الكتابة عن الشيعة أو عن أية طائفة أخرى، خارج سياق بناء الوطن والدولة الحديثين هي جزء من كتابة التاريخ العثماني أو الإسلامي أو العربي. أما نحن فقد اخترنا أن نكتب عن التاريخ السياسي للبنان الحديث، أي منذ بداية تأسيسه عام 1920، ولهذا نتناول الشيعة وموقعهم في عملية بناء الوطن ودورهم في عملية الانتقال من نظام الملل العثماني إلى الدولة. مبررالكلام عن دورهم بالتحديد مزدوج : من جهة،لأن عقل المحاصصة، وهو عقل مشترك بين كل المحاصصين على اختلاف طوائفهم، سعى و لا يزال يسعى، إلى الحؤول دون الانصهار الوطني، فتحولت مهمة بناء الوطن إلى مهمة مؤجلة على الدوام، مع ما ترتب على ذلك من تناحر باسم الطوائف وحروب أهلية. هذا هو أحد أسباب الفشل الدائم في كتابة تاريخ وطني للبنان. ومن جهة ثانية، لأن الشيعة، في هذه المرحلة من تاريخ لبنان، هم الذين يحملون، في سباق البدل، الراية التي سبقتهم إلى حملها المارونية السياسية في بداية تكوين الدولة والوطن.
أوصى الشيخ محمد مهدي شمس الدين “أبناءه من الشيعة الإمامية، في كل وطن من أوطانهم… أن يدمجوا أنفسهم في مجتمعاتهم… لا أن يخترعوا لأنفسهم مشروعا خاصا يميزهم عن غيرهم…فالشيعة يحسنون ظروف حياتهم ومشاركتهم في مجتمعهم عن طريق اندماجهم في الاجتماع الوطني العام…”. وقد كان لهذه الوصية المنشورة عام 2002 ما يبررها في واقع الشيعة بعد مرور ثمانين عاما على بداية تكون لبنان الحديث.
من “مؤتمر الحجير” الذي بحث مسألة انضمام الجنوب إلى دولة لبنان الكبير، حتى خروج الوزراء الشيعة من الحكومة والاعتصام في “مخيم الداون تاون” انتفاضا على الدولة، ثلاثة أجيال. الجيل الأول لم يتردد بين الخيارين اللبناني والعربي، كما هو شائع، بل بين خيار الدخول في الدولة، دولة لبنان الكبير أو الدولة العربية، وخيار البقاء في عصر الولاية. أو أنهم ترددوا في اختيار التبعية، للبنان ومن ورائه فرنسا، أم للدولة العربية ووراءها الإنكليز. وكانت حسابات من اجتمعوا في وادي الحجير تستند إلى موازين القوى الاقليمة والدولية، من جهة، وإلى موقف شيعي تاريخي يناهض الدولة من الأساس، حديثة كانت أو غير حديثة. مع ذلك، ساعدت ظروف محلية ودولية على تغليب كفة الساعين إلى الدخول في دولة لبنان الكبير.
الشيعة الذين دخلوا، طوعا أو كرها، في نطاق الدولة، فرضوا أنفسهم عليها فقراء داخل حزام البؤس في ضاحيتي بيروت الجنوبية والشمالية، أو منتشرين في المهاجر، وانكبوا على تحصيل العلم، فكان منهم جيل ثان ولد في مرحلة النكبة والخيبة والحرمان، ما جعله يميل جهة اليسار ويفضل على الدولة اللبنانية دولة قومية أو أممية. ومع هذا الجيل أخذت تتكون بفعل الحرمان والاعتداءات الاسرائيلية وعجز السياسيين اللبنانيين قضية إسمها قضية الجنوب، حلت محل قضية الوطن أو كانت منافسة أو موازية لها، وشكلت مدخلا تسللت منه أزمات المنطقة كلها. ثم ما لبثت، مع انخراط الشيعة في المشروع الوطني، مشروع الدولة، أن تحولت إلى قضية لبنان الأولى.
من رحم هذه المرحلة نشأ جيل ثالث، ترعرع في أحضان أزمة اليسار القومي والدولي وأزمة النظام العالمي وتغذى من آثار النكبة والنكسة والهزائم العربية ومن انتصار الثورة الإيرانية، فشحن شعار “الإسلام هو الحل” بشحنة مذهبية وأضفى عليه طابعا إيرانيا خمينيا، مضيفا شعار ولاية الفقيه، إلى شعارات قديمة سبق اختبارها : الاشتراكية والوحدة العربية والوحدة السورية و الخلافة، الخ. بفعل أضافة هذا البعد إلى البعدين الاجتماعي والقومي، فقدت قضية الجنوب طابعها الوطني و تحولت إلى قضية “شيعية”، احتكرتها الشيعية السياسية وجعلتها ندا لقضية بناء الوطن والدولة وحولتها إلى مادة تحريض مذهبي.
