في غياب مجلس دستوريّ، يكون مجلس النوّاب السلطة الوحيدة المخوّلة تفسير المادّتين 49 و34 من الدستور اللبنانيّ في ما يتعلّق بانتخاب رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة. وللأسف، بما أنّ مدّة ولاية رئيس الجمهوريّة قد وصلت إلى نهايتها، فإنّ على المجلس أن يجتمع فورًا و”يباشر إلى انتخاب رئيس للبلاد فحسب، بدون تأخير أو نقاش”.
إضافةً إلى ذلك، من غير الواضح كيف أنّ ثلثي المئة وسبعة وعشرين نائبًا سيتمكّنون، في الظروف الحاليّة، من التوافق على تفسير مشترك للمادّتين 49 و34.
يبقى أنّه من الضروريّ توضيح المادّة 49، في ظلّ نظرة إلى المستقبل وبهدف التمكّن من فصل الجوانب القانونيّة عن الجوانب السياسيّة والأمنيّة المرتبطة بالنزاع الذي يقسم البلاد.
تشكّل أربعة متغيّرات محور النقاش: النصاب في الدورة الأولى والنصاب في الدورات التالية والغالبيّة المطلوبة للتصويت في الدورة الأولى وتلك المطلوبة في الدورات التالية.
أمّا العبارة الأكثر إثارةً للجدل: “.. بغالبيّة ثلثي الأصوات..” فهي لم تتغيّر في النصّ الفرنسيّ منذ العام 1926 وقد شهدت ترجمتها إلى اللغة العربيّة تحوّلاً أخيرًا بتاريخ غير مؤكد، في العام 1929 أو بتاريخ لاحق، شكّل مصدر إشكاليّة كبيرة. إلاّ أنّ المادّة 34 التي تتناول موضوع النصاب لم تتغيّر منذ العام 1927 في اللغتين.
تجدر الإشارة أوّلاً إلى أنّه لم تتمّ المصادقة على الدستور اللبنانيّ بكلّيّته إلاّ في شهر أيّار من العام 1926، ثمّ نُشِر نصّه في الجريدة الرسميّة في 12 آب 1926. ومنذ ذلك التاريخ، قامت عدّة قوانين دستوريّة بتعديل الدستور لكن من دون أن تتمّ المصادقة على هذا الأخير أو إعادة النظر فيه بكلّيّته. ولم ينشئ اتّفاق الطائف دستورًا جديدًا، إلاّ أنّه أدّى إلى اعتماد القانون الدستوريّ الصادر في 21/9/1990 الذي اكتفى بتعديل بعض من موادّ الدستور. وهذا ما يفسّر الأولويّة المعطاة للنصّ الفرنسيّ الأصليّ للعام 1926 بالنسبة إلى تفسيرات الدستور.
باعتبار أنّ مقاطع النصوص التي تهمّنا تعود إلى الفترة الممتدّة من العام 1926 إلى العام 1929، يمكننا المباشرة بتحليلها ضمن السياق التاريخيّ والسياسيّ والاجتماعيّ، ومتابعة تطوّرها بدءًا من المناقشات الأولى في كانون الأوّل 1925، علمًا أنّ المرجع الكلاسيكي في هذا الإطار هو كتاب أنطوان حكيّم.
صدرت مؤخّرًا خمس مقالات لكلّ من الأساتذة جيكيل (Gicquel) وأفريل (Avril) وكوليار (Colliard)، وجميعهم أخصائيون فرنسيون بارزون في القانون الدستوري، في صحيفة L’Orient-Le Jour ما بين التاسع والخامس والعشرين من تشرين الثاني 2007، وهي تتناول الموضوع الذي يشغلنا. وسوف يتمّ أخذها بعين الاعتبار في التحليل أدناه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المقالة الشاملة بقلم الأستاذ محفوظ سكينه والمؤلّفات المرجعية للإستاذ ادمون ربّاط.
يركّز الأستاذ ربّاط والأساتذة الفرنسيّون الثلاثة تحليلهم على النصّ الفرنسيّ. أمّا الأستاذ سكينه فلا يُعنى إلاّ بالنصّ العربيّ الحالي. إلاّ أنّ هذا الأخير يختلف من حيث الشكل، في المقطع الذي يهمّنا من المادّة 49، عن النصّ الفرنسيّ الحاليّ وعن النصّين الفرنسيّ والعربيّ الأصليّين، وذلك على أثر إدخال تعديل على النص العربي بعد العام 1929، من دون علم المشرّعين على ما يبدو. وستتمّ لاحقًا مناقشة تطوّر النصّ العربيّ وأثره على التحليل.
لا شكّ في أنّ انقسام الآراء هو الأكبر بالنسبة إلى موضوع النصاب والدورة الأولى من الاقتراع. وبحسب الأستاذ جيكيل، إنّ التفسير الحرفيّ للنصوص مبرّر في هذه المسألة. في حين يرى رجال القانون الأربعة الآخرون أنّه من الضروريّ الابتعاد عن المعنى الحرفيّ للنصّ، معتبرين أنّه كانت لواضعيه نوايا مستندة إلى قراءة معيّنة للواقع السياسيّ والاجتماعيّ في لبنان، ومستنتجين أن الغالبية المطلوبة للإقتراع، وبالتالي للنصاب، هي مساوية لثلثي عدد الأعضاء الذين يمثلون قانوناً المجلس النيابي (عدد المقاعد غير الشاغرة) لضمان إنعقاد الجلسة الإنتخابية وإنتخاب رئيس للجمهورية في الدورة الأولى. وبهدف تسهيل هذا العرض، فلنطلق على النزعة الأولى تسمية “الحرفيّ” وعلى النزعة الثانية تسمية “نصاب الثلثين”.
إنّ مقاطع نصوص الدستور التي تهمّنا هي التالية:
المادّة 34
“لا يكون إجتماع المجلس قانونياً ما لم تحضره الأكثرية من الأعضاء الذين يؤلفونه وتُتّخذ القرارات بغالبية الأصوات وإذا تعادلت الأصوات سقط المشروع المطروح للمناقشة.”
القسم الأول من نص المادة أعلاه هي ترجمة غير دقيقة من النص الفرنسي الأصلي. أما الترجمة الأدق فيجب أن تكون كالتالي: “لا يتكوّن المجلس فعليّاً ما لم تحضره…”
إضافةً إلى ذلك، هاتين الجملتين الأساسيّتين من المادّة 49 كما وردت في النص العربي لعام 1927: “ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجموع أصوات مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي”.
ملاحظة: بعد العام 1929، حين تم تعديل المادة 49 لزيادة ولاية رئيس الجمهورية من 3 الى 6 سنوات، حذفت الكلمتان “مجموع الأصوات” ليصبح النص “بغالبية الثلثين من مجلس النواب”. وقد تم ذلك دون نقاش أو موافقة من جانب مجلس النواب، علما أن هذه الجملة لم تتغيّر في النص الفرنسي.
تحليل النصوص ضمن سياقها التاريخيّ والسياسيّ والاجتماعيّ
التفسير الحرفيّ
بالنسبة إلى الأستاذ جيكيل، لا يحيط أيّ غموض بنصّ الدستور. فنصاب الغالبيّة المطلقة المذكور في المادّة 34 يطبَّق بشكل عامّ. وفي الحالات التي تستلزم نصابا أكبر أو غالبية مشروطة للإقتراع تفترض تواجد عدد نواب يفوق الغالبية المطلقة، يجب ذكر ذلك بشكل واضح وصريح في المواد المعنية بذلك. وهذه هي حال الموادّ 30 و44 و60 و70 و77 و79.
إلاّ أنّ النصاب غير مذكور في المادّة 49، ويتمّ تعداد التصويت بالنسبة إلى الأصوات المحتسبة (suffrages exprimés)، وبالتالي، لا يمكن الإستنتاج منها أي تحديد للنصاب. وبالتالي، يُطّبَّق هنا نصاب يساوي الغالبيّة المطلقة من الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب بموجب القاعدة العامّة المثبتة في المادّة 34.
ولا غموض أيضًا بالنسبة إلى التصويت. فقد تمّ تحديد عبارة “الأصوات المحتسبة” حسابيًّا بشكل عالي الوضوح والدقة. فهي تساوي عدد الناخبين (عدد المغلّفات في صناديق الاقتراع) مطروح منه الأوراق البيضاء والأوراق الملغاة..
وقد ختم الأستاذ جيكيل مستنتجا: “لترسيخ هذا البرهان، لا بدّ من التذكير بأنّه، وفقًا لنظريّة النص القانوني الواضح، لا تقبل القواعد الدستوريّة الواضحة والدقيقة أيّ تفسير”.
وباختصار، يؤكّد التفسير الحرفيّ للنصوص أنّ النصاب المطلوب في الدورة الأولى يساوي الغالبيّة المطلقة من الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب، في حين أنّ الغالبيّة المطلوبة لانتخاب رئيس الجمهوريّة هي ثلثي الأصوات المحتسبة.
نزعة “نصاب الثلثين”
على الأستاذين أفريل وكوليار، اللذين يستوحيان من الأستاذ ربّاط، أن يفسّرا بحرّيّة كبيرة المادّتين 49 و34 ليثبتا أنّه في الدورة الأولى، تساوي الغالبيّة المطلوبة لتأمين النصاب والتصويت ثلثي الأعضاء الذين يؤلّفون المجلس قانونًا. وتندرج حججهما ضمن فئتين:
تحليل النصوص في سياقها التاريخيّ والسياسيّ والاجتماعيّ ووجود “عرف دستوريّ” بدأ يظهر في العام 1976.
السياق التاريخيّ والسياسيّ والاجتماعيّ
يمكن اختصار الحجّة الأساسيّة للأستاذين أفريل وكوليار بالكلمات التالية العائدة للأوّل: “.. إنّ الواقع التاريخيّ والاجتماعيّ في لبنان يتطلّب ألاّ تتمكّن أيّ من الطوائف اللبنانيّة من فرض إرادتها على الطوائف الأخرى. وبشكل أكثر تحديدًا، لا يمكن أن يتمّ انتخاب رئيس الجمهوريّة من قبل إحدى الطائفتين فحسب… ما يستبعد الغالبيّة المطلقة… ويستلزم غالبيّةً مشروطةً تفرض بالضرورة اتّفاقًا واسع النطاق بما فيه الكفاية للتوصّل إلى اختيار توافقيّ”.
