أنقرة، “الشفاف” خزامى عصمت
الإنفتاح على الآخر والتحاور والتشاور والدبلوماسية الهادئة عناوين حقبة إدارة أوباما التي يطرب لها فؤاد العرب والعجم في بلاد المشرق العربي. إنها عناوين تبدو جديدة لكنها ليست كذلك، فالعارفون في السياسة الأميركية والمباديء التي نشأت عليها أميركا يرددون دائماً هذه المصطلحات ويزيدون عليها”دولة القانون” و”الحريات” و”الديمقراطية” و”حقوق الإنسان” و”إقتصاد السوق المفتوح ” و”المساواة” و”العدالة” إلى آخر ما سمعه أبناء المنطقة من مباديء ومصطلحات جميلة- لكن حقبتي إدارة بوش يبدو أنها كانت كافية لتقلب حتى عشاق أميركا إلى مستائين إن لم نقل أعداء لكل ما جاء من خلف المحيط !
الأيام الأوائل من ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما وفي الثمانية وأربعين ساعة الأولى كان قرار تعيين الدبلوماسي الهاديء جورج ميتشل لمنصب المبعوث الخاص للرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط أول بوادر الخطوط العريضة للسياسة الأميركية التي أراد لها أوباما أن تعود إلى أسسها التي عهدها محبو أميركا. وكانت جولات ميتشل مبعث أمل حقيقي في نفوس الشرق أوسطيين المتطلعين للسلام في منطقتهم التي تعرف أن السلام هو حالة الأمل المنشود ولكن صعب التحقيق.
ميتشل في أنقرة يرسم ملامح واضحة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط
إتبع الموفد الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط جورج ميتشيل في جولته الثانية إلى المنطقة التي إستهلها بزيارة تركيا نصائح إدارته الجديدة فإستمع إلى القيادة التركية كما إستمعت هي إليه. وأكد على عناوين ثلاثة ” الصداقة” و” الشراكة” و” التحالف” التي تحمل العلاقات التركية- الأميركية في عهد إدارة أوباما إلى مرحلة جديدة من التعاون والتفاهم في العديد من ملفات المنطقة الشائكة خصوصاً بعد سماع الضيف الأميركي تأكيدات مباشرة من الأتراك على قيم ومثل مشتركة تربط أنقرة بواشنطن مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات وسيادة القانون وإقتصاد السوق المفتوح والإهتمام المشترك بتحقيق السلام العالمي.
ميتشل إطلع على وجهة النظر التركية في مجمل القضايا والأزمات القائمة في المنطقة الممتدة من حدود الصين شرقاً إلى طنجة في أقاصي الغرب، فبادر ميتشيل لطلب دعم الرئيس عبد الله غول وأقر بحاجة واشنطن لتبادل الآراء مع أنقرة لإحلال السلام الشامل في الشرق الأوسط. الرئيس غول أكد إستعداد تركيا لبذل الجهود لإنجاح رغبة التعاون المشترك في جميع الملفات التي تندرج في برنامج السياسة الخارجية لأنقرة وواشنطن.
هذا ما صرح به وزير الخارجية التركي علي باباجان، وقال إن أنقرة مستعدة لمناقشة أي طلب يمكن أن يأتي من الولايات المتحدة والتحدث بصراحة وشفافية.
باباجان الذي كان يتحدث في مؤتمر بإسطنبول لمجلس الأعمال التركي- الأميركي، قال إن الإدارة الأميركية الجديدة تحترم القيادة التركية ونفوذ تركيا في المنطقة وبأن البلدين يتطلعان للعمل معاً. وقال أيضاً لدينا جدول أعمال مشترك واسع النطاق في مجال السياسة الخارجية، مشيراً إلى أن قائمة القضايا العشر الأساسية للسياسة الخارجية للبلدين تكاد تكون متطابقة مع بعضها. وسمى باباجان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، البلقان، القوقاز، آسيا الوسطى وأفغانستان وباكستان، مؤكداً أن تركيا تربطها علاقات قوية مع المنطقة الممتدة من المغرب إلى بنغلاديش، قائلاً إن معظم مشاكل العالم متمركزة في هذه المناطق، وتتحول في بعض الأحيان إلى مواجهات ساخنة. وأوضح أن تركيا ستحقق مع الولايات المتحدة نتائج جيدة في المنطقة، مشيراً إلى أن أنقرة تشجعت بوجهات نظر الرئيس باراك أوباما المتعلقة بسياسة الولايات المتحدة الخارجية- التي إختصرت بـ” الإستماع” و” التشاور” و”وطلب المشورة” و”العمل بشكل وثيق مع الحلفاء.
