لم يعد باستطاعة المتابع لأحداث المنطقة العربية الراهنة سوى الإقرار بأن الطائفية باتت شعار المرحلة بلا منافس. فالوضع العراقي في تدهور مستمر كنتيجة للأخطاء الأمريكية في إدارة عراق ما بعد الاحتلال الذي آل إلى نزاع طائفي سافر بين الشيعة والسنة. أضف إلى ذلك تعاظم دور “حزب الله” وانفراده بقرار الحرب على حساب الدولة اللبنانية، وما تلا العدوان الإسرائيلي من مواقف الحزب السياسية على الساحة اللبنانية، والتي أخذت طابعاً طائفياً بين السنة والشيعة. هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تحويل الحوار والنقاش داخل السعودية وخارجها من الأقطار العربية صوب الهم الطائفي. وبالتالي فإن المنطقة العربية أمام ظاهرة جديدة من “البعث الشيعي” قد تخل بتوازنات جيوسياسية سابقة؛ فلا غرو إذن أن تسيطر اللغة الطائفية على الهم العام، ويصبح الموقف من الشيعة أحد مفاصل المرحلة.
إن تاريخ علاقات الشيعة بالسنة هو تاريخ طويل من العداء وسوء الظن والكره المتبادل, وقد ظلت هذه التراكمات التاريخية على حالها في ظل أنظمة سياسية حديثة تسترت بأقنعة وشعارات حداثية في الظاهر مع بقاء الباطن على حاله فيما يخص الصراعات التاريخية. وباءت بالفشل مشاريعها المتعلقة بإعادة صياغة الهوية الوطنية والاندماج الاجتماعي. وطغيان الطائفية على الساحة العراقية لخير دليل على ضعف رصيد الهوية الوطنية. إن قمع الدولة العراقية للهُوية للشيعة، وعدم عدالة توزيع الثروة والمناصب في الدولة اللبنانية، قد جعل من “الطائفة” صمام الأمان الوحيد في تأكيد الحضور والهُوية. فوضع الشيعة في كافة الأقطار العربية (والتي هي في غالبيتها سنية) في القرنين الأخيرين لا يمكن وصفه بأنه تاريخ ازدهار ورفاه في كافة المجالات الحياتية. ولا يمكن وصفه كذلك بأنه تاريخ تطهير مذهبي، وللموضوعية نقول بأن الشيعة كطائفة كانت تعامل على الدوام كأقلية بغض النظر عن حجمها الفعلي على أرض الواقع. ولو أمعنا النظر في الدولتين التي تتركز حولهما الأنظار اليوم، العراق ولبنان، فسنجد أن الطائفة الشيعية في هاتين الدولتين كانت على الهامش في أحسن الأحوال، وفي موضع الإقصاء والنبذ المتعمد في بعض الفترات والظروف. ولا يمكن بأي حال من الأحوال جعل هذا التحليل مبررا لما يدور اليوم في العراق من تطهير مذهبي، أو ما يدور في لبنان من صراع طائفي، ولكن يجب إعطاء الاعتبار الملائم لهذا التاريخ من أجل فهم أفضل للواقع.
إن الطائفية بحد ذاتها ليست شأناً سياسياً محضاً، بل هي شأن ديني خالص. بيد أن توظيف الدين في السياسة وتوظيف السياسة في الدين قد أصاب المجالين بالضعف وعدم الفاعلية. واليوم أصبحت مفردة الطائفية بمثابة “المفسرة” لكل ما يدور في المنطقة من عنف واحتقان وتوتر، وليس ثمة شك بأن الذهنية السائدة اليوم في التعامل مع الأحداث هي الذهنية الطائفية، ولكن الفحص الدقيق سيوضح لنا بأن الطائفية ما هي إلا القشرة الخارجية لمطالب واستحقاقات سياسية واجتماعية واقتصادية ملحة. ولكن بما أن المنطقة العربية ما زالت تعاني من عدم القدرة على “التمييز” بين الشأن السياسي و الشأن الديني أو الأيديولوجي؛ بين تداول السلطة الذي يجب أن يكون مكفولاً لجميع القوى السياسية والاجتماعية بالتساوي، وبين احتكار مذهب أو أيديولوجية أو حزب للدولة بكل مكوناتها، فسيظل الصراع الطائفي الظاهر ليس إلا غطاءً لطموحات وأماني سياسية واجتماعية واقتصادية. لذلك فإن التحليل الديني “وحده” لن يساعد على إعطاء أجوبة ناجعة عن طبيعة وأهداف الصراع.
