سيفرغ المسؤولون السودانيون بعد أسبوع أو أكثر من مخاطبة المسيرات، وترديد عبارات شجب وادانة قرار قضاة المحكمة الجنائية الدولية، ليواجهوا السؤال الجوهري: ترى، ثم ماذا بعد؟
هل هناك أفق لحلّ قضية يبدو جليا أنها آخذة في التعقيد أكثر فأكثر، خاصة أن الخرطوم بعثت برسائل متناقضة قبل وبعد صدور مذكرة التوقيف؟
في مقابل خطاب يتسم بالعقلانية من قبل علي عثمان طه، نائب الرئيس السوداني، أكد فيه تمسك حكومته باتفاقيات السلام الموقعة في الجنوب ودارفور وشرق السودان، وتلويحه بالحزم في مواجهة أيّ تفلتات، طردت الخرطوم 13 منظمة إنسانية غير حكومية من إقليم دارفور، في خطوة أثارت استياءا واسعا في أوساط منظمات حقوق الإنسان، كما خلّفت قلقا عميقا لدى الأمم المتحدة، التي ربما تعتبر – لاحقا – هذا الأمر بمثابة “جريمة حرب”!!
ومع تهديدات بـ”تقطيع أوصال من يؤيدون المحكمة”، عمدت جوقة المسؤولين الحكوميين إلى شن هجوم يفتقر إلى أبسط درجات الإلمام بطبيعة عمل المحكمة الدولية، حيث ركزوا على “شخص” المدعي العام، لويس مورينو أوكامبو، وكأن الأمر يتعلق بثأر بين الطرفين، في حين أن أوكامبو مجرد موظف في المحكمة، يمكن أن يستقيل أو يقال ليجد السودانيون أنفسهم في مواجهة مدعٍ آخر !!
هذا الخطاب، وإن استدعاه الوضع الداخلي، ومحاولة الخرطوم لحشد التأييد، إلا أنه يقف على ساق واحدة في ما يتعلق بالجوانب القانونية بل وحتى الدبلوماسية في القضية!!
الحكومة السودانية لم تثر كلّ هذه الضجة حين أحال مجلس الأمن الدولي الحالة في دارفور إلى محكمة لاهاي.لا، بل غضت الحكومة الطرف عن إجراءات سبقت قرار مجلس الأمن.
فبعد عامين على اندلاع الحرب في دارفور، شكّل مجلس الأمن، في سبتمبر 2004، لجنة تحقيق في شأن احتمالات بإرتكاب جرائم في دارفور.هذه اللجنة زارت السودان، والتقت مسؤولين حكوميين، وجابت أنحاء دارفور، وجمعت معلومات من هناك، ثم قدمت تقريرها بعد 5 أشهر.
تقرير اللجنة جاء فيه أن الحكومة السودانية لم تنفذ سياسة الابادة الجماعية، لكنها مسؤولة هي وميليشا الجنجويد عن انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان.وجاء فيه أيضا أن أشخاصا من ضمنهم مسؤولون حكوميون أرتكبوا أعمالا هدفت إلى الإبادة الجماعية.
وربما تجدر الإشارة هنا إلى أن قضاة المحكمة أسقطوا تهمة الابادة الجماعية عن الرئيس السوداني، حيث لم تتوفر لديهم أدلة كافية، شأنهم شأن اللجنة الدولية !!
وأحال مجلس الأمن في مارس 2005، القضية إلى المدعي العام للجنائية الدولية.وبالفعل تسلمت المحكمة، في مايو 2005، تقرير لجنة التحقيق الدولية.
وبعد تحقيقات استمرت نحو عامين،أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى، في الجنائية الدولية في مايو 2007، أمرًا باعتقال وزير الدولة السوداني للشؤون الإنسانية، أحمد محمد هارون،الذي كان تولى سابقا منصب وزير الدولة في وزارة الداخلية، كما أصدرت أمرا باعتقال على كوشيب، الذي نعتته بقائد مليشيا الجنجويد.
ولم تشرع الحكومة السودانية في الممانعة الفعلية والانتباه لخطورة القضية إلا بعد صدور مذكرتي توقيف بحق هارون وكوشيب !!
الأدهى من ذلك، أن الحكومة السودانية، وطوال 6 سنوات، هي عمر الصراع في دارفور، لم تلتفت بالجدية الكافية إلى ضرورة تطبيق ولو الحد الأدنى من العدالة في دارفور، ولم تحاكم حتى قادة محليين بارزين في دارفور، أو ضباطا من الرتب الوسيطة في الجيش والشرطة والأمن، ولم تتعامل بجدية مع التقرير الذي قدمته لجنة وطنية للتحقيق، برئاسة قاضٍ سابق، هو دفع الله الحاج يوسف !!