ما طرح على الشيعة طرح على سواهم، في مرحلة الاستقلال الوطني: الدخول إلى الحضارة الحديثة من باب الدخول في الدولة الحديثة. ولم يكن هذا الخيار سهلا عليهم ولا على سواهم من الطوائف اللبنانية الخارجة لتوها من نظام الملل العثماني. المسيحيون وحدهم كانوا جازمين وحازمين في اختيار الخلاص من حكم السلطنة، في حين يرى مؤرخون من السنة أن شهداء لبنان وسوريا الذين علق مشانقهم جمال باشا كانوا يستحقون الشنق لأنهم تعاونوا مع الغرب ضد السلطنة.
على أساس هذا المعيار، اكتشف الشيعة، بعد قيام لبنان الكبير، أن الدولة قد تشكل حماية لهم ولسائر الأقليات الدينية من طغيان المذهب السني على دول المنطقة ومجتمعاتها. فاندمجوا في لبنان الكبير وباتوا أكثر المدافعين عن الكيان اللبناني المهدد بتعقيدات القضية الفلسطينية والصراع العربي الاسرائيلي. غير أن القوى السياسية اللبنانية كلها، غير المقتنعة بنهائية الكيان، والمرتبطة بمشاريع إقليمية ودولية، شجعت الشيعية السياسية على المطالبة بحصتها من كيان مبني على المحاصصة بين متنفذين ينتمون إلى كل الطوائف( يوسسف بك الزين والد النائب عبد اللطيف الزين أنشأ مشروع مياه الشفة من نبع الطاسة وعند قيام الدولة سلمه لوزارة الموارد المائية بينما راح السياسيون والموظفون الشيعة في المرحلة الأخيرة يتحاصصون إدارات الدولة ومواردها المالية). ما دفع بمسار الاندماج هذا إلى التقطع هو تحول لبنان من وطن إلى ساحة، وقد لعب الشيعة دورا غير محمود في عملية التحول هذه، فانحازوا إلى جانب الفلسطينيين ضد الدولة اللبنانية، ثم إلى جانب النظام السوري في صراعه مع الثورة الفلسطينية، وبلغ بهم العداء للثورة الفلسطينية حد الترحيب بالجيش الاسرائيلي إبان اجتياحه الأراضي اللبنانية ثم تدمير المخيمات الفلسطينية، وقبل أن يزلزلوا الأرض تحت أقدامه في مرحلة لاحقة، ثم انحازوا في المرحلة الأخيرة إلى المشروع الإيراني السوري ضد الوحدة الوطنية اللبنانية، وذلك إسوة بكل من انحاز، من اللبنانيين، إلى مشروع حلف بغداد أو المشروع القومي العربي أو الناصري أو المشروع الأممي أو مشروع الوطن القومي المسيحي أو مشروع الدولة الإسلامية، أو مشروع دولة الخلافة، الخ. الكل سواء في خيانة المشروع الوطني اللبناني، مشروع بناء الوطن والدولة.
النخب الشيعية خرجت إلى الوطن من عائلات دينية وعائلات سياسية عريقة في تاريخها السياسي والثقافي. الرئيس عادل عسيران تخرج من الجامعة الأميركية في الثلاثينيات من القرن الماضي، ومن تلك البيوت الدينية والسياسية ذاتها تخرج أوائل الجامعيين وفي مرحلة لاحقة أوائل اليساريين. النجف كانت تخرج مشايخ مثقفين ثقافة دينية عالية والجامعات خرجت أبناء المراجع الدينية (الشاعر عبد المطلب الأمين إبن العلامة محسن الأمين تخرج من كلية الحقوق عام 1939 وتولى وظيفة قائم بالاعمال في سفارة سوريا في موسكو عام 1947 وانتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني، وأخوه هاشم كان عضوا في مكتبه السياسي). ربما كان ذلك دافعا لفورة علمية واسعة النطاق رعتها الدولة اللبنانية بتعميم التعليم الرسمي، فلم يعد يخلو بيت جنوبي من خريج جامعة، وبات المناخ الغالب هو المناخ العلماني. كان ذلك أحد إنجازات قيام الدولة وانخراط الجنوبيين فيها. ومن المؤسف أن هذه الفورة العلمية والعلمانية قد تراجعت مع الجيل الثالث، ليطغى بديلا عنها مناخ من التعصب الطائفي والمذهبي وثقافة الطقوس الشكلية، وتراجع دور المرجعيات الدينية لصالح من تخرجوا من الحوزات الدينية بمستويات ثقافية متدنية تذكر بحال الأزهر يوم دخول الفرنسيين أو بحال الأديرة في أوروبا في القرون الوسطى، وانهار مستوى التعليم الرسمي والخاص، وتشوه دور الجامعة اللبنانية لاسيما حيث تسيطر الشيعية السياسية في الإدارة أو في الجسم الطلابي. وبعد أن كان الجنوب يخرج من كل بيت شاعرا أو أديبا أو واحدا من أهل القلم ومن أهل العلم والثقافة، راحت تنمو من جديد ظاهرة الأمية.