تحالف تركي- أميركي من أجل السلام العالمي
أكد ميتشيل أن تركيا حليف مهم للولايات المتحدة وقوة مهمة للسلام والأمن في الشرق الأوسط ويمكنها أن تلعب دوراً “فريداً” لكونها دولة ديمقراطية مهمة لها علاقات قوية مع إسرائيل وبأن الشراكة التركية- الإسرائيلية المتينة قد تساهم مساهمة حقيقية في التوصل إلى تسوية شاملة وعادلة لنزاع الشرق الأوسط.
الإدارة الأميركية التي إبتعدت عن أي حديث بخصوص أزمة دافوس- لعلمها بأن العلاقات التركية- الإسرائيلية أكثر قوة ومتانة من أن تتأثر بهكذا حدث عرضي، دعت أنقرة لتسخيرعلاقاتها المتشعبة مع إسرائيل في إيجاد حلول لمعضلة الشرق الأوسط وأكدت رغبتها في العمل المشترك مع تركيا لإحلال السلام العالمي. وحصل ميتشل في هذا الإطار من أنقرة على وعود ببذل الجهود لإنجاح تطلعات الرئيس الأميركي أوباما الرامية إلى إستئناف الوساطة التركية بين سوريا وإسرائيل وإقناع حركة حماس بالإعتراف بكافة الإتفاقات المبرمة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية- إلا أنها جددت موقفها الداعي إلى إيجاد حل لقضية الشرق الأوسط تكون حركة حماس جزءاً منه – بالرغم من ملاحظات تركيا بشأن حماس، وحذرت من أن أي حل يستبعد حماس مهمة مستحيلة ولن يكتب له النجاح في تحقيق السلام.
ونقلت أوساط مقربة من رئيس الوزراء آردوغان قوله إذا كانت إسرائيل ترفض الإعتراف بدولة فلسطين فكيف يمكننا إقناع الفلسطينيين بالإعتراف بدولة إسرائيل.
وأبلغ رئيس الوزراء التركي رجب طيب آردوغان ضيفه الزائر أن تركيا بذلت جهوداً منذ فوز حزب الإصلاح والتغيير( حماس) في الإنتخابات الفلسطينية عام 2006 من أجل تشجيعها على الإنخراط في العمل السياسي والمساهمة في تحقيق السلام العادل وبدأت بالفعل تظهر إشارات إيجابية من حكومة حماس- لكن التطورات التي أعقبت ذلك لم تكن في الإتجاه الذي سعت إليه تركيا. وقال إن تركيا طلبت من حماس الإعتراف بالإتفاقيات الموقعة بين إسرائيل والفلسطينيين، وأكدت على ثبات السياسة الخارجية لتركيا الداعمة لحل الدولتين. وأكد آردوغان أن الجهود التي تبذلها بلاده في منطقة الشرق الأوسط تنبع في الأساس من المنظور الإنساني، مشيراً إلى أن هناك 50 ألف عائلة من أهالي غزة يعيشون الآن في المخيمات لاجئين طالباً من ميتشيل تقديم المساعدة لهم.
لكن مصادر دبلوماسية نقلت عن مسؤولين أتراك قولهم لميتشيل إنه يتعين على الولايات المتحدة أن تتخلى عن دعم إسرائيل، وإتباع دبلوماسية متوازنة في الشرق الأوسط بعيدة عن نهج جورج دبليو بوش. ووفق المصادر نفسها فقد رأى المسؤولون الأتراك أن مشاركة الولايات المتحدة في حل الصراعات الأخرى في الشرق الأوسط إلى جانب الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي سيسهم في حل هذه القضية ويشجع على مواصلة إجراء محادثات مباشرة بين سوريا وإسرائيل.