لقد عرض الأستاذ أفريل أعلاه الضرورة السياسيّة التي من شأنها أن تسمح له بالابتعاد عن المعنى الحرفيّ لكلمة “الأصوات”. لكنّ هذا الرأي يُجابه باعتراضين.
1) التوافق
يخلط أفريل هنا بين واقع فترتين مختلفتين: فترة ما قبل الطائف وفترة ما بعده، حيث بدأ يتمّ تسليط الضوء على مفهوم التوافق. فما من وجود لأيّ توافق في طرق اعتماد القرارات في دستور العام 1926. بل هناك مشاركة في السلطة (power sharing) على أساس طائفيّ في مجلس النوّاب والحكومة ومجلس الشيوخ والوظائف الإداريّة العليا. إلاّ أنّ ذلك يبقى نظامًا غالبيًّا صرفًا على صعيد اتّخاذ القرارات.
حتّى بعد الطائف، بقي الجانب التوافقيّ على صعيد آليّات اتّخاذ القرار غائبًا كلّيًّا في مجلس النوّاب الذي يمثّل السلطة المخوّلة انتخاب رئيس الجمهورية. قد كان يمكن إيجاد التوافق الحقيقي في مشروع مجلس الشيوخ الذي لم يبصر النور، ومردّ ذلك، على أغلب الظن، إلى أنّه كان من الصعب تخيّل طريقة عمله.
2) إهتمامات واضعي الدستور
يولي الأستاذان أفريل وكوليار أهمّيّةً كبيرةً للتعديل الذي أدخِل في العام 1926 على مشروع الثامن عشر من نيسان 1926؛ وكان هذا الأخير قد رفع الغالبيّة المطلوبة لانتخاب رئيس الجمهورية، من غالبيّة مطلقة للأصوات إلى غالبيّة ثلثي الأصوات. فإنّ كوليار يريد أن يترك انطباعًا بأنّ مشروعًا فرنسيًّا قد أُنزِل في لبنان في نيسان 1926 وبأنّ اللبنانيّين انشغلوا على الفور بتعديله كي يتناسب مع الوضع اللبنانيّ الخاصّ.
أوّلاً، لم يكن مشروع الثامن عشر من نيسان 1926 فرنسيًّا وفقًا لما أكّده كوليار، بل كانت قد وضعته اللجنة اللبنانيّة (Commission Libanaise du Statut) التي كانت تعمل عليه منذ شهر كانون الأوّل 1925 بمساعدة الخبير الفرنسيّ سوشيي (Souchier). وبالتالي، كانت قد أتيحت للبنانيّين فرصة كبيرة لتعديل الغالبيّة المطلوبة ولكنّهم لم يكونوا قد قاموا بذلك بعد في 18 نيسان، ما يظهر أنّه لم يشكّل محور اهتماماتهم.
لقد أساء كوليار قراءة نصّ مشروع الثامن عشر من نيسان، ما يشوّه ما تبقّى من حجّته. فهو قرأ “الغالبيّة المطلقة” حيث تمّ تحديد “الغالبيّة المطلقة للأصوات” (الرجوع الى حكيّم، الملحق رقم 9، ص 363). وقد أكّد: “في المصطلحات الدستوريّة الفرنسيّة، إنّ عبارة الغالبيّة المطلقة بدون أيّ توضيح آخر تشير بشكل عامّ إلى غالبيّة الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب”. إلاّ أنّه، بوجود غالبيّة ثلثي الأصوات، من الممكن انتخاب الرئيس بعدد من الأصوات يقلّ عن الغالبيّة المطلقة من أعضاء المجلس. ويضيف كوليار أنّه من الصعب تصوّر “أنّ هدف صياغتهم [أي صياغة أعضاء اللجنة التابعة للهيئة] كان، على العكس، إضعاف شروط الانتخاب”. ويستنتج من ذلك أنّه لا يمكن أن تكون اللجنة اللبنانيّة قد عنت “غالبيّة ثلثي الأصوات” في حين أنّها عنت ذلك؛ وبالتالي، أنّ المعنى الحقيقيّ الذي يجب إعطاؤه لهذه العبارة هو “غالبيّة ثلثي الأعضاء الذين يؤلّفون المجلس”. إذًا، لا يمكن الأخذ بهذه الحجّة المستندة إلى إقتباس مغلوط. ولنكن صادقين، سنشير إلى أنّ القانونيّين الآخرين لا يشاطرونه هذا الخطأ، ومنهم أفريل الذي يذكر في مقالته نصّ المشروع بشكل صحيح.
لكن ماذا كانت نوايا واضعي الدستور الحقيقيّة؟ هل كانوا منشغلين إلى هذا الحدّ بهمّ جعل شروط انتخاب الرئيس أكثر صرامةً بكثير حتّى يتوجّبَ الابتعاد كلّيًّا عن النص الأصلي الواضح؟ وماذا كان الواقع السائد في تلك الفترة؟
1) حكيّم حول إدخال عبارة غالبيّة الثلثين
فلنبدأ بالاستماع إلى أنطوان حكيّم في ما يتعلّق بالفترة الممتدّة من 18 نيسان إلى 5 أيّار 1926، حيث تمّ إدخال عبارة “غالبيّة ثلثي الأصوات” على المادّة 49: “إنّ مشروع الدستور [أي مشروع 18 نيسان] الذي أُرسِل إلى الوزارة هو نفسه الذي وضعته اللجنة اللبنانيّة والخبير الفرنسيّ سوشيي والذي كانت ناقشته لجنة الثلاثة عشر [اللبنانيّة]. لكن بين 18 نيسان و5 أيّار، تناولته هذه اللجنة من جديد وأدخلت عليه تعديلات، لكن بدون المسّ بهيكليته العامّة أو التأثير بشكل عميق على محتواه.” لقد اعتبر حكيّم، وهو من أكبر اختصاصيّي تلك الفترة، أن تغيير المادّة 49 من المشروع الأولي كان طفيفًا جداً؛ وبالتالي، هو لم ينطوِ بالنسبة إلى واضعيه على الأهمّيّة التي يريد رجال القانون الفرنسيّون أن يوهمونا بها.
2) محاضر تلك الفترة
إطّلع إدمون ربّاط، وهو أحد المدافعين عن “نصاب الثلثين”، على محاضر تلك الفترة المتعلّقة بالمادّة 49، وأقرّ أنّه لم يجد “أيّ دليل من أي نوع كان يظهر المعنى الذي أراد مجلس النوّاب إعطاؤه له”. إلاّ أنّ عدم وجود إشارات إلى المادّة 49 يظهر بحدّ ذاته الأهمّيّة المتدنية التي أولاها عليه واضعوه والجهات السياسيّة والإقتصادية الفاعلة خلال فترة نشأة الدستور.
3) تقرير دموس
إنّ أفضل ما يشير إلى اهتمامات تلك الفترة هو المشاورات التي أجرتها لجنة الدستور، بدءًا من شهر كانون الأوّل 1925، لدى أكثر من 180 شخصيّةً لبنانيّةً. وكانت الأسئلة تتناول المبادئ الأساسيّة الواجب أخذها بعين الاعتبار في صياغة الدستور. وقد تمّ تلخيص استمارة الأسئلة والتعليقات الصادرة عن أكثر من 132 مجيبًا في تقرير شبل دموس الذي أعيد نشره في الملحق رقم 7 من كتاب حكيّم. إلاّ أنّه لم تتمّ الإشارة أبدًا، لا في استمارة الأسئلة ولا في ملاحظات المجيبين، إلى الغالبيّة المطلوبة لانتخاب الرئيس. وكان يجب الانتظار خمسين عامًا وبدء الحرب الأهليّة لتظهر هذه المسألة.
وبالتالي، لا شيء في شهادات تلك الفترة يحثّنا على الاعتقاد بأنّ واضعي الدستور كانوا منشغلين بهذه المسألة أو أرادوا الذهاب إلى أبعد من المعنى الحرفيّ لما كتبوه.
أهمّيّة رئيس الجمهوريّة
يقدّم ربّاط وسكينه نوع الحجج عينه ولكنّ عبر الإستناد إلى التقدير الخاص لكل منهما للضرورات التي يفرضها الوضع اللبنانيّ. وهما يعتبران أنّ لرئيس الجمهوريّة أهمّيّةً قصوى في النظام اللبنانيّ، ونقلاً عن ربّاط: “ما يجب أن يؤدّي إلى استنتاج أنّ نصاب المادّة 49 لا يمكن أن يختلف، بطبيعته القانونيّة، عن النصاب المنصوص عنه في الموادّ 60 و69 و70 و77 و79 بالنسبة إلى إجراءاتٍ تبعاتُها أقلّ أهمّيّةً بكثير من تعيين رئيس البلاد”.
هل أراد واضعو الدستور الوصول إلى حيث وصل ربّاط وسكينه؟ وهل من المستحسن الوصول إلى ذلك؟ في التفسير الحرفيّ للدستور، إنّ الغالبيّة المطلوبة لانتخاب رئيس الجمهوريّة أعلى بكثير من تلك المطلوبة لانتخاب رئيس مجلس النوّاب أو للتصويت على الثقة لمجلس الوزراء. ففي الدورة الأولى للاقتراع مثلاً، تتكوّن من ثلثي الأصوات لانتخاب رئيس الجمهوريّة، في حين أنّها تقتصر على الغالبيّة المطلقة للأصوات بالنسبة إلى رئيس مجلس النوّاب في الدورتين الأولى والثانية. وفي دورات الاقتراع التي تلي، يمكن انتخاب رئيس مجلس النوّاب بغالبيّة نسبيّة للأصوات، في حين أنّ رئيس الجمهوريّة يحتاج إلى غالبيّة مطلقة.
لكنّ هذا لا يرضي المدافعين عن “نصاب الثلثين”. فبحسب كوليار، القبول بالتفسير الحرفيّ يعني القبول بإمكانيّة انتخاب رئيس بـ43 صوتًا في الدورة الأولى (أي ثلثي الـ64 صوتًا الواجب حضورهم لتأمين النصاب)، و33 صوتًا في الدورات التي تلي. وهذا العدد قليل جدًّا، على حدّ قوله.
