أدى الصراع بين الرئيس السادات وخصومه (المستندين إلى الدعم السوفياتي وإلى أنظمة عربية مثل ليبيا والعراق وسوريا وعدن الشيوعية والجزائر) إلى ضرب السوقيات في مصر، وإطلاق الاخوان المسلمين من السجون، وإطلاق الحرية للجماعات والتيارات الإسلامية للعمل في الجامعات في مواجهة اليسار القومي والماركسي. وشهدت السبعينات نشوء ونمو “الجماعة الإسلامية” في جامعات الصعيد، وجماعة الجهاد في القاهرة، وانتشار هذا التيار إلى خارج مصر (بسبب العلاقات القوية بالدارسين والعاملين في دول الخليج كما بسبب الحج السنوي إلى مكة)، خصوصاً إلى المغرب العربي.. وهكذا وُلدت الحركات الإسلامية المعاصرة في تونس والجزائر والمغرب، وحصلت فيها انشقاقات بسبب الخلاف حول الموقف من الصدام العنيف مع الأنظمة.. وأبرز مثال على ذلك حركة الشبيبة المغربية (وقائدها عبدالكريم مطيع).. وباعتقادي فإن ليبيا القذافي لعبت دوراً كبيراً في توريط بعض المجموعات في صراعات مسلحة مع أنظمتها أدت فيما أدت إليه إلى انتشار أرضية خصبة للفكر الجهادي العنيف في المغرب والجزائر، في حين أن قيادة حازمة حكيمة مثل قيادة الترابي في السودان والغنوشي في تونس منعت ذلك في بلادها.. وجاء انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وقيام جمهورية ولاية الفقيه الإسلامية، ثم اغتيال الرئيس السادات على يد تنظيم الجهاد الموحّد، إلى صبّ الزيت على نار الغليان الإسلامي والتجذّر والتطرّف (خصوصاً في المغرب والجزائر كما سبق القول).. وجاء احتلال أفغانستان وانطلاق الجهاد الإسلامي ضد المحتلين الروس (وبدعم أميركي وباكستاني وعربي من دون شك) ليخلق وقائع جديدة في مجرى تطوّر الحركة الإسلامية الجهادية.. إذن تعتبر أعوام 1979 ـ 1982 (من ثورة إيران إلى غزو واحتلال لبنان مروراً باغتيال السادات وغزو أفغانستان) سنوات اختمار وتبلور المشروع الجديد للسلفية الجهادية في العالم العربي.. وكان لا بد من أن تكون أفغانستان هي “قاعدة” وحضن هذا التبلور والاختمار.. فالذين استطاعوا الفرار من ضربات السلطة المصرية بعد اغتيال السادات، انتقلوا إلى أفغانستان حيث كان الجهاد في ذروته.. والذين كانوا في دول الخليج ينتظرون “نصرالله والفتح” هاجروا إلى أفغانستان للجهاد..
والذين هربوا من ضربات الملك المغربي (بعد انتفاضات 1981 و1982 وقمع حركات الشبيبة، والمجاهدون، وجند الإسلام، والثورة الإسلامية) تحلقوا حول الجهاد الأفغاني.. وكذلك فعل الجزائريون والتوانسة وغيرهم ممن سدّت في وجههم أبواب التحرك في بلادهم…
ومن الأردن/ فلسطين جاء عبدالله عزام لتأسيس “قاعدة عربية” تدعم جهاد أفغانستان.. وينبغي الإشارة هنا إلى شبكة العلاقات والمؤسسات والجمعيات الإسلامية التي ارتبطت تطوعياً وإنسانياً ومالياً وطبياً بقاعدة عبدالله عزام في طول العالم الإسلامي وعرضه لتأمين الدعم بمختلف أشكاله.. ومن هؤلاء أيمن الظواهري وأسامة بن لادن وعشرات الجزائريين والمغاربة والليبيين والمصريين والسعوديين والأردنيين والسوريين، خصوصاً من الطلبة والعاملين في باكستان أو من اللاجئين السياسيين.. وفي أفغانستان تشرذمت القوى والمجموعات وفقاً لتشرذم وتناحر جماعات الجهاد الأفغاني والتي كان أقواها الحزب الإسلامي (حكمتيار البشتوني).. من هنا ضرورة أن نفهم معنى اسم “القاعدة” إذ هي “قاعدة المعلومات” المتعلقة بأسماء وعناوين ورواتب ومواقع هؤلاء المتطوعين أو “الأفغان العرب” الذين أراد عبدالله عزام توجيههم لاحقاً باتجاه الصراع في فلسطين بعد اكتساب الخبرات والأسلحة والتدريب والتمويل..