أما التراجع المرعب فقد تجسد على الصعيد السياسي بصعود نخب جديدة متحدرة من ثقافة “التشبيح” الميليشيوي، أي ثقافة تدمير الدولة، وتدمير معايير الكفاءة وتكافؤ الفرص، واستبدلت هذه القيم بقيم التزلف والاستزلام الرخيص مع ما يعنيه ذلك من تدمير لسلم القيم الأخلاقية والاجتماعية والثقافية. (“المفتاح الانتخابي” في القرية أو المنطقة، وهو الصف الثاني من السياسيين، كان يتحدر من بيوت الوجهاء المحليين، وكان يدفع من ماله من أجل الزعيم). مع الجيل الثالث عادت السلطة كما كانت ما قبل قيام الحضارة الحديثة، على ما يقول المفكر سمير أمين: ما قبل الحضارة الحديثة السلطة هي السبيل إلى الثروة أما في الراسمالية فالثروة هي الطريق إلى السلطة. مع الجيل الثالث، جيل الشيعية السياسية تضاعف عدد الأثرياء ممن تحاصصوا المال العام، و تقلص عدد رجال الدولة وأثرى سياسيو الصف الثاني من المفاتيح الانتخابية والوجهاء الجدد. إنه عصر التشبيح على الدولة.
مع الجيل الأول كانت تغلب على الجنوب صورة الفقر والحرمان وزراعة التبغ والهجرة القسرية إلى حزام البؤس. مع الجيل الثاني غلبت النهضة العلمية والثقافية وبدايات البحبوحة المالية من بلاد الاغتراب، ومع الجيل الثالث أخذت تبرز طبقة من حديثي النعمة ثم أعداد كبيرة من خريجي الجامعات الأميين تحولوا إلى جيش من العاطلين عن العمل. وبعد أن كان عدد البيوت الدينية محدودا مع الجيل الأول، آل الأمين وشرف الدين وابراهيم ومغنية وسواهم، نبتت كالفطر ظاهرة المعممين من خيرجي الحوزات الدينية وقراء العزاء وتعممت ثقافة التكفير والتحريم و مكبرات الصوت والحد من الحريات، فتبدلت عادات وانهارت قيم ودمرت تقاليد، ولم يبق من جنوب الستينيات، جنوب الجيل الثاني، لا التسامح ولا التنوع السياسي والديني والثقافي، فصفيت، خلال الحرب الأهلية أو الاحتلال الاسرائيلي، بؤر قليلة من غير الشيعة أو ضيق عليها وحوصرت وكثر الكلام عن جنوب شيعي وقضية شيعية وشعب شيعي، وعن بيئات طائفية ومذهبية، وعن غلبة واستئثار وخوف من طفرة ديموغرافية، وما إلى ذلك من عوامل التخويف والتفرقة والتفتيت والشرذمة. مأثرة كبرى تنسب إلى الشيعة والجنوبيين في صورة أساسية هي الانجاز التاريخي المتمثل بتحرير التراب الوطني اللبناني من الاحتلال، غير أن الشيعية السياسية وظفت هذا الانجاز في غير مصلحة الوحدة الوطنية اللبنانية.إنها تحولات جذرية، لا نحكم لها أو عليها، لكننا نقيسها بمؤداها السياسي وبمدى ما أثرت سلبا أو أيجابا على الوحدة الوطنية اللبنانية وعلى عملية بناء الوطن والدولة. فقد أفضت هذه التحولات الجذرية إلى تحول الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت إلى نوع من الغيتو الطائفي الخارج عن سلطة الدولة وقوانينها.
