من يطالع بعناية الدستور الإسلامي الإيراني مثلاً أو كتب محمد باقر الصدر أو مؤلفات علي شريعتي، أو الكثير من أدبيات الإسلاميين الشيعة في إيران والعراق ولبنان، يرَى تأثير الفكر الشمولي والاقتصاد الموجّه والعداء للغرب وأشياء كثيرة أخرى في فكر يُفترض فيه أنه قائم على آيات القرآن ونصوص الحديث الشريف.
أثارت تطورات صدور الأحكام في قضية “خلية العبدلي” واختفاء المحكومين، الأجواء الطائفية في الكويت، كما أدت إلى توتر العلاقات الكويتية ـ الإيرانية إلى أقصى حد، إلى جانب استفسارات كثيرة حول مسار القضية وطرق حفظ الأمن في البلاد، وغير ذلك. ولا شك أن ما قامت به هذه المجموعة من شباب الوسط الشيعي الكويتي من ارتباط بحزب الله اللبناني وتخزين كميات كبيرة من أخطر الأسلحة والمتفجرات في مزرعة بالعبدلي شمالي الكويت، عمل إرهابي بالغ الخطورة على أمن البلاد، ولهذا صدرت أحكام الحبس ما بين 5 إلى 15 عاما، فضلاً عن حكم بالإعدام.
وكانت النيابة العامة قد وجهت في الأول من سبتمبر 2015 إلى عدد من المتهمين في القضية تهمة ارتكاب أفعال من شأنها المساس بوحدة وسلامة أراضي دولة الكويت، وتهمة السعي والتخابر مع جمهورية إيران الإسلامية ومع جماعة حزب الله التي تعمل لمصلحتها، للقيام بأعمال عدائية ضد الكويت، من خلال جلب وتجميع وحيازة وإحراز مفرقعات ومدافع رشاشة وأسلحة نارية وذخائر وأجهزة تنصت بغير ترخيص بقصد ارتكاب الجرائم بواسطتها. (كونا ـ القبس 20/7/2017)
وقد انتهى حكم محكمة التمييز الصادر في القضية 302/2016 إلى إدانة المتهمين، وصدرت بحقهم أحكام مختلفة، ثم حذرت وزارة الداخلية المواطنين والمقيمين من التستر عليهم بعد تواريهم عن الأنظار.
وكانت القضية قد انفجرت بعد فترة قصيرة من الحادث الإرهابي ضد مسجد الصادق، وما تسبب فيه من قتل وتدمير، على يد “داعش”، فأثار جواً من التعاطف مع الشيعة وتعززت مشاعر التقارب المذهبية والوحدة الوطنية، ثم سرعان ما أفسدته قضية خلية العبدلي!
والآن، وبعيداً عن الانفعال، وحرصاً على تطوير المشاعر وترشيد التفكير في العلاقات البالغة حداً مؤلماً من التوتر، نتساءل بحق: لماذا يقع بعض شباب الشيعة في مصائد التخريب للحرس الثوري الإيراني ومخططات حزب الله في إيران ولبنان، بهذه السهولة والتكرار، المرة بعد المرة منذ أربعين سنة تقريبا، أي منذ “الثورة الإسلامية” في إيران عام 1979؟
ما الذي يجعل الوسط الشيعي الكويتي بيئة مولدة لمثل هذه الجماعات ومتقبلة للكثير من أفكار وشعارات الجمهورية الإسلامية وولاية الفقيه وتحركات “حزب الله؟ ثمة في اعتقادي قضايا وأسباب وتفاصيل منها:
1- لا أحد تقريبا يوجه أي نقد علني صريح إلى السياسات والسلبيات الإيرانية. فالمتديّنون يرى معظمهم في هذه السياسات عين الصواب مهما خلقت من أزمات ومهما سببت من إحراجات للشيعة في الكويت والدول الخليجية والعربية، ومهما تصاعد الانتقاد ضدها في الإعلام.