وبعد اغتيال عبدالله عزام (لم يُعرف من قتله، قبيل انهزام السويات) استلم بن لادن قيادة هذه القاعدة العربية يعاونه عدد من المصريين (أيمن الظواهري وأبو حفص محمد عاطف والرفاعي أحمد طه ومصطفى حمزة وشوقي الإسلامبولي وغيرهم من قادة جماعة الجهاد السابقين) وتدعمه شبكة القاعدة، خصوصاً في السعودية ودول الخليج والمغرب العربي.. وحين انتصر الجهاد الأفغاني وخرج السويات (وسقط جدار برلين ومعه كل المنظومة الشيوعية في أوروبا الشرقية) عاد “الأفغان العرب” إلى ديارهم ليسهموا في تجذير وتثوير وتطرّف جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي وذلك لأسباب داخلية أساساً ولكن بسبب عنف الهجمة الاستعمارية والصهيونية على فلسطين والعرب خصوصاً..
خلال سنوات 1990 ـ 1996 تراجع الأفغان العرب في أفغانستان بعد التحرير بسبب النزاعات المسلحة الدموية بين أطراف الجهاد الأفغاني السابقين.. وخرج بن لادن إلى السودان.. وانصب اهتمام أيمن الظواهري والمصريين على تطوير العنف المسلح في مصر ضد النظام ورموزه كما ضد الأقباط والسياح وكل مظاهر الغرب.. في حين وجد آخرون في الجهاد الجديد في البوسنة والهرسك وفي كوسوفو وفي الشيشان وداغستان أرضاً لمواصلة مسيرتهم الأفغانية.. وبرز إلى السطح العنف الإرهابي الأعمى في الجزائر بعد انقلاب العسكر على التجربة الانتخابية الديموقراطية التي حملت الإسلاميين إلى السلطة. وهذا العنف الإرهابي لم يكن بعيداً هو الآخر عن أجهزة المخابرات الجزائرية أولاً ثم غيرها لاحقاً.. وشهدت تلك السنوات أيضاً تفريخ عشرات الجماعات والقيادات والأمراء والمشايخ ممن لا فقه ولا علم ولا تقوى عندهم، صاروا يفتون في الشاردة والواردة بالجهاد ضد الكفار وضد مطلق آخر مخالف في الرأي.. ومما زاد في سرعة انتشار النار التكفيرية في هشيم البلدان العربية، التحالف العربي ـ الإسلامي الذي قادته أميركا ضد العراق بعد غزو الكويت.. واعتبار مشاركة الدول العربية والإسلامية في حرب أميركية ضد بلد عربي إسلامي من أعمال الكفر.. وجاءت اتفاقية أوسلو (أيلول 1993) بعد حرب العراق، ثم اتفاقات وادي عربة وشرم الشيخ إلخ.. لتزيد من عمق الإحساس بالمهانة والهزيمة ومن عمق التوتر والغضب والتمرّد.. فإن أضفنا إلى ذلك دخول العالم في أحادية قطبية أميركية بعد سقوط الاتحاد السوياتي، وصعود موجة العداء للإسلام وللعرب والمسلمين في أوروبا وأميركا، واحتدام الأزمات الداخلية في الدول العربية والإسلامية وتفاقم عوامل التهميش والعطالة والفقر والبؤس وأزمات الهوية الممزّقة، ووقاحة الدعم الأميركي للعدوان الصهيوني المستمر ضد شعب فلسطين، وصولاً إلى أزمة الجهاد الأفغاني وصراع تياراته وأثنياته وقبائله، نفهم أسباب نمو مظاهر الغلو والتطرّف في بقاع العالم الإسلامي، ما شكّل أرضية خصبة لتيارات العنف والتكفير..