علاقات تاريخية، اقتصادية وثقافية جمعت الجنوب اللبناني مع فلسطين، وتحملت قرى منه عبء النكبة وتحمل كله عبء القضية الفلسطينية بعد النكسة وقيام الثورة الفلسطينية. غير أن حسابات السياسة تختلف عن حسابات التاريخ والجغرافيا والثقافة والاقتصاد. والفارق الأساسي المستجد هو وجود الدولة، إذ إن لبنان صار دولة في اللحظات ذاتها التي كانت تغتصب فيها الأرض الفلسطينية والتي كانت تنشأ فيها دول عربية مستقلة عن السلطنة.
علاقات الجنوب ذي الغلبة الشيعية بالقضية الفلسطينية كانت محل تجاذب كبير، دخلت على خط التأثير فيه عوامل محلية وإقليمية ودولية. بلغ التجاذب أشده مع الجيل الشيعي الثاني الذي التزم يساريوه وقوميوه القضية الفلسطينية، ووظفوا ثورتها في الحرب الأهلية بين اللبنانيين، بينما راح فريق من هذا الجيل ينتصر للنهج السوري في مواجهة الثورة الفلسطينية، وكانت محصلة هذا التجاذب أن الشيعة تدربوا على أيدي المقاومة الفلسطينية وتعلموا منها حمل السلاح، إلى ان حملوه ضدها بقسوة وضد إسرائل ببطولة وبسالة وضد الدولة اللبنانية بغباء الشيعية السياسية التي لم تتعلم من الجيل الأول أن مشروع الدولة هو الضمانة الوحيدة لكل الأقليات.\
في المرحلة الأخيرة تحولت القضية الفلسطينية إلى مطية، وصارت الشيعية السياسية جزءا من المشروع الاستبدادي المهيمن في العالمين العربي والاسلامي، المشروع الذي يعتمد نظرية المؤامرة ليتنصل من مسؤوليته عن الهزائم والخيبات والنكبات والتخلف السياسي والثقافي والاقتصادي، الخ. محملا “العدو الصهيوني” مسؤولية المؤامرات على بلدان العالم العربي وشعوبه، (وهذا، بلا شك، من طبيعة المشروع الصهيوني وأصله وفصله). غير أن الصراع العربي الاسرائيلي(لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) تحول إلى ذريعة للتغطية على كل أنواع الفساد الداخلي وخصوصا للتغطية على تهديم بنية الدولة، إما بتعطيل مؤسساتها أو استبدالها بمؤسسات موازية أو بإلغاء دور القضاء وتشويه دور الجامعة اللبنانية، أو بتعميم ثقافة الاستخفاف بالقانون العام وبالمال العام وبكل ما هو مشترك للشعب اللبناني وللوطن والدولة. ومن المؤسف أن الشيعية السياسية لم تتعلم من تجربة اليسار التقدمي والقومي ولا من تجربة المارونية السياسية أن الحماية المؤكدة لكل الأقليات اللبنانية (لبنان هو مجموعة أقليات) لا تأتيها من الخارج، وأن استدراج الخارج والاستقواء به في الصراعات الداخلية لا يفضي إلا إلى مزيد من الانقسامات والحروب الأهلية، وأن التضحية في سبيل “حلفاء” الخارج ومشاريعهم هي تضحية مجانية أقرب إلى الانتحار. الشيعية السياسية اليوم وصلت إلى ذروة مغامرتها في تقطيع أوصال الدولة وهي تمني النفس في أن يكون مشروع “ولاية الفقيه” أملها في بلوغ مغامرتها نهاية سعيدة.
لبنان اليوم يأمل أن يأتي الجيل الشيعي الرابع لينقذ الشيعة ويساهم في تنفيذ وصية الإمام محمد مهدي شمس الدين الداعية إلى أن ينصهر الشيعة اللبنانيون بشعبهم ويجسدوا الوحدة الوطنية في أجلى معانيها ويتحصنوا ضد محاولات جعلهم، مع سواهم من الطوائف، أحصنة طروادة لمشاريع القوى الخارجية الصديقة أو العدوة، القريبة والبعيدة، وينهضوا معا في بناء لبنان، وطنهم النهائي، وفي بناء دولته، دولة القانون والمؤسسات والعدالة والكفاءة وتكافؤ الفرص والحريات والديمقراطية.
moukaled47@hotmail.com
• جامعي لبناني
الشيعة: من ولاية السلطان إلى ولاية الفقيه
فواد — furiz08@gmail.com
الشيعة: من ولاية السلطان إلى ولاية الفقيه
يسلم قلمك. كلماتك من دهب واغلى من الدهب.