لكنّ كوليار يمضي في التساؤل لمَ يمكن أن يكون الحضور قليلاً إلى هذا الحدّ. لماذا لا يصوّت الـ 63 نائبا المتبقين (127 ناقص 33، ناقض 31) لصالح مرشّح من اختيارهم؟ من الصعب أن نتصوّر، عمليًّا، كيف يمكن انتخاب الرئيس بهذا العدد القليل من الأصوات، في الحالات التي تخلو من الثلث المعطّل أو من أيّ منفعة لمقاطعة الانتخابات والتي تشهد بالتالي مشاركةً كبيرةً في التصويت.
يمكن بسهولة استخدام التمارين النظريّة حول إمكانيّات الانتخابات الفائزة بنسبة مئويّة ضئيلة من الأصوات ضدّ المدافعين عن “نصاب الثلثين”. ففي تفسيرهم، من الضروريّ وجود 85 صوتًا على الأقلّ مؤيّدًا لمرشّح إلى انتخابات رئاسة الجمهوريّة لكي يتمّ انتخابه في الدورة الأولى، و64 صوتا في الدورات التالية. ولكن نظريًّا، من الممكن انتخاب رئيس مجلس النوّاب بعدد هزيل من الأصوات (إذا كان عدد الأوراق البيضاء وعدد الأوراق الملغاة مرتفعا)، بما أنّ غالبيّةً مطلقة من الأصوات المحتسبة كافية لإنتخابه في الدورة الأولى وغالبية نسبيّةً من الأصوات المحتسبة كافية لانتخابه في الدورة الثالثة. فهل هذا يعني أنّ رئيس الجمهوريّة أهمّ من رئيس مجلس النوّاب إلى هذا الحدّ؟ في الواقع، لا يبدو الأمر كذلك، نظرًا إلى الدور المركزيّ الذي يلعبه هذا الأخير في الأزمة الحاليّة. من غير المبرّر إعتماد المعنى الحرفيّ لكلمة “أصوات” لانتخاب رئيس مجلس النوّاب، في حين يتمّ تغيير هذه الكلمة عينها لتصبح “الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب” لانتخاب رئيس الجمهوريّة.
الثلث المعطّل
لا يريد أنصار “نصاب الثلثين” أن يروا إلاّ الجزء المملوء من الكوب وهو التوافق، في حين لا يريدون إيلاء أي أهمّيّة للجزء الفارغ من الكوب وهو الثلث المعطّل.
يعالج ربّاط هذه المشكلة باستخفاف كبير؛ فهو لا يخصّص لها سوى حاشية في أسفل الصفحتين 305 و306 نذكر هنا جزءًا منها: “أمّا بالنسبة إلى الاعتراض الذي غالبًا ما يتمّ التقدّم به ومفاده أنّ النصاب المطلوب يمكن ألاّ يتحقّق أبدًا بسبب سوء النيّة ولدوافع سياسيّة لدى النوّاب، فهو لا يمكن أن يسود مقابل التهديد بحل المجلس الذي قد يلجأ إليه الرئيس الذي ما زال في منصبه..”.
من خلال هذه الملاحظة، جعل ربّاط موقفه أكثر صعوبةً: لا يسمح الثلث المعطّل لثلث عدد النواب زائد واحد بمنع انتخاب الرئيس فحسب، بل أيضًا بحلّ مجلس النوّاب. فيا لها من قوة كبيرة تتمتع بها أقلّيّة صغيرة!
سكينه، هو أيضًا، يحطّ من شأن الخطر الذي يشكّله الثلث المعطّل؛ فهو يجد من الكافي أن تحول المادّة 62 دون الانقطاع في ممارسة السلطة، حيث أنّها تنصّ على أنّه، في حال خلوّ سدّة الرئاسة، تناط صلاحيّات رئيس الجمهوريّة وكالةً بمجلس الوزراء. غير ان هذه الحجة تنطوي على تناقض: لا يمكننا، من جهة، إعتبار دور رئيس الجمهورية اساسيا، ثم القبول بإمكانية سير الأمور بدونه دون أي مشكلة.
إضافة الى ذلك، يهمل سكينه كلّيًّا خطورة الجوانب الأخرى للأزمة. تظهر هذه الخطورة بشكل واضح في الأزمة الحاليّة. ويكفي، لإدراك ذلك، ملاحظة الشلل الناجم عنها والمسيطر على بعض قطاعات الإدارة؛ ويكفي النظر إلى الجهود الدوليّة الكبيرة المبذولة لإزالة التوتّر والتي تذهب إلى حدّ اقتراح تعديل الدستور الذي أقسمنا على احترامه منذ بعض الأسابيع فقط، وذلك بغية التوصل الى مرشح تسوية؛ وليس علينا، لتحسّس هذه الخطورة، سوى سماع صرخات الاحتجاج والإحباط الصادرة عن بعض المسيحيّين، والموارنة منهم بشكل خاصّ، الذين يرون أعلى منصب مخصّص لهم في الجمهوريّة شاغرًا فيما تُنقَل معظم صلاحيّاته إلى حكومة يرأسها شخص ينتمي الى طائفة أخرى. فمن الواضح إذًا أنّ المادّة 62 ليست كافيةً لحلّ مشكلة الفراغ الرئاسيّ.
لا يجب الاستخفاف بالجوانب الإداريّة والطائفيّة للأزمة والناتجة من تطبيق المادّة 62. فمن المستغرب ألآّ يكون الأستاذ سكينه وأنصار “نصاب الثلثين” الآخرين، الذين يصرّون على زيادة الغالبيّة المطلوبة لانتخاب الرئيس، بغية تجنّب تهميش طائفة من الطوائف، أكثر إدراكاً للأزمات الذي قد يولّدها استخدام الثلث المعطّل بين الطوائف.
تحليل النصوص
حتّى الآن، كان الأمر يتعلّق بالتبريرات التاريخيّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي يعطيها المدافعون عن “نصاب الثلثين” للابتعاد عن المعنى الحرفي ّوالواضح لنصّ الدستور. لكن حان الوقت لتحليل النصوص بحدّ ذاتها وتحليل تطوّرها بمزيد من التفاصيل.
عبر المبالغة بأهمّيّة رئيس الجمهوريّة، أراد أنصار “نصاب الثلثين” التوصّل إلى استنتاج أنّ الغالبيّة المطلوبة لانتخابه يجب أن توازي بارتفاعها، مثلاً، تلك المطلوبة لتعديل في الدستور. فلنرَ ما إذا كانت العبارات المستخدمة في الدستور لتحديد مختلف الغالبيّات المطلوبة تسمح بهذا الاستنتاج.
يطرح الأستاذ أفريل السؤال التالي: “يمكننا في الواقع أن نتساءل لمَ الموادّ 60 و77 و79 تحدّد أنّ الغالبيّة
المطلوبة هي غالبيّة الأعضاء، فيما المادّة 49 تذكر غالبيّة الأصوات، وما هي أسباب هذا الاختلاف في الصياغة: فهل من سبب يفسّره بشكل منطقي أم أنّه ناتج عن أسلوب متسرّع وتلميحيّ إلى حدّ بعيد؟”.
لا يمكننا إلا أن نلمس نبرة متعالية في الجملة المستخدمة من قبل افريل. وكأنه يتساءل إذا كان هؤلاء “اللبنانيين” الذين صاغوا هذا النص قادرين على إدراك الفرق بين عبارة وأخرى، في لغة ليست لغتهم الأم. في أي حال، فلنهمل المواقف الاستكبارية ولنتناول المسائل المطروحة.
يمكن الإجابة عن السؤال الأوّل بالمنطق السليم الأكثر بساطةً. فقد حدّد واضعو الدستور غالبيّة ثلثي الأصوات في المادّة 49 لأنّ هذا ما أرادوه بالضبط. وقد حدّدوا غالبيّة ثلثي أعضاء مجلس النوّاب في الموادّ 60 و77 و79، وفي المواد 30، 44، و70 كذلك، لأنّ ذلك كان قصدهم. فقد كتبوا ما أرادوا قوله بالضبط، واختاروا لذلك عبارات دقيقة جدا وصياغات معتمدة في القانون الدستوري الفرنسي. في أي حال، كانت صياغة نص الدستور من تأليف بول سوشيي، من أكبر أخصائيي القانون العام، وقد قام بمراجعة وتنقيح عمله الإستاذ ليون دوغي (Léon Duguit)، المرجع في القانون الدستوريّ الفرنسيّ في تلك الحقبة.
لكن لماذا أرادوا ذلك، يسأل الأستاذ أفريل؟ قبل صياغة الجواب عن السؤال الثاني، فلنرَ ما الذي تتناوله موادّ الدستور الستّ حيث الغالبيّة المطلوبة للتصويت ثلثي الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب قانونًا:
• تتناول المادّة 30 مسألة إبطال نيابة أحد النوّاب.
• تتطرّق المادّة 44، من بين أمور أخرى، إلى التصويت لنزع الثقة عن رئيس ونائب رئيس مجلس النوّاب.
• تتناول المادّ 60 اتّهام رئيس الجمهوريّة.
• تتناول المادّ 70 اتّهام رئيس مجلس الوزراء والوزراء.
• تتطرّق المادّة 77 إلى تعديل الدستور.
• تتطرّق المادّة 79 أيضًا إلى تعديل الدستور.
إنّ العنصر المشترك بين هذه الموادّ هو أنّها تتطرّق إلى حالات يمكن أن تؤدّي فيها عمليّات التصويت إلى انقطاع في ممارسة السلطة: إقالة أحد كبار ممثّلي طائفة ما من منصبه أو تغيير القواعد الأساسيّة للّعبة السياسيّة (تعديل الدستور). لقد فرض واضعو الدستور غالبيّاتٍ مرتفعةً جدًّا لعمليّات التصويت هذه بغية تجنّب الأزمات السياسيّة التي قد تنجم عنها. وفي المقابل، لم يضعوا شروطًا تعجيزية لنقل السلطة، كما في انتخابات رئيسي الجمهوريّة ومجلس النوّاب والتصويت على منح الثقة لمجلس الوزراء.
في أي حال، تلك هي الممارسة المعتمدة في الدستور الفرنسي. على سبيل المثال، في المادة 7 من هذا الدستور، الغالبية المطلوبة لإنتخاب رئيس الجمهورية هي الغالبية المطلقة للـ”الأصوات المحتسبة”، في حين أن لعزله من منصبه، تفرض المادة 68 غالبية ثلثي “الأعضاء الذين يؤلفون المجلس أو المحكمة العليا”. إذاً، يستخدم الدستور اللبناني العبارات نفسها بالضبط المستخدمة في الدستور الفرنسي الذي إستوحي منه.