ولو نظرنا اليوم إلى الحلول الدينية المقترحة من المراجع والعلماء لتجاوز الصراع الدائر بين السنة والشيعة ماذا سنجد؟ لن نجد سوى أمرين. الأول، خطاب عام مكرر من قبيل “على كل طرف أن يحترم الآخر .. ويكف عن الطعن أو القدح ….”. أما الخطاب الثاني فهو بلا شك أكثر صدقاً وتأثيراً، ويمكن مشاهدة نتائجه على أرض الواقع، هذا الخطاب، وللأسف، هو الخطاب المتشدد الداعي إلى وصم الخصم المذهبي بأوصاف تؤجج الكره والعداء اللذان يقودان إلى العنف. وعند تأمل الخطاب المتشدد وتحليله، يشعر المرء بقدرته على التأثير في العقول والأفئدة بأريحية تامة، كما لو كان متمركزاً في اللاشعور، وما أن استثير حتى تقافز إلى حيز الشعور متوسداً موقعه الصحيح! ولن يجد الباحث عن صدى هذا الخطاب عناءاً في ملامسته، فالسنة في الخطاب الشيعي المتشدد هم “نواصب ظلمة”، وهذا الوصف يتسق مع المخيال الشيعي ومع ذاكرته التاريخية. أما الشيعة في الخطاب السني المتشدد فهم “رافضة مشركون.. يبغضون أهل السنة والجماعة”. والأتباع والعوام عند الطائفتين يتقبلون الخطاب المتشدد ولا يستوعبون الخطاب المعتدل، فلغة الخطاب المعتدل هي لغة مؤتمرات التقريب والحوار لا لغة الرأي العام السني أو الشيعي؛ لذلك تجد الرأي العام على حاله لا يستطيع أن يدمج تعاليم ومبادئ “الخطاب المعتدل” في سلوكه تجاه الخصم المذهبي. هذه الإشكالية تقودنا إلى نتيجة واحدة: وهي أن الخطاب المعتدل، بشقيه السني والشيعي، لم يستطع، وربما لن يستطع، من تجاوز مرارة الصراع المذهبي. وسيظل الخطاب المعتدل “المحافظ الرئيس” على الوضع القائم طالما تبنى الحل التكتيكي القائل بالتهدئة، على حساب الحل الاستراتيجي المتكون من شقين. الشق الأول هو تقرير مبدأ المشاركة السياسية والاجتماعية التعددية تحت إطار دستوري يكفل حقوق الجميع. والشق الثاني هو التعرض المنهجي النقدي للتراث الإسلامي فيما يتعلق بتاريخ الصراع الشيعي السني منذ البدايات بهدف توظيف مخرجات ذلك العمل النقدي في نظام تعليمي واجتماعي يحض على التعايش والإندماج تحت هُوية وطنية واحدة. ومن نافل القول، فإن “التعرض النقدي” للتراث سيقود بالضرورة المنطقية إلى فتح نوافذ شتى لن تقف عند حدود رغبتنا في حصر النقد على موضوع واحد، ولعل الخوف من “النوافذ الجديدة” على التراث والتاريخ الإسلامي ما يجعل من التجديد مخاطرة غير مأمونة العواقب!
وإذا نظرنا إلى ساحة الصحافة والإعلام العربي سنجد سعياً نحو إدانة وتعرية الممارسات الشيعية في العراق ولبنان بهدف تسجيل موقف أخلاقي لما تتعرض له هاتان الدولتان من تصعيد وعنف طائفي تجاه السنة. وثمة هدف آخر يكمن في تعضيد الجبهة السنية وتعبئتها ضد التحدي الشيعي الجديد الذي يواجه المنطقة. ولكن، علينا أن نحذر من تبني اللغة الطائفية وإعادة تغليفها بقالب جديد بحجة مشاركة العراق ولبنان في إنتاج الحلول والتعاطف والدعم المعنوي، في حين أن ما يتم هو توطين للغة الطائفية في العقول والأفئدة وإعادة فرز للعداوات القديمة بين المذهبين. وفي النهاية سيكون المتضرر الوحيد في هذا المسار الطائفي هو الجيل الشاب الذي سينشأ على هكذا لغة تكرس العداوات وتقود إلى مستقبل مظلم وتحجب الفهم الموضوعي لطبيعة الصراع. ويبقى التساؤل التالي مشروعاً وملحاً: كيف يتسنى للمتابع عند تحليله لمجريات الأحداث من “تسمية الأسماء بمسمياتها” دون الوقوع في براثن اللغة الطائفية المكرسة للصورة النمطية عن الآخر والمحفزة للكره والاقتتال؟
يجب أن لا يتعطل هدف تأسيس هوية وطنية جديدة بالأحداث السياسية الراهنة. بل على العكس من ذلك، قد يساعد تأسيس هوية وطنية جديدة تقوم على التعايش والتسامح والتعددية والعدالة على تجاوز الطائفية أو تهميشها إلى حدودها الدنيا. قد تتسم هكذا نظرة بالرومانسية وعدم الواقعية، فالحديث عن هوية وطنية جديدة بهذا الزخم قد أتى كرد فعلٍ لظرفٍ سياسي خارجي ابتداءاً، وبالتالي فإن ارتكاسه مرهون بالقانون ذاته! بيد أن الإنسياق وراء التخندق المذهبي ينسف كثيراً من المكتسبات الوطنية التي تشكلت وبدأت في الظهور بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (على مستوى الخطاب). فظهور الوعي بضرورة تأسيس هوية وطنية جديدة هو بحد ذاته مكسب وطني، والحديث الطائفي سيجهض من عزيمة ذلك الوعي، ويقود المجتمع إلى نقطة الصفر!
wael.abumansour@gmail.com
كاتب سعودي