فالمحامون الكويتيون الشيعة مثلاً يعرفون جيدا مخالفات السلطات في إيران لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن دستورها منحاز وأن السلطات القضائية فيها لا تلتزم بقواعد المحاكمة العادلة، وأنها تصدر أحكامها بالجلد والإعدام وغيرهما، دون التفات إلى حقوق المتهم، وأن ديّة المرأة الشيعية والسنّية وغيرها نصف دية الرجل وغير ذلك، ولكن لا أحد من هؤلاء المحامين والمحاميات في المجال الحقوقي الكويتي يرفع صوته أو صوتها بأي نقد أو ملاحظة وبأي توعية للشباب مثلاً!
وأستاذ الجامعة الكثير الانتقاد لغياب “الديمقراطية الكاملة” في الولايات المتحدة ودول الغرب، والكثير الملاحظات على “الثغرات السياسية” في مختلف الأنظمة العربية والإسلامية، والعارف بمستلزمات النظام السياسي الحديث، لا يرى بأسا في نظام ولاية الفقيه، والذي ينص دستوره على سلطات لا حد لها لمرشد الثورة، عددُها بموجب المادة 110 من الدستور 11 مادة منها: تعيين السياسات العامة، والقيادة العامة للقوات الملسحلة، وإعلان الحرب والسلام، وتنصيب وعزل وقبول استقالة صغار القضاة وكبارهم، واستقالة رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، واستقالة وبالطبع تعيين رئيس أركان الجيش والقائد العام لقوات حرس الثورة، وبقية القيادات، وتنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه، وحق عزله بعد سلسلة إجراءات… إلخ، وهكذا لا يكتب هؤلاء مقالاً واحداً أو ورقة بحثية أكاديمية حول الوضع، ولا يلقون محاضرة ولا يقومون حتى بتدريس هذا النظام في الجامعة، ومناقشة ما للنظام… وما عليه!
ويبدي رجال الدين ورجال الأعمال والبرلمانيون الشيعة وغيرهم نفس الإعجاب بكمال هذا النظام والإشادة به، فليس من المستغرب، بعد هذا كله، ألا يرى أحد من الشيعة الكويتيين أو الخليجيين أي مأخذ يستحق التعليق في إيران. ويسافر الشباب والعائلات إلى إيران يحملون مئات وآلاف الدنانير التي تساوي الملايين من العملة المتدهورة هناك على مدى أربعين عاما، فلا عجب أن يعيشوا هناك كالملوك، وأن ينفقوا في أسبوع ما لا تصرفه أو تحصل عليه الأسرة الإيرانية في أسابيع وأشهر وسنوات.
2- لا يتجنب الكثير من الشيعة أو أغلبهم نقد السياسات الإيرانية فحسب، بل يهاجمون من ينتقدها، ويبحثون عن دوافعه المشبوهة ومشاكله الشخصية والسياسية، ولا يحاول أحد منهم مقارنة تخلف إيران مثلاً بتطور تركيا وكوريا الجنوبية ودول آسيا وأوروبا التي لا تملك شيئا من بترول إيران! أو النظر إلى الأمور وأعباء العزلة الإيرانية من وجهة نظر الإنسان الإيراني الذي يعاني، في مطارات العالم وفي مجال الفيزا والسفر والإقامة، كل أنواع الشكوك والموانع، أو التساؤل البريء: لِمَ تورط إيران نفسها في كل هذه المشاكل حول العالم ومع دول بعيدة عنها كالأرجنتين أو دول إفريقيا! ولماذا تُزايد إيران على الفلسطينيين في “حب غزة والقدس”؟ ولماذا تخلق جيشاً موازياً للجيش اللبناني، بل أقوى منه وأكثر عدة وعتادا… داخل لبنان؟! ولماذا تنفق كل هذه الأموال على الصواريخ وتطوير الأسلحة الممنوعة… وغير ذلك؟
والأغرب من ذلك أن الشيعة عموماً وفي العالم العربي خاصة، وبعكس داخل إيران، لا يبدون أي استياء من تشويه هذه السياسات لصورتهم المذهبية، ولكل هذه العداوات والتهديدات المثارة ضدهم على صعيد النشر والإعلام والفضاء الإلكتروني! وكأنه من الطبيعي تماما أن تتعرض تجمعات الشيعة ومساجدهم ومحلاتهم وحافلاتهم للاعتداء والتفجير في دول كالعراق وسورية وأفغانستان وباكستان… كل أسبوع أو شهر!