كان يجب أن تُظهر مجرّد قراءة للمادّة 44 السبب الذي يفسّر أن يكون لبعض فئات التصويت متطلّبات على صعيد الغالبيّة أعلى من متطلّبات الفئات الأخرى. في الواقع، في هذه المادّة، يكفي تحقيق غالبيّة نسبيّة من الأصوات المحتسبة في الدورة الثالثة لانتخاب رئيس ونائب رئيس مجلس النوّاب، مما يمثل غاية في التساهل؛ فيما المطلوب غالبيّة ثلثي الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب لإقالتهما من منصبهما.
لاحظ عدد من الباحثين أنّ الدستور اللبنانيّ، من الناحية القانونية، دستور جامد بالمعنى التقنيّ للكلمة. ويعود السبب إلى أنّ النظام السياسيّ يعتمد على توازن طائفيّ دقيق. فقد حاول واضعو الدستور والمشرّعون بالتالي حماية هذا التوازن عبر جعل الغالبيّات المطلوبة للتصويت أكثر تطلباً بغية تجنب الوقوع في حالات من الفراغ في السلطة تزعزع الاستقرار. أخطأ أنصار “نصاب الثلثين” في إدراك أهمّيّة هذا المبدأ، بل ذهبوا إلى حدّ المناداة بعكسه تماماً، عندما أرادوا أن يعطوا للثلث زائد واحد من عدد النوّاب ثلثًا معطّلاً لا يمكن لاستخدامه سوى أن يؤدّي إلى أزمات سياسيّة حادّة.
لقد وجد واضعو الدستور التوازن الصحيح بين توسيع صفة الرئيس التمثيليّة وتجنيب البلاد تعطيلات تزعزع الاستقرار. أمّا أنصار “نصاب الثلثين”، فقد قضوا على هذا التوازن الحكيم عبر الإصرار على تغيير معنى المادّة 49 بغية زيادة الأكثرية المطلوبة الى حد الوصول الى طريق مسدود يمنع إنتقال السلطة بشكل طبيعي. ويمكن أن نلاحظ اليوم الآثار الضارّة على وضع البلد والتي نتجت عن هذا الانحراف عن المعنى الحرفيّ لنصّ الدستور .
النصّ بأدقّ تفاصيله
يجب التحليل بصورة أدق للعلاقة بين عبارة “الأصوات” و”الأعضاء الذي يؤلفون المجلس قانوناً”. المادة 24 توضح هذا المفهوم الأخير: “يتألف مجلس النواب قانوناً من الأعضاء المنتخبين، وتحدد عددهم وطريقة إنتخابهم القوانين الإنتخابية المرعية الإجراء.”
الممارسة الدستورية الفرنسية بأكملها قد كرّست إستخدام هذه العبارات بمعناها المميّز والدقيق.
من الناحية النظريّة، تعبر كلمة “أصوات” عن خيار. العدد الإجمالي للأصوات المحتسبة متغيّر ويتوقف على عدد المتغيبين، على عدد الأوراق البيضاء، الأوراق الملغاة، وعلى عدد الممتنعين عن التصويت. أما الأعضاء الذين يؤلفون مجلس النواب قانوناً، فهم الأشخاص الذين يحدد عددهم القانون الإنتخابي، ناقص المقاعد التي أصبحت شاغرة (أحيانا بسبب الوفاة). إن الفصل بين هذين المفهومين لا يمكن دحضه.
إنّ العلاقة الحسابيّة بين عدد الأصوات وعدد الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب محدَّدة بدقّة في المعادلة التالية، التي أهديها الى الإستاذ أفريل بغية تجنيبه أي التباس:
مجموع الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب = الأصوات المحتسبة + الأعضاء الغائبون + حالات الامتناع عن التصويت+ الأوراق البيضاء + الأوراق الملغاة.
فلا يمكن إذًا المزج بين العبارتين لا من الناحية النظريّة ولا من الناحية الحسابيّة. وبالتالي، لا يوجد أيّ غموض في النصّ الفرنسيّ. فماذا عن النصّ العربيّ؟
النص العربي: في العامين 1926 و1927، تمّت ترجمة العبارة المعنيّة بكلّ أمانة إلى اللغة العربيّة. في العام 1926، كان هناك نظام المجلسين: مجلس شيوخ مؤلّف من 16 عضوًا ومجلس نوّاب يضمّ 30 نائبًا. وبحسب النصّ المعتمد في العام 1926، كان يجب انتخاب الرئيس “بغالبيّة ثلثي الأصوات، من قبل مجلس الشيوخ ومجلس النوّاب الملتئمين في مجمع نيابيّ”.
في العام 1927، أزال القانون الدستوريّ تاريخ 17/10/1927 نظام المجلسين ودمج المجلسين بمجلس نوّاب وحيد. تمّ تعديل المادّة 49 وأصبح النصّ الفرنسيّ كما يلي: “بغالبيّة ثلثي الأصوات، من قبل مجلس النوّاب”. فيصبح نصّ العام 1927 العربيّ، الذي تمّت ترجمته حرفيًّا، كما يلي: “بغالبيّة ثلثي مجموع أصوات مجلس النوّاب”.
ولكن، هل تفترض العبارتان “مجموع الأصوات” و”أصوات” بالضرورة “الأصوات المحتسبة” (أي الأوراق في صناديق الإقتراع ناقص الأوراق البيضاء والأوراق الملغاة).
يجري احتساب عدد الأصوات في لبنان كما في فرنسا، أي لا تحتَسَب إلاّ الأصوات المحتسبة. وقد دُوِّن هذا الاستخدام، الذي لم يتم دحضه قطّ، في المادة 12 من النظام الداخليّ لمجلس النوّاب.
المادّة 12: “لا تدخل في حساب الأغلبية في أي انتخاب يجريه المجلس الأوراق البيضاء أو الملغاة. تعتبر ملغاةً كل ورقة تتضمن: – أسماء يفوق عددها المراكز المحددة في النظام، – أو تحتوي على علامة تعريف أو تمييز من أي نوع كانت، – أو تتضمن غير الاسم والشهرة مجردين، – تتلف أوراق الإنتخاب فور إعلان النتائج.”
لا يأخذ النظام الداخليّ لمجلس النوّاب في الإعتبار إلاّ الأصوات المحتسبة في العمليّات الانتخابيّة، تمامًا كالممارسة الدستورية الفرنسيّة. فمن الواضح إذًا أنّه، في العامين 1926 و1927، كانت العبارات التي تتعلق بالغالبيّات المطلوبة لانتخاب الرئيس لا يمكن تفسيرها بصورة مختلفة في نصّي الدستور العربيّ والفرنسيّ.
نصّ العام 1929 العربيّ
لم تنشأ المشكلة على مستوى النص العربي سوى عند نشر نصوص الدستور العربية بعد التعديل الذي أجري عليها عام 1929. فقد نص القانون الدستوريّ تاريخ 8/5/1929 على تعديل المادّة 49 بغية تمديد فترة الرئاسة من 3 إلى 6 سنوات. بقي المقطع المتعلّق بالغالبيّة المطلوبة لانتخاب الرئيس بدون أيّ تغيير في النصّ الفرنسيّ للمادّة 49 المذكورة، فيما تمّت إزالة كلمتين في النصّ العربيّ. حُذِفَت كلمتا “مجموع الأصوات”، وأصبح النصّ الذي كان “بغالبيّة ثلثي مجموع أصوات مجلس النوّاب” كالتالي: “بغالبيّة ثلثي مجلس النوّاب”. يجب أن نذكر هنا بأن المقطع نفسه من المادة 49 يحتوي على الغالبيات المطلوبة لإنتخاب الرئيس كما على فترة حكمه. يمكن أن يفسّر ذلك كيف يكون تعديل للجزء الأخير من المقطع قد تسبب بخطأ في النسخ في الجزء الأول من المقطع والذي يتناول موضوعا آخر.
الى أي من النصين يجب أن نركن؟ الفرنسي أم العربي؟
إن تعديل المادة 11 من دستور العام 1943 قد إستشهد به بعض الباحثين بغية تبرير الموقف الذي يقول بأن النص العربي هو النص الرسمي الوحيد الذي يجب أن يؤخذ كمرجع في شتى المداولات الدستورية.
يؤكد الإستاذ أدمون ربّاط أنه يجب إعطاء الأولوية للنص الفرنسي، خاصة وان ترجمته العربية غالبا ما تشوبها الأخطاء. نورد هنا ما كتبه كاملا:
“ومع ذلك، لا يمكننا التنصّل الآن، بحجة أن المادة 11 المستحدثة قد جعلت من اللغة العربية اللغة الرسمية الوحيدة، من الصفة الرسمية، وبالتالي ذات الأولوية، التي ما زالت ترتديها احكام الدستور بمفعول رجعي، نظرا الى أنها كتبت في العام 1926، وأدخلت عليها بعض التعديلات عامي 1927 و 1929، وحيث أنها وضعت أصلا باللغة الفرنسية في تلك الفترة، صدرت باللغة الفرنسية من قبل المندوب السامي، أحيلت باللغة الفرنسية الى اللجنة الدائمة للإنتداب، وأخيرا، دوّنت في اللغة الفرنسية لدى الأمم المتحدة. وما يدعم هذا التفسير ويبرره أن المادة 16 من ميثاق الإنتداب نصت على أن اللغتين الفرنسية والعربية هما اللغتان الرسميتان في سوريا ولبنان. يستنتج من ذلك أنه في حال التعارض بين النص العربي والنص الفرنسي الأصلي في تفسير هذه الأحكام، فإن الأخير هو الذي يعتبر المرجعية الاساس.”
(رباط، الدستور اللبناني، ص 118، منشورات الجامعة اللبنانية، 1982)
إضافة الى ذلك، يوضح الإستاذ ربّاط ان التعديلات التي أجريت عامي 1927 و 1929 لا يمكن إلا أن تعود للمفوض السامي هنري بونسو (Henri Ponsot). من الواضح إذاً أن التعديل الذي أجري سنة 1929 هو فرنسي المنشأ وكتب باللغة الفرنسية. إن نية واضعي التعديل أقتصرت على تمديد فترة الحكم الرئاسي من ثلاث الى ست سنين، دون التعرض الى أي موضوع آخر، حيث أن المادة 78 من الدستور لن تسمح لذلك:
“لا يمكن للمجلس اللمتئم للتداول في مشروع قانون دستوري أن يتطرق سوى لهذا التعديل الى حين الإقتراع النهائي.