إلى ذلك كله جاءت ثورة الانترنت ومواقع التحادث وثورة الفضائيات العربية (أبرزها الجزيرة) لتزيد من عوامل انتشار مشاعر الإحباط والتمرد وتقنيات التواصل والعنف الرمزي قبل العنف المادي المسلح.. توج ذلك كله صعود طالبان السريع (1995 ـ 1996) واستلامها السلطة في كابول بدعم باكستاني صريح (خوف باكستان من صعود القومية الهندوسية المتطرفة واستلامها السلطة في الهند، وأفغانستان مركز تاريخي للصراع الهندي ـ الباكستاني وامتداداته الدولية) وإذا كان تنظيم القاعدة قد ولد من رحم الجهاد الأفغاني، وكانت أهدافه أهدافاً أفغانية في المقام الأول، فإنه استمر في الانغماس في الحالة الأفغانية حين تحالف مع طالبان التي سيطرت على 90% من أراضي أفغانستان بعد احتلالها كابول (1996) وهكذا عاد بن لادن إلى كابول، وانضم إليه قادة الجهاد والقاعدة الذين كانوا قد تشتتوا في الخارج، ليجعلوا من إمارة أفغانستان الإسلامية “قاعدتهم” من جديد ولكن هذه المرة مع تحديد أهداف خارج إطار الجهاد الأفغاني. وكانت آخر عملية للجهاد في مصر هي عملية قتل السياح الأجانب في الأقصر (1997) والتي جاءت رداً على مبادرات وقف العنف التي طرحها قادة تنظيم الجهاد الأساسيون في سجون مصر (بكافة أجنحتهم من طارق وعبود الزمر إلى الجماعة الإسلامية إلى كمال السعيد حبيب). ففي حين كان “الجهاديون” الأصليون يخوضون أروع وأجرأ تجربة نقدية فكرية ـ سياسية (لم يسبقهم إليها أي حزب أو تيار في العالم العربي) سميت بالمراجعات، وصدر عنها عشرات الكتب والوثائق التي تنبذ العنف وتدين القاعدة والإرهاب، وكان الإسلاميون في السودان وتونس، وفي المغرب والأردن، وفي تركيا وماليزيا، وفي باكستان ولبنان، يقتحمون غمار التحول إلى حركات سياسية وطنية ديموقراطية سلمية إصلاحية ويؤسسون للوسطية والاعتدال في القول والعمل، كان بن لادن ـ الظواهري ـ أبو حفص وبقايا “الأفغان العرب” و”القاعدة” القديمة، يعيدون تجميع قواهم في أفغانستان، الطالبانية، ويعلنون في شباط 1998 تأسيس الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين و”الأميركان” والتي وضعت لنفسها أولاً هدف دعم طالبان والضغط على أميركا للخروج من الخليج عامة والسعودية (حيث الأماكن المقدسة) خاصة. ثم ليوسعوا لاحقاً من نطاق أهدافهم لتشمل ارغام أميركا والغرب على الانصياع لمطالبهم سواء في الخليج أو الشيشان وداغستان أو كشمير أو فلسطين. ويلاحظ هنا ان فلسطين لم تحتل عندهم موقعاً مركزياً وأن أهدافهم كانت ضبابية وغير محددة الأمر الذي سمح لهم بنسج العلاقات مع القوى المقاتلة في تلك البقاع (خصوصاً الشيشان وكشمير) وإعادة جذب المجاهدين والمتطوعين إلى أفغانستان لخوض حروب طالبان ضد تحالف الشمال ولدعم التجربة الطالبانية.. وكانت استراتيجية القاعدة تقوم على النقاط التالية:
1 ـ التحدي والاستنزاف العسكري لأميركا وحلفائها بضربات موجعة وإن كانت متباعدة (مثال ضربات السفارات في كينيا وتنزانيا في آب 1999، وضربة السفينة الحربية في ميناء عدن في تشرين الأول 2000، وغزوة 11 أيلول الشهيرة، وضربات لندن ومدريد والمغرب والرياض والسعودية في أعوام 2003 ـ 2006).
