كان ابن خلدون يدرك تماما أثر الصيف الدائم على عقول سكان البلاد الحارة ونشاطهم ومخيلتهم. وهو يرسم في «مقدمته» الخطوط الجغرافية الفاصلة بين الجماعات البشرية: بلدان ذات طقس بارد يرتفع فيها الإنتاج والاختراع والتفكير، وأخرى حارة تنتشر فيها آفات الكسل والخمول، العقلي والجسدي. ليست هذه نقطة تافهة في «مقدمة» ابن خلدون، مع إنها عوملت كذلك، نظرا لتفوّق نظرية «العصبية» على ما عداها من موضوعاتها، وقلّة «النُبل» التي وسمت بها مسائل غير سياسية، غير سجالية، غير حادة، لدى قرائها… مثل قضية الطقس من ارتفاع درجة الحرارة والرطوبة أو انخفاضهما.
لم يخطئ ابن خلدون في هذا التمييز. بعد صدور «مقدمته» أصبح للبلدان الباردة السبق في اختراع الإصلاح الديني والثورتين الاقتصادية والسياسية، والذي أفضى إلى الحداثة؛ تلك الأيقونة التي يغالبها الآن محبّوها مثل أعدائها على حد سواء. لكن ابن خلدون لم يتطرّق إلى البلدان التي تعرف فصول الارتفاع والانخفاض لدرجة الحرارة على امتداد الفصول. لم يقلْ لنا مثلا عن هؤلاء السكان أنفسهم الذين ينشطون في الشتاء ثم يخملون في الصيف. ما هي الأشياء التي اخترعتها لهم الحداثة، بما إنهم يشغلون عقلهم، من أجل تجنّب الآثار التي تجعل من الصيف موسم الكسل الذهني والجسدي.
أهل الديار المتفوقة بمناخها اخترعوا الإجازات المسماة «كبرى»، أي الإجازات الصيفية، «الأيام الحلوة»، خصوصا شهر آب، فضلا عن الشهرين اللذين يسبقانه. «الإجازة الكبرى» التي تتضمن أشهُر الصيف الثلاثة المتعارف عليها في المقلب الشمالي، البارد، من كرتنا الأرضية، ليست مخصصة للتعلم، مثلا؛ المدارس والجامعات تأخذ إجازتها في هذا الموسم بالذات. والمدارس الصيفية إنما هي العقاب المثالي للتلميذ أو الطالب الذي لم يفلح في برودة الطقس من النجاح أو التعلم، أي تشغيل دماغه. ينتظر القيمون على هذه المدارس ان «يتحسّن» الطالب فيما هو يتعذب ولا يستوعب إلا القليل مما تحاول المدرسة الصيفية ان تعوّضه عن ليالي الكسل الباردة.
العطلة البرلمانية الواقعة في ذروة الحر، شهر آب في غالب الأحيان، لا تبتعد حيثياتها عن حيثيات الجامعة أو المدرسة: فالنائب يفترض فيه انه «يفكر» بالتشريعات الجديدة لصالح المواطنين، أي يعمل بعقله. وفي الصيف الشديد تضعف تلك الملَكة، وتزيد نسبة التوتر والكآبة. وفي هذه الحال، لنواب الأمة الذين اجتهدوا طوال الشتاء والربيع والخريف أن يريحوا عقولهم، أن يحفظوا بريقها المشتعل؛ الإجازة هنا مكافأة لهم على شغلهم الطيب…
بعض الصحف الغربية لا يقوم بشيء مختلف عندما تنتقل موضوعاته من الصارم والجاد إلى المضحك والمسلي. فيكثر من الرسوم الكرتونية ذات القصة الطويلة الممتدة على زمن الصيف الحار الطويل والمتسلسلة إلى عدد من الحلقات. وكلها تشحذ انتباها شاردا وعقلا مشتتا، لا تحتاج لاستهلاكها الا للعين، تفهم منها عقدها الدرامية المبسطة. تخصص نفس هذه الصحف ملاحق داخلية يومية، صيفية، لموضوعات، هي أيضا، مسلية، وأحيانا مضحكة: تفاصيل غراميات ذاك الشاعر النجم او المغني، الكَنَبات التي جلس عليها الروائي الخالد، النظارات الشمسية التي يلبسها النجوم، وقبعاتهم، تفاصيل التفاصيل لجرائم متسلسلة سجلت في حوليات التاريخ، الخيانات الزوجية لأشهر الكوبلات الغرامية… الخ. وهي لا تبخل بإسداء النصائح الصيفية لقراء الروايات: روايات الصيف لا يجب أن تكون أدبية، متفلْسفة أو «صعبة». روايات الصيف لا تباع إلا إذا كانت «خفيفة»، سريعة، لا تتوسل أي استغراق أو تركيز. فالإجازة هي إجازة للعقل، أو النشاط العقلي. وهنا تبرز التسلية بصفتها المادة التي تملأ فراغا تركه العقل سائبا. هي المعنى الذي تعطيه لأيام أفرغها الحرّ من معانيها بإفراغها العقل من عمله.