لا يمكن للمجلس أن يتداول ويقترع سوى على المواد والمسائل المحددة حصريا في المشروع الذي أحيل اليه.”
مشروعية الخطأ في النسخ
من غير المرجح قطعيا أن تكون الترجمة العربية للقانون الدستوري بتاريخ 8/5/1929 قد احتوت على خطأ في النسخ عند الإقتراع. أي من النواب الحاضرين كان قد تنبّه للخطأ على التأكيد. كافة المحاضر التي دوّنت لتلك الفترة لا تذكر بتاتاً أي تغيير مقصود على النص العربي وكافة التفسيرات التي أعطيت ضمن تفسيرات الدستور الدستور، اقتصرت على تمديد ولاية الرئيس، دون أي ذكر للغالبية المطلوبة لإنتخاب الرئيس.
من غير الواضح متى تم حذف عبارة “مجموع الأصوات” من المادة 49. غير أنه يبدو من الواضح أن ذلك تم بعد الإقتراع الذي حصل عام 1929. وفي الواقع، في المحضر باللغة العربية للجلسة البرلمانية التي عقدت بتاريخ 20 كانون الثاني 1936، لإنتخاب رئيس للمجهورية، كانت المادة 49، التي قرأت في بداية الجلسة، تحتوي على العبارة العربية الصحيحة “غالبية ثلثي مجموع اصوات مجلس النواب”……
من غير المرجح بتاتاً إذاً أن يكون هناك أي تصويت قد أعطى أي مشروعية للعبارة التي وردت في النص العربي للدستور: “غالبية ثلثي مجلس النواب”. إن نصوص الدستور، باللغتين العربية والفرنسية، التي تم التداول بشأنها، ثم صدقت من قبل مجلس النواب في الأعوام 1926، 1927، و 1929، قد أحتوت إذاً على العبارة الصحيحة ذات الصلة بالغالبية المطلوبة لإنتخاب الرئيس في الدورة الأولى، أي “ثلثي الأصوات”، والتي لا شأن لها بالنصاب. غير إن هذا الإستنتاج، المبرّر بصورة كاملة، يكون أكثر قوة فيما لو تم التوصل اليه عبر الإستناد المباشر والأوحد على النص العربي الحالي للدستور مع كل ثغراته وعدم دقة ترجمته من اللغة الفرنسية. ماذا يمكن ان تعني العبارة ” ثلثي مجلس النواب”؟
التفسير الصحيح للنص العربي المجتزأ للمادة 49
يؤكّد سكينه، الذي لا يأخذ إلاّ بالنصّ العربي الحالي، متكتما على مسألة مصدره المشكوك بأمره، أنّ الغالبيّة المطلوبة في المادّة 49 مصاغة بالضبط كما في الستّ موادّ حيث تطلَب غالبيّة ثلثي الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب قانونًا”. إلاّ أنّ هذا التأكيد خاطئ تمامًا. فهناك ثابتة في مختلف العبارات المستخدمة في هذه الموادّ الستّ، في اللغة العربية كما في اللغة الفرنسية، وهي وجود عبارة “الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانونا”، وغيابها في كافّة النصوص الحاضرة او القديمة العربية والفرنسية للمادّة 49.
إن الدستور الفرنسي والدستور اللبناني في نصه الصحيح لا يحتويان، ولا يمكن أن يحتويا عبارة خرقاء وغير محدّدة كعبارة “غالبية ثلثي المجلس”. عندما يتعلق الأمر بتحديد المقاعد المملوءة، العبارة “الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانونا”، التي هي أكثر تعقيدا، ولكن أكثر دقة، هي المستخدمة دائما.
فلنحاول رغم ذلك توضيح ما المقصود من هذه العبارة الملتبسة التي وجدت طريقها بالخطأ الى قاموس المصطلحات القانونية اللبنانية.
تعطينا المادة 34 في ترجمتها الدقيقة توضيحا أوليا: “لا يمكن أن يتكون المجلس فعليا إلى بوجود غالبية الأعضاء الذين يؤلفونه قانونا”.
يوجد انقطاعات في ممارسة مجلس النواب صلاحيّاته التشريعيّة أو الانتخابيّة أو الدستوريّة. لا يتكوّن مجلس النوّاب، ولا يكون له وجود، إلاّ بحضور النوّاب المجتمعين بعدد كافٍ ضمن الجلسات العادية او الاستثنائية. فكلمتا “assemblée” باللغة الفرنسيّة و”مجلس” باللغة العربيّة تعبّران جيّدًا عن هذه الحقيقة. فالنوّاب الغائبون ليسوا جزءًا من مجلس النوّاب الملتئم قانونًا لممارسة صلاحيّاته. وهم لا يستطيعون المشاركة لا في المناقشات ولا في التصويت لأنّ المادّة 45 تمنع التصويت بالوكالة.
لا يمكن أن يكون ثلثا مجلس النوّاب الملتئم لانتخاب رئيس الجمهوريّة إلاّ ثلثي مجلس النوّاب الملتئم قانونًا للقيام بذلك، ما يعني بالضرورة ثلثي النوّاب الحاضرين بعدد كافٍ. فقوّة عبارة “لا يتكوّن..فعلياً ما لم تحضره…” لا تسمح بأيّ تفسير آخر (نذكر هنا أن ترجمة سيئة قد حوّلت هذه الجملة بشكل مغلوط فأتت في النص العربي للدستور كما يلي: لا تكون إجتماعات المجلس قانونية ما لم تكن الغالبية المطلقة من الأعضاء الذين يؤلفونه قانوناً حاضرة).
المادّة 34 أعطت أول توضيح لعبارة “ثلثي مجلس النوّاب” الملتبسة التي تصبح “ثلثي النوّاب الحاضرين لانتخاب الرئيس”. غير أن ليس لذلك أي تبعات بما يتعلق بالنصاب. ثمّ تتدخّل المادّة 75 لمزيد من الدقّة:
“يترتب عليه [أي مجلس النوّاب] الشروع حالا في انتخاب رئيس الدولة بدون مناقشة او أي عمل آخر”.
وحيث أن النواب الحاضرين متواجدون للإقتراع فقط، وليس بإمكانهم مناقشة الإنتخاب أي أمور أخرى، يقتصر معنى العبارة على ثلثي الأصوات المدلى بها. إضافة الى ذلك، توضح المادة 12 من النظام الداخلي للمجلس المفهوم الأخير في سياق إنتخاب رئيس الجمهورية، عبر إستبعاد الأوراق البيضاء أو الملغاة في إحتساب الغالبيات، مما يجعلها مساوية للأصوات المحتسبة suffrages exprimés)).
إنّ الحجّة الرئيسة التي يقدّمها المدافعون عن “نصاب الثلثين”، والتي تحرّف معنى المادّة 49 لتستنتج منها نصاب ثلثي الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب، حجّة غير مقبولة أيًّا كان النصّ المأخوذ بعين الاعتبار. وبالتالي، تحتوي المادّة 34 على الإحالة الوحيدة إلى النصاب التي يمكن تطبيقها على انتخاب رئيس الجمهوريّة. أما بالنسبة الى الغالبية المطلوبة لإنتخابه في الدورة الأولى، فهي ثلثي الأصوات المحتسبة (suffrages exprimés ).
حجج أخرى تتعلق بالنصاب
يؤكّد كوليار وربّاط على أنّ المادّة 34 لا يمكن، من حيث المبدأ، أن تطبَّق على انتخاب الرئيس. وترد حجّتهم على الشكل التالي: تعلن المادّة 75 أنّ المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهوريّة يعتبر “هيئةً انتخابيّةً” لا “هيئةً اشتراعيّةً”؛ غير أنّ المادّة 34 لا تطبَّق إلاّ على المجلس الملتئم كهيئة اشتراعيّة؛ وبالتالي، لا تطبَّق المادّة 34 على انتخاب الرئيس.
إذًا بحسب ربّاط : “في المجال المخصّص له، يكون لهذا النصّ [المادّة 75] وحده أثر استبعاد تطبيق المادّة 34، بما أنّ هذا الأخير يتعلّق بعمل المجلس كسلطة تشريعيّة، فيما تحدّد المادّة 49 شروط وظيفته التكميليّة لانتخاب رئيس البلاد، وهي وظيفة تتميّز بكلّ تأكيد، على الصعيد الدستوريّ، عن صفته كمشرّع”.
لا شيء في نص الدستور يدعونا الى الإعتقاد بأن متطلبات النصاب للمجلس الملتئم كهيئة إنتخابية يجب أن تكون أشد صرامة من إلتئامه كهيئة تشريعية. إن المادة 34 ترد في الدستور الحالي ضمن الباب 2، الفصل 3، أحكام عامة. لا يوجد أي إشارة في هذه المادة أو في القسم الذي يتضمنها أنها مقتصرة على القضايا التشريعية. على سبيل المثال، المادة 36، الواردة في القسم نفسه، تتناول الإقتراع في عمليات الإنتخاب.
ثانيا، هناك عدم ترابط منطقي في موقف كوليار وأفريل. إذا كان من المهم حسب رأيهم، ولأسباب سياسية يرونها جوهرية، التشديد على توفّر نصاب الثلثين من الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً في الدورة الأولى، ماذا جرى أنه في الدورة الثانية، التي قد تلي الأولى بعد وقت قصير، يكتفيان بالغالبية المطلقة لتوفر النصاب؟
كل التحاليل التاريخية والإعتبارات السياسية العليا تسقط فجأة ويتم الرجوع الى المادة 34، كل ذلك خلال فترة زمنية قصيرة تفصل دورة الإقتراع عن التي تليها؟ يدل ذلك بوضوح الى عدم جدية الحجج التي ساقاها للخروج من المعنى الحرفي والدقيق للمادة 49، وتبني تفسير معاكس له.
في المواد الست من الدستور حيث غالبية الثلثين أو الثلاثة أرباع من مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً مطلوبة في الإقتراع، لا يتبدل هذا الشرط الصارم في الدورات التالية، حيث أن أسباب هذه الغالبيات المرتفعة هي وستبقى جدية ومبرّرة. من المؤكد أن الأسباب التي يوردها الأساتذة رباط، كوليار، وأفريل ليست جدية، حيث أنها إلزامية في الدورة الأولى فحسب، وتزول وتختفي في الدورات التالية.
