يُقال إن إدارة ترامب ستُطلق “صفقة القرن“ بعد نهاية رمضان. ويُقال، أيضاً، إنها قد لا تفعل، فهذا يعتمد على تطوّر الأحداث في المنطقة. ولنلاحظ، بدايةً، أن ما كان معروفاً بعملية السلام، منذ مؤتمر مدريد، أصبح الآن “صفقة القرن“.
الانتقال من “العملية“ إلى “الصفقة“، ولنضع حكاية القرن جانباً، ليس مفارقة لغوية، بل سياسية، وأيديولوجية، وأخلاقية، في التحليل الأوّل والأخير. فعملية السلام (كائناً ما كانت) وصفقة القرن (كائناً ما كانت) لا تدّلان على الشيء نفسه. ولا يحتاج أحد إلى معرفة استثنائية لإدراك أن الفرق بين التسميتين يعني، في أكثر من جانب، الانتقال من منطق ولغة السياسة إلى منطق ولغة السوق.
وفي سياف كهذا، تناقلت منابر إعلامية مختلفة، يوم أمس، نقلاً عن منبر إسرائيلي، ما وصفته بنقاط في “الصفقة“. ولسنا، هنا، بصدد تفصيل ما جاء فيها بل الإشارة إلى أمرين:
أولاً، أن هذا النوع من التسريبات يندرج في باب بالونات الاختبار من ناحية، وفي محاولة التمهيد لأشياء يُراد لها أن تأتي لاحقاً من ناحية ثانية. لذا، فهي ليست دقيقة، ولا نهائية، تماماً، وإن كانت خطوطها العامة العريضة أقرب إلى الواقع، وغير مرشحة للتعديل.
ثانياً، الملاحظ في ما ورد من نقاط أن “الصفقة“ انقلاب على “العملية“، ومحاولة للعودة إلى ما قبل مؤتمر مدريد. كان شعار “العملية“: “الأرض مقابل السلام“ بمعنى أن العرب والفلسطينيين يحصلون على الأرض، وأن إسرائيل تحصل على السلام، وذلك استناداً إلى مرجعيات وقرارات ومبادرات دولية وعربية ذات صلة. ولا يهم، في هذا الشأن، ما إذا كانت المرجعيات، والقرارات، والمبادرات، محل خلاف.
أما “الصفقة“ فلا شيء فيها مقابل شيء آخر، ما عدا “وعد“ الفلسطينيين بإنشاء آلية دولية لإنهاء مسألة اللاجئين الفلسطينيين بتعويضات مالية، وإنشاء دولة محدودة السيادة على نصف الضفة الغربية، وغزة إذا قبلت حماس نزع سلاحها، وتمكين الفلسطينيين من “عاصمة“ في أبو ديس. بمعنى أن المرجعيات، والقرارات، والمبادرات، لم تعد ذات صلة، وأن مسألة الأرض نفسها لم تعد مطروحة للنقاش، وأن خيار حل الدولتين خرج من المعادلة.
ومعطوفاً على هذا كله تتجلى حقيقة أن “الصفقة“ تعود بالفلسطينيين إلى ما بعد العام 1948 عندما تعطّل دور “الهيئة العربية العليا“، ليجد الفلسطينيون أنفسهم بلا صفة سياسية، ولا قيادة تمثلهم. “الصفقة“ تجرّد منظمة التحرير (أو نخبة رام الله، كما جاء في الخطوط العريضة “للصفقة“) من الحق في تمثيل شعبها، لتُعيد البت في مصير الشعب الفلسطيني على طاولة المفاوضات مع دول عربية لا مع الفلسطينيين أنفسهم، وحتى إذا جاز في مرحلة لاحقة وجود فلسطينيين على الطاولة فينبغي اختيارهم من شخصيات تحظى بقبول الأطراف الرئيسة الأميركية، والعربية، والإسرائيلية، المعنية بترجمة الصفقة إلى حقيقة سياسية على الأرض.
والواقع أن في كل ما تقدّم ما يُحرّض على طرح أسئلة من نوع:
هل تملك صفقة كهذه فرصة حقيقية لا لتحقيق السلام، فهذا أمر بعيد المنال، بل لتحويل بنودها من تصوّرات على الورق إلى وقائع سياسية على الأرض؟ من المؤكد أن ثمة ممانعة فلسطينية، فهل سيتم تذليل العقبة الفلسطينية بالرشوة أم بالعنف؟ وفي الحالتين لا يصعب التنبؤ بصعوبة تطبيق حل يستعيض عما نقص فيه من شرط العدالة بما توفر لدى أصحابه من طاقة العنف، أو الرصيد في المصارف.
ومع هذا كله، وفوق هذا كله، يصعب التفكير في التكاليف المحتملة لنجاح “الصفقة“ أو فشلها (وهي مكلفة وباهظة الثمن في الحالتين) دون التفكير في حقيقة أنها لا تُطرح في ندوة أكاديمية بل في بيئة الشرق الأوسط التي يسكنها الأتراك والإيرانيون إلى جانب العرب والإسرائيليين بطبيعة الحال. ولدى كل هؤلاء أوراق فوق وتحت الطاولة، وبين هؤلاء عداوات وطموحات وأوهام يصعب التقليل من شأنها، ولا من قدرتها على إفساد أشياء كثيرة.
فكّر المحافظون الجدد باحتلال العراق كمدخل لإعادة هندسة الشرق الأوسط. فما كانت النتيجة؟ زلزال ضرب الشرق الأوسط، ولم تتوقف هزاته الارتدادية بعد. ومبرر هذا السؤال أن في “الصفقة“ بدلالتها الإقليمية الأوسع ما يتجاوز الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن فيها محاولة لهندسة الشرق الأوسط على أسس جديدة. وليس من السابق لأوانه القول إن هزّاتها الارتدادية لن تكون أقل كارثية من غزو العراق.
ولنفكر في التالي: لم يقبل اليمين الإسرائيلي كل مخرجات مؤتمر مدريد، وما تلاه من تفاعلات على الأرض وأبرز المرفوض منها العلاقات الفلسطينية ـ الأميركية، واتفاقات أوسلو. وبهذا المعنى: “الصفقة“ محاولة لشطب ثلاثة عقود من التحوّلات السياسية بضربة واحدة. فهل يمكن تحقيق أمر كهذا دون جراحات مؤلمة، وغير مضمونة النتائج.
أخيراً، لا بأس من العودة إلى باربرا توخمان في “مسيرة الحمقى“، تقول: “ثمة ظاهرة ملموسة على مدار التاريخ، بصرف النظر عن المكان أو الزمان، وتتمثل في اتباع السلطات الحاكمة لسياسات تناقض مصالحها. ويبدو أن بني الإنسان أقل كفاءة في ممارسة سلطة الحكم من أي نشاط إنساني آخر“.
والواقع أن “الصفقة“ تصلح مثلاً إضافياً يمكن لتوخمان، لو كانت على قيد الحياة اليوم، إضافته إلى كتاب بديع يرصد أخطاء وخطايا صنّاع الساسة من طروادة إلى فيتنام. والواقع، أيضاً، أن على العرب والإسرائيليين والأميركيين التفكير بجدية أكثر في سؤال من نوع: هل في “الصفقة“ ما يخدم المصالح الحقيقية لبلادهم؟
khaderhas1@hotmail.com