3- لا أحد من القيادات أو الفعاليات الشيعية يشرح في الوسط الطلابي أو في المساجد أو الحسينيات خطورة الأعمال التخريبية من أمثال “خلية العبدلي” على المجتمع الكويتي وصورة ومصالح الشيعة ومخاطر تنامي الشكوك في عموم الطائفة، حيث سيدفع البريء أضعاف ثمن المذنب.
وتلعب التكتلات الشيعية الكويتية هنا كذلك دورا سلبيا، إذ لا تحاول إنضاج وعي الشباب وتطوير عقليتهم السياسية وتوسيع أفق تفكيرهم الاجتماعي وغير ذلك، بل تسعى هذه التكتلات والهيئات والتجمعات والقيادات إلى تشجيع التعصب والانتماء الطائفي والتخندق المذهبي الذي يهدد أول وأكثر ما يهدد مصالح هؤلاء الشباب في التوظيف والارتقاء المعيشي، والإخاء الوطني… وهكذا تتوالد في الوسط الطلابي والديني على الدوام المزيد من الشخصيات المزايدة مذهبيا، والمتطرفة طائفياً والتي سرعان ما تجد نفسها في خدمة أي فكرة تخريبية أو سياسة متشددة.
4- لا أحد كذلك يذكِّر شباب الشيعة أو يشرح لهم تطور الأحداث السياسية المؤلم في المجال الطائفي الكويتي والخليجي والعربي منذ عام 1979، وحوادث التفجير وخطف الطائرات ومحاولات التفجير في مكة التي أعدم إثرها العديد من أبناء العائلات الكويتية الشيعية… وهكذا فإن تخزين الأسلحة في العبدلي مجرد ورقة في ملف من الأحداث التي لا علاقة لها بمصالح الكويت وبمصالح الشيعة خاصة. والأخطر من هذا أن مثل هذه الأحداث المليئة بالعبر ودوافع التوعية تُشرَح للشباب شرحا طائفيا مشوها، وتُبرَّر بحجج سياسية واهية، ولا يقال للشباب إنها كلها كانت لخدمة سياسات إيرانية مؤقتة، ودورا في صراع إيراني مع هذه الدولة أو تلك، كما هو عليه الحال منذ أربعين سنة مضت… وربما أربعين سنة قادمة!
إن بعض تنظيمات التشيع السياسي في الكويت المرتبطة بالسياسات الإيرانية لا تزال تردد مثلا شعار “الموت لأميركا”، فهل مثل هذا الشعار الذي يخدم الصراع الإيراني ـ الأميركي، يخدم الشيعة خارج إيران؟ ألم تكن الولايات المتحدة الأميركية سبب عودة الشيعة والسنة إلى الكويت عام 1991؟ ألم تكن القوة الأميركية هي التي أسقطت النظام العراقي السابق عام 2003؟ ألا يدرس آلاف الطلبة والطالبات الشيعة في أميركا؟ ألا تقدم هذه الدولة كل ألوان المساعدة الغذائية والدوائية والمالية وغيرها للجوعى والمرضى المسلمين؟ ألا يستعين بالهيئات الأميركية كل المظلومين الشيعة والسنة؟ فلماذا يردد البعض شعار “الموت لأميركا” بهذا التقليد الأعمى؟
5- لا أثر لأي نقاش علمي عميق حول المصالح الوطنية للشيعة في الكويت خلال الحملات الانتخابية، كل ما هناك تكرار لبعض “شكاوى الحرمان” و”التمييز”، والتي لا يلوم أحد من الشيعة ونخبهم نفسه فيها بعض الشيء، ولا يجد المحامي ورجل الدين والأستاذ والإعلامي والإنسان المرتبط بهذه الجهة أو تلك طرفا فيها أو مسؤولا عنها.