2 ـ توسيع رقعة الصراع على امتداد العالم (وهذا ما تعنيه الضربات المذكورة آنفاً).
3 ـ كسب دعم وتعاطف الشعوب الإسلامية بإلباس المواجهة مع أميركا ثوباً دينياً وعبر إعلان الحرب على “اليهود والصليبيين”.
4 ـ الاعتماد على أسلوب التحرك الذاتي من قبل المجموعات والخلايا المنتشرة في العالم سواء تلك المرتبطة بالقاعدة تنظيمياً، أو تلك التي تبنت استراتيجية القاعدة لاحقاً وأعلنت عن نفسها كذراع محلي لها.
ومع ضربة 11 أيلول (التي يقدر استراتيجيو القاعدة مداها وتداعياتها واعتبروها واحدة من أعمال التحدي والاستنزاف العسكري مثل أية ضربة أخرى كبيرة) ثم سقوط نظام طالبان، وبعد ذلك سقوط العراق تحت قبضة الاحتلال الأميركي انتقلت القاعدة إلى مرحلة جديدة أبرز سماتها: تركيز الجهد في أفغانستان، لاستنزاف وضرب القوات الأميركية والحليفة، ولمساندة طالبان وقبائل البشتون، والاستفادة من التورط الأميركي في العراق لتوجيه ضربات قوية إلى الأميركيين، والهدف الأساس للقاعدة هو أفغانستان ومن بعده العراق ثم فلسطين ثم مصر.. هكذا جاء على لسان مصطفى أبو اليزيد القائد الجديد للقاعدة في أفغانستان (صحف 28 و29 أيار)، وقد أدى فشل القاعدة الكبير في مصر (حيث انتصر تيار المراجعات وقادة الجهاد والجماعة إلى جانب الاخوان) وفي تركيا (تيار حزب العدالة والتنمية الوريث الشرعي للحركة الإسلامية التركية هو اليوم في الحكم) وفي السودان وتونس (مواقف الترابي والغنوشي) ثم في المغرب (حزب العدالة والتنمية وحركة العدل والاحسان) وفي فلسطين (حماس والجهاد)، وعدم القدرة على استخدام الوضع في الجزائر كما كان حاصلاً قبل ذلك، ثم نجاح السعودية ودول آسيا (ماليزيا وأندونيسيا، وحتى باكستان) والمملكة المغربية والمملكة الأردنية (حلفاء أميركا تاريخياً) في ضبط حدود قدرة القاعدة على التخريب والإيذاء، كل ذلك يؤشر إلى مرحلة جديدة لها سمات مختلفة عن مرحلة بروز استراتيجية القاعدة القتالية. ولعل هذا ما يفسّر عدم قدرة القاعدة على التحكم كما في الماضي، بعناصر ومجموعات “التحرك الذاتي” التي تدّعي الانتماء إليها في حين أنها تقع فعلياً في أيدي الاستخدام المخابراتي (المثال العراقي هو خير مثال). وفي هذا الجو المرتبك والمضطرب لاستراتيجية القاعدة وقواها، ليس أسهل من قيام نظام عربي معروف بقدراته الاستخباراتية وبماضيه وتاريخه في هذا المجال من فبركة التنظيمات والمجموعات المنسوبة إلى القاعدة وإلى السلفية الجهادية، لغاية في نفس يعقوب.
ومثال فتح الإسلام اخيراً هو أبرز مصداق على هذا الوضع الجديد الذي يحتاج إلى دراسة مستقلة وإلى تبصّر ودراية قبل الوقوع في التحليلات السطحية وردود الفعل التي تصب في خانة التعمية الايديولوجية وحرب التضليل الإعلامي.
elmasa@earlham.edu
(*) كاتب وأستاذ في العلوم الاجتماعية