انه الصيف إذن. ولكن منظورا إليه من زاوية هؤلاء النشيطين الذين شبّوا في البلدان الباردة. فمارسوا امبرياليتهم الثقافية بأن اعتبروا الشتاء وحده مصدراً للكآبة، وللخمول أحيانا. ففرحوا لأي شعاع من أشعة الشمس التي قد تكون قاتلة أحيانا أخرى لمن تربّى تحت حضورها الساطع. فاخترعوا، ليس الإجازة الصيفية فحسب، بل رحلات إجازات الصيف إلى البلدان المشْمسة. فكانت وجهتهم الأقرب هي شرقنا، الذي لم يُعرف يوما إلا برمز القمر، ملك الليل وخصم الشمس. فكانوا ينشطون ويعمرون ويغتنون ويثمرون في الأشهر التسعة أو العشرة، ثم يمنحون أنفسهم إجازة تأتي بهم إلينا. وقد لحقهم بعد حين الأثرياء من أهالي البلدان ذات الشمس الرابضة، يتحملون شمسهم طوال أشهر الرحمة، ويأتون إلى الإجازة المحددة إلى شمس أقل فظاظة.
الذين يخدمون هذه الإجازات الصيفية لا غضاضة عندهم من العمل في ظروف لا تحث الا على التوقف عنه. يعدّون الفنادق والمجمعات والمواقع السياحية، يعاملون المصطافين كما تعامل دجاجة تبيض ذهبا. يذهبون بعيدا في الاحتفالات والسهرات والمهرجانات وضميرهم مرتاح بالرغم من توترهم. فهم يعملون في أوقات الإجازة، وعليهم جني أكثر من ضعف ما يجنونه في المواسم «الميتة»، عندما يكونون في أعلى درجات نشاطهم وقدرتهم على العطاء.
أليس غريبا، في بلد مرغوب من السياح والمغتربين مثل لبنان، ان يتدفّق اليه مليون ونصف مصطاف، وربما أكثر، كما تتوقع وزارة السياحة، ان تتردّى خدماته في عزّ موسمه، وترتفع أسعارها في آن، وان لا يتضرر سياحيا من ذلك إلا قليلا؟ ألا يدل ذلك على ان الخدمات السياحية في ذروة موسمها وفي معظم بلدان العالم تزدري المصيّف وتعامله وكأنه بـ»نصف عقل»؟ واذا كان مسلّما بالغش، مستسلما له، أليس ذلك دليلاً على خمول عقله وإرادته في هذا الموسم بالذات؟ بحيث يتطابق جشع صانع السياحة الصيفية مع الكسل الصيفي الذي ينتاب السائح، شاري بضاعته؟
الظروف تغيرت الآن؛ ارتفاع درجة حرارة الأرض يهدد بالكوارث المتنوعة، كالحريق في روسيا والفيضانات في باكستان مؤخرا، وكلها قتلت وجرحت ودمرت وهجرّت…. بل هي، أي الحرارة الآخذة بالارتفاع، تهدّد أيضا عقول البشر، وتدعوهم إلى الجمود تجنّبا لعرق الرطوبة والحر. فيكون الحرّ بذلك، بعد التلفزيون، مسؤولاً عن تلبّد العقل والإرادة البشريَين ، لا تنفع معه لا مكيفات الهواء ولا المهرجانات ولا «الثقافة» المسلية أو المجمعات السياحية «المتمّمة للشروط الدولية».
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية – بيروت
المستقبل