وأخيرا، فقد بنى أنصار نصاب الثلثين حجتهم السياسية على أن النظام قبل الطائف كان رئاسيا قويا. غير أننا نعيش اليوم في فترة ما بعد الطائف وحيث لم يبق لرئيس الجمهورية عمليا أي سلطات. بالتالي، ليس هناك أي مبرر سياسي يدحض نصا كامل الوضوح في الدستور، بغية الحفاظ على نصاب مطلوب لإنتخاب رئيس الجمهورية اعلى بكثير من ذلك المطلوب لإنتخاب مناصب عالية أخرى في الدولة.
إنّ دحضًا أكثر حسمًا لحجج ربّاط وكوليار يردنا من النصوص الأصليّة. ففي دستور العام 1926، الذي كان يستند إلى نظام المجلسين، تنص المادة 79 الواردة في الباب 3 – أحكام متعلقة بالمجمع النيابي:
“لا يكون التئام المجمع النيابي قانونياً ما لم تجتمع فيه الغالبية المطلقة من كل من المجلسين وتصدر قراراته بالغالبيّة المطلقة من الأصوات إلا في ما استثنته المادتان 49 و 77.”
تعطي المادّة 79 من دستور العام 1926 عدّة إشارات في هذا الإطار.
أوّلاً، إنّ النصاب المحدَّد في هذه المادّة يطبَّق صراحةً على المجمع النيابيّ الملتئم كهيئة انتخابيّة بما أنّ المادّة 49 مذكورة صراحةً فيها. وبالتالي، يطبَّق نصاب يساوي “الغالبيّة المطلقة من أعضاء كلّ من المجلسين” على انتخاب رئيس الجمهوريّة، بما أنّ لا شيء في المادّة 49 يحدّد أو يتضمّن نصابًا مختلفًا. في الواقع، “لا يعني “الاستثناء المنصوص عنه في المادّة 49” إلاّ الغالبيّة المطلوبة للتصويت، وهي غالبيّة مشروطة مؤلّفة من ثلثي الأصوات المحتسبة، بدون الإشتراط على عدد أدنى من النوّاب الحاضرين.
تشير المادّة 79 من دستور العام 1926 بصراحة كبيرة إلى نيّة واضعي الدستور وتستبعد بشكل قاطع تفسير نصاب الثلثين. وحيث حرص واضعو الدستور على وجود نصاب يختلف عن ذاك المذكور في المادّة 79، حدّدوا ذلك بشكل واضح جدًّا، كما في المادّة 77 التي تتطرّق إلى تعديل الدستور. ومن الجيّد ذكرها هنا:
“عندما يتفق المجلسان على المواد المراد تعديلها يلتئمان في مجمع نيابي للتناقش في التعديلات المقترح إجراؤها ولا تعتبر مقرراته قانونية إلا بعد أن يوافق عليها واحد وثلاثون عضواً”.
كان الـ31 صوتًا تمثّل ثلثي الـ46 عضوًا في المجمع النيابيّ، بما فيهم 16 شيخًا و30 نائبًا. وهنا، بعكس المادّة 49، كانت الغالبيّة المطلوبة للتصويت ثلثي أعضاء المجمع النيابيّ، ما يعني بشكل واضح جدًّا أنّ النصاب أيضًا كان يجب أن يساوي ثلثي الأعضاء الذين يؤلّفون المجمع النيابيّ. وهنا مثل آخر حول المبدأ الذي اتّبعه واضعو الدستور: جعل التصويت الذي يؤدّي إلى انقطاع في ممارسة السلطة صعبًا؛ وتجنّب التعطيلات في عمليّات انتقال السلطة.
في العام 1927، تمّ تعديل الدستور لتُلحَق به التغييرات العائدة إلى دمج المجلسين، فقد اندمج مجلس الشيوخ بمجلس النوّاب الذي أصبح المجلس الوحيد. وبالتوازي، تمّ أيضًا دمج المادّتين 34 و79 ضمن المادّة 34 التي بقيت بلا أيّ تعديل منذ ذلك الحين. وتحدّد هذه الأخيرة نصابًا وغالبيّةً للتصويت يطبَّقان بصورة عامّة على المجلس الملتئم كهيئة اشتراعيّة أو هيئة انتخابيّة. وقد تمّت الإشارة بشكل واضح جدًّا إلى استثناءات هذه القاعدة في الموادّ التي تتناول حالات خاصّة.
إضافةً إلى ذلك، يسمح لنا هذا الاستطراد التاريخيّ بأن نوضح عدّة جوانب غير مفهومة من الباب 3 من الدستور الحاليّ الذي كتب ربّاط حوله الملاحظة التالية: “هذا الباب، الذي لا عنوان له، يحتوي على ثلاثة مواضيع لا يقرّب أيّ رابط فيها الموضوع الأوّل من الموضوعين الآخرين؛ فتجميعها جنبًا إلى جنب لا يفسَّر إلاّ بحرج واضعها في أن يجد لها مكانًا منطقياً في التصميم العامّ للدستور”.
وهذا الموضوع الأوّل الذي يتحدّث عنه ربّاط هو الانتخاب الرئاسيّ الذي تتناوله الموادّ 73 و74 و75. أمّا الموضوعان الآخران فيتطرّقان إلى تعديل الدستور في الموادّ من 76 إلى 79. ما إن استُبدِل المجمع النيابيّ بمجلس واحد حتّى انتفى سبب وجود قسمٍ حول عمل كلّ مجلس ملتئم على حدة وقسمٍ آخر للمجلسين الملتئمين في مجمع نيابيّ. فاختفت المادّة 78 من دستور العام 1926 التي كانت تتناول عمل المجمع وأَدمجت المادّة 79 من دستور العام 1926 بالمادّة 34، واستُبدِلت المادّتان بمادّتين حول تعديل الدستور، ما يسمح بالحفاظ بدون تغيير على ترقيم الموادّ اللاحقة حول المجلس الأعلى (المادّة 80) والماليّة (الموادّ من 81 إلى 89) في قسم الباب الرابع – “أحكام مختلفة”.
منطقيًّا، كان ينبغي نقل الموادّ 73 و74 و75 إلى ما بعد المادّة 49 بما أنّها تتناول الموضوع عينه. وإن لم يحصل ذلك، فبكلّ بساطة لتجنّب حدوث تبديل كبير في ترقيم الموادّ كان لينشئ التباسًا كبيرًا في الإحالات إلى نسخ الدستور السابقة. فبقيت بالتالي الموادّ 73 و74 و75 حول انتخاب الرئيس بجوار الموادّ 76 و77 و78 و79 حول تعديل الدستور، في قسم ثالث، بدون عنوان، كبقايا لفترة نظام المجلسين الزائلة.
-الغالبيّات المطلوبة لانتخاب الرئيس في دورات الاقتراع التي تلي
قد يبدو لأوّل وهلة أنّ ما من مشكلة هنا، بما أنّ رجال القانون الخمسة التابعين للنزعتين متّفقون على هذه المسألة. فوفقًا لهم، لا بدّ، في الدورات التي تلي الدورة الأولى، من وجود غالبيّة مطلقة من الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب لانتخاب الرئيس.
إلاّ أنّ توصّل رجال القانون هؤلاء إلى هذا الاستنتاج من خلال حجج متناقضة يزيل قوة الإقناع لهذا الإجماع الظاهريّ. فلنراجع النصّ.
إنّ الجمل الأساسيّة هي التالية: “ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من الأصوات في الدورة الأولى، ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي.”
من حيث النحو اللغوي، تتعلق عبارة “الغالبيّة المطلقة” بكلمة “الأصوات” الواردة في الجملة السابقة، وإنّ جميع القرّاء تقريبًا يفهمون الجملة على هذا الشكل. لكن في اللغة القانونيّة، يتمّ بشكل عام اعتبار عبارة “الغالبيّة المطلقة”، المأخوذة على حدة، على أنّها مسندة إلى الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب.
وبالتالي، يكمن السؤال هنا في معرفة ما إذا كان يجب ربط عبارة “الغالبيّة المطلقة” بكلمة “الأصوات” الواردة في الجملة السابقة أو أخذها بعين الاعتبار بمعزل عنها.
يعتبر جيكيل أنّه يجب قراءة “الغالبيّة المطلقة” بشكل منفصل، ويستنتج من ذلك أنّها تتعلّق بعبارة “الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب”.
ويؤكّد ربّاط وكوليار أنّه ينبغي ربط عبارة “الغالبيّة المطلقة” بكلمة “الأصوات” الواردة في الجملة السابقة. ولكن، بما أنهما أجريا تحليلا خاطئا للمادّة 49، إستبدلا كلمة “الأصوات” بعبارة “الأعضاء الذين يؤلّفون مجلس النوّاب”. فهما بذلك ربطا “الغالبيّة المطلقة” بكلمة “الأعضاء” ووجدا نفسيهما، في نهاية المطاف، متفقين مع جيكيل. ولكن، بما أنّ هذا الاستبدال للعبارات غير مقبول، فإنّ استنتاجهما غير مقبول أيضًا.
فلنعد إلى قراءة جيكيل. إنّ الحجّة التي تنقض استنتاجه ليست نحويّةً فحسب، بل تكمن، بشكل خاصّ، في أنّ تفسيره قد يسمح بانتخاب مرشّح بعدد من الأصوات في الدورة الأولى أصغر منه في الدورات التي تليها. في حين أنّ القاعدة العامّة بالنسبة إلى الأصوات تفترض أن تكون متطلّبات الغالبيّة هي الأقوى في الدورة الأولى.
فتصبح بالتالي القراءة الصحيحة للجملة الأساسيّة على النحو التالي: في الدورات التي تلي، يكتفى بالغالبيّة المطلقة من الأصوات.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا الاستنتاج لا يستبعد إمكانيّة التعطيل على صعيد التصويت حتّى لو كان النصاب مؤمّنًا. فيمكن أن ينشأ وضع يتقاسم فيه ثلاثة مرشّحين الأصوات من دون أن يحصل أيّ منهم على الغالبيّة المطلقة من الأصوات. عندئذ، يجب أن تستمرّ دورات الاقتراع في التعاقب حتّى حصول أحد المرشّحين على أكثر من 50% من الأصوات. ومن البديهيّ أن يكون التعطيل أكثر شيوعًا إذا كانت الغالبيّة المطلقة تتعلّق بالأعضاء الذين يؤلفون مجلس النوّاب قانوناً.