تركيا شريك في سياسة الدبلوماسية الهادئة أم منافس غير مرغوب فيه
الكثير من الخطوات التي خطتها تركيا في سياساتها الخارجية كانت تتعارض مع توجهات إدارة بوش وكانت سبباً للخلافات مع أميركا، وأكبر مثال على ذلك رفض البرلمان التركي في الأول من مارس/ آذار 2003 المصادقة على طلب توجهت به حكومة آردوغان للحصول على الموافقة بمشاركة قوات من الجيش التركي في التحالف الدولي إلى جانب الولايات المتحدة لغزو العراق، والمثال الثاني كان سياسة تركيا في كسر العزلة التي فرضتها أميركا على الجارة سوريا.
فسياسة أميركا مع سوريا كانت تعتمد على الضغط وفرض العزلة، أما سياسة تركيا فكانت على النقيض تماماً، حيث وقعت معاهدات وإتفاقيات مع سوريا في مجالات الأمن والإقتصاد والتجارة والتعاون والتشاور السياسي وصلت بالعلاقة إلى حدود التعاون شبه الإستراتيجي.
هذا الموضوع فتح أبواب المشاكل بين تركيا وأميركا في ولاية جورج بوش، وحالياً يبدو أن أميركا أوباما بدأت تنظر إلى هذه العلاقة من منظار مختلف هو أقرب إلى المنظور التركي الذي يعتمد على حل الأزمات بهدوء بدلاً عن تأزيم الأمور وبالتالي قطع الطريق على إحتمالات الحل. وهذا التوافق في الرؤى لا بد أنه سيخلق تقارباً بين تركيا آردوغان وأميركا أوباما، على العكس مما كان مع أميركا بوش.
ففي عهد بوش لم تستعمل أميركا السياسة اللينة مع دول المنطقة أبداً، إستعملت قوتها العسكرية فقط، فتولد في المنطقة فراغ ملأته تركيا بإستخدامها للأسلوب اللين، فبنت علاقات إقتصادية كانت الأساس المتين لإنطلاقة النفوذ التركي في المنطقة ولعبت دور الوسيط بين المتنازعين فكانت القوة الإقليمية المقبولة والموثوقة، والآن تنوي أميركا أوباما إنتهاج الأسلوب التركي الهاديء والمرن مع دول المنطقة.
ولهذا التوجه الأميركي الجديد سيكون له إحتمال إنعكاسين على تركيا: الأول، ألا تجد تركيا الفرصة لتلعب الدور الذي كانت تلعبه بإستخدامها للسياسة المرنة بعد الآن، فيمكن لأميركا أن تقول: أنا سألعب هذا الدور، وبالتالي تستبعد تركيا من الساحة وهذا الإحتمال ثبت من خلال زيارة جورج ميتشل أنه مستبعد تماماً، والإحتمال الثاني هو إختيار أوباما تركيا لتكون الشريك والرديف للسياسة الأميركية المنفتحة على الجميع وطلب التعاون مع تركيا والإستفادة من العلاقات التي أسستها في المنطقة في هذه الفترة والنجاح الذي حققته، وبالأخص التأثير الذي يمكن لها أن تحققه في ملفات تؤرق واشنطن في سوريا وإيران وفلسطين ولبنان وإسرائيل وآسيا الوسطى والقوقاز.
وهذا ما أكده المبعوث الأميركي للشرق الأوسط جورج ميتشل الذي كان أحد أبرز مهندسي إتفاق السلام في إيرلندا الشمالية قائلاً إن تركيا ستحقق مع الولايات المتحدة نتائج جيدة في المنطقة، معلناً رغبة وزيرة الخارجية الأميركية زيارة أنقرة الشهر المقبل لتحقيق تطلعات الرئيس باراك أوباما المتعلقة بسياسة الولايات المتحدة الخارجية- التي إختصرها ب” الإستماع” و” التشاور” و” وطلب المشورة” و” العمل بشكل وثيق مع الحلفاء- حيث لدى الدولتين جدول أعمال مشترك واسع النطاق في مجال السياسة الخارجية، فقائمة القضايا العشر الأساسية للسياسة الخارجية للبلدين تكاد تكون متطابقة مع بعضها- طبقاً لما ذكره وزير الخارجية التركي علي باباجان.
khouzama1@gmail.com