاح الثقافي الذي كرسته دولة الكويت لعب دورا حاسما في انشار هذاالفكر المتحفز . و لا أشاطر صاحب المقال في قوله أن الدين كان هو “الكل في الحياة ” هذه الأطروحة تكرست فعلا في عصور الانحطاط الفكري في مختلف المجالات طوال قرون في العصور الوسيطة بعيد القرن الخامس الهجري إلى القرن الثالث عشر قبيل الاتصال بالحضارة الغربية في القرن التاسع عشر .وماعدا ذلك فالحياة في عصر ازدهار… قراءة المزيد ..
الليبرالية المزعجة أبوحسام – — hedi.mzoughi@gmail.com الطرح الليبرالي ينمو في ظل الأزمة الراهنة بخطى وئيدة ولكنها ثابتة في الكثير من المواقع العربية . والكويت تمثل واحة مافتئ يترعرع فيها الفكر المتحرر ويقيني أن الانفتاح الثقافي الذي كرسته دولة الكويت لعب دورا حاسما في انشار هذاالفكر المتحفز . و لا أشاطر صاحب المقال في قوله أن الدين كان هو “الكل في الحياة ” هذه الأطروحة تكرست فعلا في عصور الانحطاط الفكري في مختلف المجالات طوال قرون في العصور الوسيطة بعيد القرن الخامس الهجري إلى القرن الثالث عشر قبيل الاتصال بالحضارة الغربية في القرن التاسع عشر .وماعدا ذلك فالحياة في عصر ازدهار… قراءة المزيد ..
الليبرالية المزعجة
Sara Thunayan — sethnayan@hotmail.com
البساط سيُسحب من تحت ارجل الدينيين عاجلاً أم آجل .. وكل ما كانوا -في الماضي- يمنعون وصوله للناس فسيصعب عليهم فعله في الحاضر . فشمس الحقيقة لن يستطيعوا حجبها بعد اليوم عنا.
أظن أن مشكلة الدينيين انهم لايستطيعون النظر بعقلانية لمسلّماتهم وثوابتهم الدينية ،وهم غير قادرين على مناقشتها بموضوعية وتجرد بحت. فمثلاً من يجرؤ على مناقشة مصادر التشريع الديني وطريقة تجميعها بمنهجية علمية بعيداً عن التقديس والتسليم المطلق؟ إن فعلنا ذلك فربما استبشرنا ببصيص أمل بالتغيير. ولكننا -مع الاسف- بعيدون عن ذلك