لا تُثار مثل هذه النقاشات كذلك، وكما ذكرنا في أوساط النخبة والطلاب والديوانيات… ولهذا تتكرر الكوارث، إذ تبقى فرصة التلاعب بالمشاعر وخداع العامة بالنموذج المثالي مفتوحة، دون توعية أو تنوير… أو تحذير.
6- تعاني الطائفة الشيعية منذ عام 1971 أو أكثر قليلاً انقسامات حادة في عدة اتجاهات ولعدة أسباب، وبخاصة مع صعود المد الديني والتشيع السياسي، وبخاصة بعد نجاح الثورة الإيرانية؛ فالمؤمنون بهذه الثورة والمتحمسون لها طاردوا القيادات الاجتماعية والدينية الشيعية التقليدية والمسالمة للطائفة في الكويت، على صعيد المساجد والحسينيات والبرلمان والجمعيات والإعلام، ونسفوا قواعدها الانتخابية وقضوا على مفاتيحها الاجتماعية، لصالح القيادات الجديدة الملتزمة بفكرة الثورة الإيرانية والأحزاب الشيعية الحركية النابعة من مدن مثل “النجف” و”قم” في العراق وإيران، و”جبل عامل” و”سهل البقاع” في لبنان. وهكذا لم يكن البديل الفكري والمذهبي مستمداً من تجارب الشيعة في الكويت وقيمهم المذهبية والدينية المتوارثة، بل كان استيراداً لفكر شيعي صاغه بعض قادة الحركة المعارضة للشاه في مدينة “قم” أو المعارضة لحزب البعث في النجف وكربلاء، أو النابت في أجواء طائفية في جنوب لبنان وسهل البقاع. وفي معظم الأحوال كان هذا الفكر الشيعي الجديد الذي قامت عليه الحركة الدينية والمذهبية في إيران والعراق ولبنان متأثراً أشد التأثر بفكر الإخوان المسلمين وحزب التحرير ونشاطات الإسلاميين الإيرانيين والصراع مع الأحزاب الشيوعية في العراق وإيران ولبنان، حيث انتقل الكثير من جمهور هذه الأحزاب والمعجبين بها إلى الأحزاب الشيعية الوليدة.
ومن يطالع بعناية الدستور الإسلامي الإيراني مثلاً أو كتب محمد باقر الصدر أو مؤلفات علي شريعتي أو الكثير من أدبيات الإسلاميين الشيعة في إيران والعراق ولبنان يرَى تأثير الفكر الشمولي والاقتصاد الموجه والعداء للغرب وأشياء كثيرة أخرى في فكر يُفترض فيه أنه قائم على آيات القرآن ونصوص الحديث وغير ذلك. بل هناك من يتساءل عن مدى إسلامية أو شيعية مبدأ “الجمهورية” التي قامت عليه الدولة الجديدة بدلاً من “الإمامة” مثلاً، الإطار المقدس للشيعة في الحكم.
ونتيجة استيراد التجارب المذهبية من إيران والعراق ولبنان إلى الكويت، وعدم تطوير رؤى سياسة ومذهبية محلية قائمة على مصالح الشعب الكويتي والطائفة الشيعية في علاقاتها ضمن وطنها وبتأثير تجاربها وعلاقاتها، تتوالى على الطائفة منذ أربعين عاما حوادث التصادم بين المصلحة الوطنية والتوجهات المذهبية، وبين مسيرة الثقافة الدستورية الكويتية وتعليمات التشيع السياسي، وبين حصيلة التعليم العام والجامعي الكويتي والثقافة الدينية المذهبية.
ومن بعض نتائج عدم توافق هذه التوجهات تقع المشاكل التي نعانيها، وسيقع للأسف المزيد.
بقي الكثير مما يمكن الحديث عنه، نتركه لمقال قادم!