استنتاجات أوّليّة
لقد تمّ تحليل حجج أنصار نصاب الثلثين بشكل منهجيّ، على الأقلّ كما عُرضت في المؤلّفات المذكورة أعلاه. ولا يسمح أيّ من الحجج المأخوذة بعين الاعتبار باستبعاد النصّ الحرفيّ للمادّة 49. إضافةً إلى ذلك، لا شيء يجيز التأكيد على أنّ المادّة 34 لا تطبَّق على المجلس الملتئم كهيئة انتخابيّة.
وبالتالي، يسمح تحليل النصوص بالاستنتاجات الأوّليّة التالية في ما يتعلّق بالمتغيّرات التي هي محور النقاش:
• إنّ النصاب المطلوب من أجل صحّة التصويت في دورة الاقتراع الأولى يساوي الغالبيّة المطلقة من الـ127 عضوًا الذين يؤلّفون مجلس النوّاب، أي 64 نائبًا حاضرًا.
• إنّ غالبيّةً مشروطةً من ثلثي الأصوات المحتسبة تكفي لانتخاب الرئيس في دورة الاقتراع الأولى.
• إنّ نصاب الـ64 نائبًا عينه ضروريّ في دورات الاقتراع التي تلي.
• إنّ الغالبيّة المطلقة من الأصوات المحتسبة تكفي لانتخاب الرئيس في الدورات التي تلي الدورة الأولى.
لا نخفي أنّنا، وبشيء من المكر، سوف نلاحظ معاً أنّ الاستنتاج الوحيد الذي اتّفق عليه القانونيّون البارزون الخمسة بالإجماع، ولا سيّما أنّ الغالبيّة المطلقة من أعضاء مجلس النوّاب مطلوبة لانتخاب الرئيس في دورات الاقتراع التي تلي، يتناقض مع نص الدستور.
لكن ما زال بالإمكان إنقاذ شرف المهنة إذا سلّمنا بأنّ استنتاج القانونيّين الخمسة يتلاءم مع وجود عرف دستوريّ. فهل من “سوابق” قد تضعف استنتاجاتنا الأوّليّة؟
–
القواعد الدستورية الواضحة والسوابق
تبعا للنظرية التقليدية في التفسير القانوني، ليس هناك مجال للتفسير عندما يكون النص واضحا و مبسطا(claris non fit interpretation)، أو كما ذكرها جيكيل أعلاه: إن القواعد الدستورية الواضحة والدقيقة لا تقبل أي تفسير. إن مبدأ الوضوح هذا لا يمكن نقضه، في الحالة التي تهمنا، بمبدأ “القابلية للتطبيق”، حيث أن قواعد الإقتراع في المادة 49 قابلة للتطبيق تماما وهي، في أي حال، محدّدة بشكل كامل الوضوح في المادة 12 من النظام الداخلي للمجلس.
بإمكان النواب اللبنانيون ورجال القانون الذين يدعمونهم إعطاء كافة التفسيرات التي يريدونها بحيث تتناقض مع نصوص واضحة ودقيقة. إن ذلك لن ينشىء سوابق أو يعطي المشروعية لتفسيراتهم. وحده المجلس الدستوري بإمكانه إعطاء تفسير رسمي للمادة 49، وهو لم يُطلب منه ذلك. بإمكان المجلس النيابي، بغالبية ثلثي الأعضاء الذين يؤلفونه قانوناً، تعديل المادة 49 لفرض غالبية تساوي ثلثي الأعضاء الذين يؤلفونه قانوناً، وذلك لم يحصل. لقد بقي النقاش على مستوى التصريحات والتحاليل السريعة، خارج أطره الصحيحة: المجلس ملتئما كهيئة تأسيسية والمجلس الدستوري. أما أسباب هذه الثغرات فهي سياسية.
في الواقع، قد تتسبب مناقشة مسألة الغالبية المطلوبة لإنتخاب رئيس الجمهورية في إثارة مسألة الغالبيات المطلوبة لإنتخاب رئيس المجلس ورئيس الوزراء، وهما غير ميالين أن يكونا رهينة ثلث معطل. وفي إنتظار تطوير نظام ديموقراطي توافقي عادل وعملي، علينا القبول بنظام تقاسم السلطة (power sharing)، حيث يتم إتخاذ القرارات على اساس الإقتراع الأكثري.
نظرا الى وضوح النص، لا يمكن التكلم عن السوابق أو العرف الدستوري بما يتعلق بالنصاب وغالبية التصويت في الدورة الأولى. أما النص ذات الصلة بالإقتراع في الدورة الثانية، ففيه ما يكفي من الإلتباس ما يسمح بالنظر الى السوابق التاريخية.
وجود عرف دستوريّ
يؤكّد كوليار وأفريل وسكينه وجود عرف دستوريّ يسوّغ تفسيرهم لنصّ الدستور. فما هو العرف الدستوريّ وما المعايير لتحديد وجوده؟ يعرّف دالوز (Dalloz) “العرف الدستوريّ” كما يلي: “قاعدة غير مكتوبة ناجمة عن سوابق متطابقة تحترمها السلطات العامّة في البلاد”. يتعلّق الأمر هنا بإيجاد استخدام شائع لقاعدة نصاب الثلثين التي توافق عليها الجهات السياسيّة الفاعلة والسلطات العامّة ولم يتمّ الاعتراض عليها.
يقترح كوليار معيارين لإثبات وجود عرف دستوريّ: “تراكم السوابق والشعور بأنّ السلوك المتّبع في هذه المناسبات كان إلزاميًّا”. ومن تعريف دالوز، يمكن أيضًا استخراج تحديد أنّ السلطات العامّة يجب أن تراعي هذا السلوك.
لمحة تاريخية. تراكم السوابق
خلال فترة الخمسين عامًا التي تلت صدور دستور العام 1926، لم يتمّ قطّ ذكر الثلث المعطّل. ويعتبر كوليار أنّ هذه الفترة لا تتضمّن أيّ تبعات ذات صلة بالسوابق. إلاّ أنّ صمت الخمسين عامًا هذا بليغ كلّ البلاغة. فلو كان تفسير الثلثين مقبولا، ولو وجد أدنى شكّ على وجوده، لكانت أقلّيّة برلمانيّة حاولت بكلّ تأكيد الاستفادة منه. لكن لا أثر لذلك على الإطلاق.
صحيح أنّ لا وجود لسوابق معاكسة، أي حالات اعتُبر فيها نصاب يقلّ عن ثلثي الأعضاء كافيًا. لكنّ هذا مفهوم نظرًا إلى أنّه، ما دام الثلث المعطّل غير مقبول، سيشارك النوّاب بعدد كبير جدًّا في جلسة انتخاب الرئيس التي لا منفعة سياسيّة لهم بمقاطعتها.
تجري الانتخابات الرئاسيّة كلّ 6 سنوات. وبالنسبة للنوّاب، إنّه البازار الكبير الذي تعقد فيه الصفقات السياسيّة الكبيرة. فيتمّ دعم مرشّح ما مقابل وعود بحقائب وزاريّة وتعيينات وامتيازات اقتصاديّة ومخصّصات من الموازنة لبعض المناطق أو المشاريع. وبالتالي، لن يتغيّب إلاّ القليلون جدًّا عن هذه الانتخابات، ما لا يسمح بتأكيد سابقة أو بدحضها، لأنّ الأنصبة ستؤمّن بشكل واسع ويكون الفرق صغيرًا بين عدد الأصوات وعدد أعضاء مجلس النوّاب. ولكنّ وجود هذا العدد القليل من الغائبين وعدم إثارة مسألة النصاب خلال خمسين عامًا عاملان يدحضان بقوّة كبيرة وجود ثلث معطّل وبالتالي تفسير نصاب الثلثين.
وقعت السابقة الأولى التي لا لبس فيها والتي يذكرها كوليار في انتخابات العام 1976، وهي فترة كانت المواجهات المسلّحة خلالها تضع الفلسطينيّين والجماعات الإسلاميّة التقدّميّة من جهة، بوجه ميليشيا الجبهة اللبنانيّة من جهة أخرى.
أمّا السابقة الثانية التي يشير إليها فأتت في انتخابات العام 1982 خلال الاجتياح الاسرائيليّ.
وفي انتخابات العام 1988، تمّ تأجيل الجلسة بسبب عدم اكتمال النصاب. لكنّ كوليار يعترف بأنّ هذه الحالة غير وثيقة الصلة بالموضوع، بما أنّه حتى نصاب الغالبيّة المطلقة لم يؤمَّن. وبعد العام 1990، أوجبت السيطرة السوريّة على البلاد فرض الرؤساء بدلاً من انتخابهم بكلّ حرّيّة. ولم تُعَد إثارة مشكلة نصاب الثلثين إلاّ خلال الانتخابات الحرة التي جرت العام 2007 ، وحيث عارضته، هذه المرّة، علنًا الغالبيّة البرلمانيّة.
السلطات العامّة والشعور بأنّ السلوك المتّبع كان إلزاميًّا
هل راعت السلطات العامّة في تلك الفترة قاعدة نصاب الثلثين؟ في العام 1976، صوّت مكتب مجلس النوّاب ولجنة الإدارة والعدل لصالح هذه القاعدة. وتجدر الإشارة أوّلاً إلى أنّ هاتين الهيئتين لم تكونا قطّ مخوّلتين إعطاء تفسير للدستور بإتجاه أو بآخر. ومن جهة أخرى، كان من الممكن أن تنشئ هذه القرارات الإداريّة ممارسةً شائعةً، لكنّ هذه الأخيرة لم تظهر بدون التباس إلاّ مرّتين، في العام 1976 وفي العام 1982، وتمّت معارضتها رسميًّا في العام 2007.
هل كانت هذه السلطات العامّة مستقلّةً خلال سنوات المواجهات المسلّحة والشديدة الدمويّة؟ لقد كان النوّاب والمسؤولون رهائن لدى الميليشيات المسلّحة أو متواطئين معها. ولم يكن لقراراتهم وتصرّفاتهم، في ظلّ التهديدات المستمرّة التي كانوا يخضعون لها خلال سنيّ الحرب الستّ عشر، أيّ طابع إلزاميّ.
