ثمة تراجع لموقع لبنان في سلّم الاهتمامات الدولية والاقليمية عموما، وهو تراجع تعبر عنه الحكومة الحالية بامتياز، سواء باستمرارها، برضى او لامبالاة اقليمية ودولية، او في تراجع السجال حول سلاح المقاومة، الى انكفاء المخاوف من وقوع حرب اسرائيلية على لبنان، يواكبه اطمئنان تبرّره طبيعة هذه الحكومة واولوياتها لجهة عدم قيام حزب الله بأي عمل عسكري يمكن ان يستدرج إسرائيل الى مواجهة في الجنوب لا تبدو في سلم الاولويات الاسرائيلي او الاميركي وحتى الايراني فضلا عن ابناء الجنوب.
لبنان اليوم إذا ليس في سلم الاولويات، وهذا يبدو مزعجا لبعض اطراف المعارضة التي تستشعر تراجعا في حدة المواقف الدولية والعربية من حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ومكوناتها، وهي كانت تعتقد ان الويل والثبور وعظائم الامور هو ما سيلي تشكيل “حكومة حزب الله” وسينتج عن اقصاء الرئيس سعد الحريري عن رئاسة الحكومة. وهو ايضا ازعاج وقلق موصول بـ”الاكثرية” التي طالما ساهمت في لعب دور تسجيل النقاط لحساب محور الممانعة في مواجهة السياسة الاميركية ومحور الاعتدال منذ العام 2005 حتى انطلاق الربيع العربي قبل اقل من عام.
لكن معطيات هذه المواجهة ومسرحها توسعا وتغيّرا الى حد كبير. فالتطورات العربية، والخمول الذي كان عليه الاجتماع السياسي العربي، تغيرا وشغلا الانظمة والشعوب التي حضرت اخيرا على المسرح واربكت السياسات اقليميا ودوليا وبدلت من بوصلة اهتمامات هذه السياسات بما يدفع لبنان الى الظل كما لم يسبق له ذلك منذ عقود.
لذا فإنّ استمرار الهدوء على الحدود الجنوبية يبقى الثابت حتى اليوم وإلى مدى بعيد، رغم المحاولات البائسة التي ما ان انطلقت حتى انكفأت في ذكرى نكبة فلسطين في ايار الماضي، وتم لجمها ذاتيا في ذكرى النكسة في حزيران لتنحصر على حدود الجولان المحتل في سورية.
حتّى “الاشاعة الفرنسية”، كما وصف بعض الاهالي الشائعة عن سقوط طائرة استطلاع اسرائيلية عصر السبت المنصرم في بلدة فرون المحاذية لوادي الحجير في الجنوب، لم تحدث قلقا لدى السكان، وان بدت محل اهتمام لجهة صحة سقوط الطائرة او عدمه، علما ان الجيش اللبناني لم يجد – حتى مساء امس – اي اثر لهذه الطائرة التي اكد الكلام عنها مركز قيادة القوة الفرنسية في دير كيفا، المتواجدة على بعد ثلاثة كيلومترات من محيط بلدة فرون، والذي يحوي مركز الرادارات الاساسي لليونيفيل. وبحسب المصادر المعنية، لم يظهر اي تحرك اسرائيلي يواكب عادة مثل هذا التطور. وهذا يقوّض ما تداوله البعض عن ان مقاتلي حزب الله عمدوا الى مصادرة حطام الطائرة اثر سقوطها مباشرة.
هدوء الحدود الجنوبية المستمر ينطوي ايضا، الى جانب اولوية لدى الحزب في حماية الحكومة، على اهتمام مستجد بمراقبة الحدود اللبنانية السورية وما يجري على ضفتيها، بعد اشتعال المواجهات بين النظام والثوار السوريين، وهو اهتمام يشغل الحكومة اللبنانية ومعارضيها كل من زاويته. وحزب الله، الذي يوفر لهذه المهمة المزيد من طاقته الامنية والتنظيمية، ساعده على ذلك تلمسه، مع اكتشاف الخروقات الاسرائيلية الاخيرة في جسمه الامني والتنظيمي، عدم قيام اسرائيل باستغلال ما توفر لديها من معلومات للقيام بعملية عسكرية او امنية ضد لبنان، إلى جانب الإلمام بحجم الخروقات الاسرائيلية وخطورتها، كما بيّنت الاجراءات الامنية التي اعتمدها، وما تسرب من تفاصيل الخروقات الى قاعدة الحزب قبل الاعلام، ومنها هروب احد المسؤولين الامنيين المعروفين الى اسرائيل عبر الحدود البرية، الى احتجاز ومحاكمة عدد من المتورطين في مثل هذه الخروقات، وبعض المنغمسين في اختلاسات مالية كبيرة، الى عمليات بيع سلاح المقاومة الى جهات سورية وتجار سلاح لم يكن من الممكن تفاديها.
هذا في ظل التربص المتبادل، يدفع الى توقع قيام الجيش الاسرائيلي بعمل مستندا الى بنك الاهداف الذي توفر لديه، ويستبق اي خطوة تنظيمية جديدة احترازية من حزب الله تنطوي على نوع من اعادة الانتشارالامني واللوجستي. وهو ما لمس المواطنون آثاره في العديد من المناطق التي يتحكم بها حزب الله خلال الاشهر القليلة الماضية.
الإهتمام الإقليمي والعربي والغربي والعالمي بعيد المنال، رغم اقتراب موعد الإنتخابات النيابية، نسبيا، بمعدّل أشهر وعام تقريبا، والحديث عن تمويل المحكمة يبدو استدراجا لـ”الخارج” أكثر منه “تدخّلا”… وكلّ ذلك يدلّ إلى أنّ التوقعات “الحربية” و”الإهتمامية” مؤجّلة أيضا وأيضا.
alyalamine@gmail.com
* كاتب لبناني
البلد