لم تعلن الحكومة عن اعتقال كوشيب إلا بعد صدور مذكرة توقيف بحقه، ولم تعلن عن مقاضاة ضباط في الشرطة والأمن إلا قبيل صدور مذكرة أخرى بحق الرئيس !!
هذه الأخطاء كلّها ترافقت مع اصرار غريب على تجاهل الدعوات المتكررة إلى عقد مؤتمر سوداني يجمع أطراف الطيف السياسية من أجل وضع حد للأزمات السودانية كلّها، ويفتح الباب أمام تحول ديمقراطي حقيقي، ومحاسبة شفافة على الجرائم والفساد من خلال آليات “العدالة الإنتقالية”!!
الخرطوم كانت تراهن على عامل الوقت، وعلى التلويح بالعصا والجزرة أمام ناظري الحركات المسلحة في دارفور، والتفاوض معها بشكل غير جماعي، إضافة إلى التقليل من شأن المحكمة الجنائية الدولية بوصف السودان دولة غير موقعة !!
انتقلت الحكومة السودانية إلى مربع آخر بشتم المحكمة واعتبارها ذيلا استعماريا وأداة في يد “الصهيوينة”، بعد أشهر من الكلام الكثير عن أن الخرطوم غير معنية لا من قريب ولا من بعيد بتحقيقات أوكامبو.لكن، حتى هذا الموقف الجديد، لم تثبت عليه، إذ برز إلى السطح موقف جديد يتمثل في التوجه إلى مجلس الأمن من أجل تأجيل القرار مدة عام، بالتزامن مع التلويح أن قرار كهذا سيقوّض جهود السلام في دارفور !!
إذن، هو اعتراف ضمني بالمحكمة، وإلا فلماذا السعي لتأجيل القرار؟
غير أن هذه المساعي اصطدمت وستصطدم بجدار صلب من ممانعة دول تملك حق النقض داخل مجلس الأمن، وهي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.ولن يتمكن الأفارقة والعرب، حتى لو كانت معهم بكين وموسكو من فعل شيء داخل المجلس إلا في إطار تنازلات كبيرة تقدمها الحكومة السودانية، ربما تشمل تنحية البشير عبر طريقة سلسة هي إجراء انتخابات “نزيهة” تحت مراقبة الأمم المتحدة، شرط ألا يترشح البشير، وقد تتضمن “صفقة التنازلات” أيضا تسليم أحمد هارون وعلي كوشيب المطلوبين في لاهاي، على أن تجري اصلاحات جوهرية في الحكم في الخرطوم !!
وليس أمام الخرطوم، إن رفضت مثل هذه التسويات، التي ربما تتجه إلى الداخل أيضا من خلال لقاء أو مؤتمر لكل القوى السياسية، يضمن “تركيبة حكومية جديدة”، وإجراءات عدلية غير “آليات العدالة الانتقالية”، أو “لجان للحقيقة والمصالحة”، وإجراء تحقيق وطني محايد وشفاف، وتعويض الضحايا في دارفور، ومحاكمة من يثبت تورطهم بارتكاب جرائم في دارفور، بواسطة هيئة قضائية خاصة تتألف من قضاة مستقلين ، ليس أمام الخرطوم إلا مواجهة أسوأ القرارات من مجلس الأمن.
ويبدو أن الخرطوم بدأت تتجهز لهذا الاحتمال بـ”التلويح بالقماش أمام الثور الهائج” من خلال طرد منظمات إنسانية من دارفور، الأمر الذي سيزيد من وطأة المأساة الإنسانية هناك.وهو قرار، بطبيعة الحال، غير مدروس، ويمكن وصفه بـ”الغباء” في هذا الوقت.
khalidowais@hotmail.com
* كاتب سوداني
السودان.. ما المخرج؟الكل يعلم ان الصهاينة يريدون ان يحققوا حلمهم وهو -حدودك يا اسرائيل من الفرات الى النيل- ولكن لماذا كرر بعض الانظمة والاحزاب والمليشيات في المنطقة اخطاءهم مرات ومرات ومع الاسف الشعوب المغلوب على امرها هي التي تدفع ثمن ذلك. فمثلا ان اخطاء الحرب التي قادها حزب الله الطائفي ضد الصهاينة والتي دمرت نصف لبنان تكررت في غزة بواسطة حزب حماس وايضا اخطاء صدام البعثي في اجرامه ضد شعبه تكررت في البشير الذي يدعي الاسلام وغيرهم من الانظمة ايضا دمروا شعوبهم من اجل الكرسي ونهب شعوبهم مع ان الرسول (ص) علمنا انه لا يلدغ المرء من جحر مرتين. فما… قراءة المزيد ..