ماذا عن رأي رجال القانون خلال فترة الحرب (1975-1990) حين أثيرت مسألة النصاب لأوّل مرّة؟ لقد كان رأيهم متأثّرًا بشدّة بالإستاذ ربّاط الذي يشكّل عمله البارز المرجع الأهم في مجال القانون الدستوريّ اللبنانيّ. ولكن للأسف، إنّ الصفحات القليلة المخصّصة للمادّة 49 ليست بمستوى باقي عمله، وقد أثارت عددًا من الاعتراضات، ما حال دون أن يصبح تفسيره للمادّة 49 رأيًا شائعًا. ويشير المقطع التالي من حاشية ربّاط المذكورة أعلاه إلى أهمّيّة هذه الانتقادات: “أمّا الاعتراض الذي غالبًا ما تمّ تقديمه والذي مفاده أنّ النصاب المطلوب قد لا يؤمّن أبدًا..”. وبالتالي، تمحورت الاعتراضات حول الثلث المعطّل، وهو نقطة الضعف في تحليل ربّاط.
إن الإهتمامات السياسية للإستاذ ربّاط يمكن أن تكون سبب إصراره على إضعاف رئيس الجمهورية الذي راكم سلطات كبيرة قبل مؤتمر الطائف، في فترة لم يكن من الممكن وضع حد للحرب الأهلية سوى عبر إتفاق شبه إجماعي. إضافة الى ذلك، كان الإستاذ رباط برلماني سوري سابق، مستشار لحزب البعث، وقومي عربي، وبالتالي من الطبيعي أن يسعى الى إضعاف أعلى منصب مخصص للموارنة، حيث تتركز الإرادة الإستقلالية للبلد. إن دوافع ربّاط السياسية يمكنها أن تفسر كيف أن عمله، ذات الجودة الإستثنائية حول الدستور اللبناني، وردت فيه حجج واهنة كتلك التي إستخدمها في تبرير تفسيره للمادة 49.
الإستنتاج
الأمثلة التي لا تقبل الإلتباس لعامي 1976 و 1982، التي تكلم عنها كولير، لا تتعلق بغالبيات الإقتراع في الدورات التي تلي الدورة الأولى. في جميع الحالات التي تناولها، الغالبيات التي أعتبرها ضرورية لإنتخاب الرئيس في الدورات التي تلي الدورة الأولى، لا تبطل أيا من الفرضيات التي تطرق اليها. بالتالي، ليس هناك أي سوابق يمكنها دعم تفسير مغاير لذلك الذي يعتمد على قراءة حرفية لنص دستوري واضح، وبشكل خاص أن غالبية مطلقة من الأصوات كافية لإنتخاب الرئيس في الدورات التي تلي الدورة الأولى.
صحيح أن هذين المثلين الذين لا يقبلان الإلتباس يبينان أن نصابا وغالبية مشروطة مساوية لثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً، قد إعتبرتا ضروريتين لإنتخاب الرئيس في الدورة الأولى في عامي 1976 و 1982. غير أن هذه القرارات لا يمكنها التعارض مع قانون دستوري واضح ودقيق. إضافة الى ذلك، لقد إتخذت هذه القرارات في ظروف سياسية وأمنية إستثنائية.
في الواقع، خلال 81 عامًا، لم يتمّ الاستناد إلى قاعدة نصاب الثلثين ولم تطبَّق هذه الأخيرة بدون التباس إلاّ بالدورات الاولى و في حالتين فقط قضت فيهما المواجهات المسلّحة البالغة العنف على أيّ مظهر طبيعيّ للانتخابات. ومن الصعب أن تشكّل قرارات العامين 1976 و1982 بفرض نصاب ثلثي أعضاء مجلس النوّاب، في حالات استثنائيّة من الفوضى والعنف، سوابق لممارسة ديموقراطيّة طبيعيّة. فهي قد تشكّل بالأحرى المثال الذي لا يجب اتّباعه إذا ما أردنا حقًّا أن نضع وراءنا طيف الحرب الأهليّة.
استنتاجات حول الغالبيّات المطلوبة لانتخاب رئيس الجمهوريّة
بما أنّ سابقتي العامين 1976 و1982، في قلب فترة الحرب، لا تستطيعان تثبيت صحّة وجود عرف دستوريّ، وبالتالي نقض نص واضح ودقيق، فإنّ الاستنتاجات الأوّليّة حول النصاب والغالبيّة المشروطة المطلوبة لانتخاب رئيس الجمهوريّة في دورة الاقتراع الأولى تبقى إذًا صحيحةً:
• إنّ نصابًا يساوي الغالبيّة المطلقة من الأعضاء الذين يؤلّفون قانونًا مجلس النوّاب مطلوب لكافّة دورات الاقتراع.
• إنّ غالبيّةً مشروطةً من ثلثي الأصوات المحتسبة تكفي لانتخاب الرئيس في دورة الاقتراع الأولى.
في ما يتعلّق بالغالبيّة المطلوبة للتصويت في الدورات التي تلي الدورة الأولى، يبقى الوضع أكثر التباسًا. فيبدو أنّ الجهات السياسيّة الفاعلة لم تقدّم اعتراضات بشأن ضرورة وجود عدد من الأصوات يساوي الغالبيّة المطلقة من أعضاء مجلس النوّاب لانتخاب الرئيس في الدورات التي تلي الدورة الأولى. لكن بغياب سوابق لا لبس فيها، من غير المسموح استبعاد الاستنتاج الأوّليّ المذكور أعلاه والمتوافق مع نوايا واضعي الدستور: إنّ غالبيّةً مطلقةً من الأصوات المحتسبة تكفي لانتخاب الرئيس في دورات الاقتراع التي تلي الدورة الأولى.
بغية تجنب طريق مسدود في عملية الإقتراع، يمكن الإكتفاء بغالبية نسبية في الدورة الثالثة، كما هي الحال في المادة 44 التي تتناول إنتخاب رئيس المجلس ونائب الرئيس. بالإمكان أيضا، في دورة الإقتراع الثانية، حصر عدد المرشحين الى الإثنين الذين نالا أكبر عدد من الأصوات، كما هي الحال في الإنتخابات الرئاسية الفرنسية. يجب إتخاذ القرار المناسب في هذه المسألة في المستقبل.
لا يمكن ختم التداول في الإنتخابات الرئاسية دون التطرق الى غيابات النواب المتكررة التي تتسبب بشلل البرلمان. فقد علت الأصوات الساخطة من كل حدب وصوب للإعتراض على هذا السلوك غير القانوني، غير الدستوري، أو على الأقل غير المسؤول من قبل ممثلي الشعب. ماذا ينصا الدستور و النظام الداخلي للمجلس حول هذه المسألة؟
تبعا للدستور، التفويض النيابي تمثيلي وليس إلزامي (mandate impératif et non représentatif) (المادة 27). لا يخضع النائب للمسائلة من قبل ناخبيه. في أي حال، حتى لو كان ملزما بذلك، فعلى الأرجح ستوافق غالبية ناخبيه على إستراتيجية المقاطعة التي يتبعها.
يتناول النظام الداخلي للمجلس مسألة غياب النواب خلال دورات المجلس العادية والإستثنائية في المواد 61، 62، و 63. تشير المادة 61 أنه لا يسمح للنواب بالتغيّب أكثر من مرتين خلال دورة مجلس عادية أو إستثنائية دون عذر مشروع ودون إبلاغ المجلس بصورة مسبقة. لا جدوى من قرار يمنع سلوكا ما إذا لم يرافقه عقاب. وبالفعل، تشير المادة 63 أنه في حال لم يؤمن النصاب في إحدى جلسات المجلس، الإجراء الوحيد المتاح هو تدوين لائحة بالمتغيبين في محضر الجلسة التالية.
في ما خص لجان المجلس الدائمة، يمكن أن يتسبب الغياب المتكرر للنواب الأعضاء في اللجنة، بإستقالتها القسرية. في حال المجلس الدستوري، ثلاث غيابات متكررة دون مسوغ شرعي تؤدي بصورة آلية الى إستقالة قسرية، ومن المفترض أن تؤدي الى ملاحقات قانونية بتهمة الامتناع عن تحقيق الحق (déni de justice ) أما فيما يخص المجلس، فللأسف، مبدأ “لا منع دون معاقبة” هو السائد، أي أن بإمكان النائب التغيّب دون أي عواقب. يعود ذلك جزئيا الى النظام الداخلي للمجلس، غير أن سببه الأساسي يعود الى تفسير مغلوط للدستور يصرّ على تأمين نصاب ثلثي الأعضاء الذين يؤلفون المجلس (المقاعد غير الشاغرة فعليا) لإنتخاب رئيس الجمهورية. على الذين يصرون على نصاب الثلثين، ثم يُصدمون عند رؤية النواب يستخدمون ذلك لشل البرلمان، أن لا يلوموا إلى أنفسهم.
الوثيقة رقم 44 (fiche No 44) من مجلس النواب الفرنسي توضح كيف تطورت الممارسة الفرنسية بما يتعلق بالنصاب:
“لقد أُستخدم طلب التحقّق من النصاب (الغالبية المطلقة في هذه الحال) لمدة طويلة كأداة تعطيل. ومنذ إصلاح النظام الذي جرى في 27 أيار 2009، تم التخلي عن هذه الممارسة، حيث أن هذا الطلب لم يعد يؤخذ بعين الإعتبار إلا إذا كانت أكثرية من أعضاء هذه المجموعة حاضرين في قاعة المجلس. وعندما لا يكون بالإمكان إجراء الإقتراع، بسبب عدم تأمين النصاب، ترفع الجلسة ويؤجل الإقتراع لمدة خمسة عشر دقيقة على الأقل. عندئذ، يصبح الإقتراع نافذا مهما يكون عدد النواب الحاضرين”.
للمفارقة، إن نصابا أعلى من الذي تحدّده المادة 34 سيؤدي الى عمليات تعطيل، بينما العودة الى التفسير الصحيح للدستور، أو حتى إعتماد نصاب أقل صرامة، يكفلان حضورا كثيفا في جلسات البرلمان.
أما مسألة المعاقبة الفعالة للنواب الذين يتغيبون بصورة متكررة، ومسألة إحتمال التعطيل الناتجة عن عدم قدرة أي من المرشحين الحصول على الغالبية المطلوبة في الإقتراع، يجب تناولهما بدم بارد، عند النجاح في إستيعاب الأزمة الحالية، بغية تعديل محتمل للدستور وللنظام الداخلي لمجلس النواب.
كانون الأوّل 2007 (معدّلة عام 2014)
paulmourani@gmail.com
ترجمة فابيان البستاني جعجع (ترجمة التعديلات: نبيل صبيح)