،المراقبُ للوضعْ السوري الراهن على صعيد المعارضة في وجهتيها السياسية والعسكرية المُناهضة للنظام الحاكم ثورةً يُدركُ وبلا تمعنٍ مُجهدٍ أنَّ المشهدَ الراهنَ لا يشذُّ كثيراً عن المشهد السوري في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، لجهةِ تكالب السياسيين (المُعارضين) والعسكر (الضباط المنشقين) على ممارسة النفوذ على الثورة، ومحاولةِ كلِّ فريقٍ مُصادرتها لصالحه. وهو أمرٌ متوقعٌ له أن يمتدَّ إلى سوريا الغد بعد إسقاط النظام، ليتحول من الجذر الحالي إلى سياقٍ آخرَ هو: الصراعُ على السلطة.
الساسةُ السوريون اليومَ مُوزَّعونَ على أطرٍ ومنابرَ وتياراتٍ مُعارضةٍ عدة، معَ اختلافٍ في البرامج السياسية فيما بينهم، وفي الرؤية من الثورةِ وآلياتها ومآلاتها. لكنهمْ مُتشابهونَ في ذلكم اللهاث المحمومِ وراءَ مناصبَ حالية في المعارضةِ أو الحكومةِ المؤقتة، وتصدُّرِ المشهدِ المُعارضِ! وكأنَّ الشخوصَ أهمُّ من الثورةِ وتضحياتِ السوريين الهائلة خلال أكثر من سنتين. وقد شهدنا خلالَ زمنِ ثورة الكرامة السورية، ولعدّةِ مراتٍ، انسحاباتٍ فرديةٍ أو بالجملةِ من هذا الإطار المُعارضِ أو ذاك بحججٍ واهيةٍ. وكانَ آخرها لدى انتخاب السيد غسان هيتو رئيساً للحكومة السورية المعارضة المؤقتة. فسُرعانَ ما أشيعَ أنَّ بعض المُنسحبينَ عادوا عن انسحابهم لمجرد تلقيهم وعوداً بالتوزير في الحكومة المؤقتة! إلى جانب ذلك، فإن الصراعَ على النفوذِ والمناصبِ والمواقعِ بداخل كلِّ إطارٍ أسهمَ بينَ الفينةِ والأخرى في تشكيلِ تكتلاتٍ داخلَ تلكم الأطر (المجلس الوطني السوري مثالاً). وهذا من شأنهِ إحداثُ انكفاءٍ وارتكاسيةٍ وإعاقةٍ في عملِ كلِّ إطارٍ يشهدُ حالاتَ التكتلِ الداخليةِ تلكْ.
لا يشذُّ العسكرُ عن الساسةِ في التكالبِ على تمثيل الثورة والتطلع من خلالها إلى حجزِ مواقعَ مهمة للغاية في الغد السوري. وكأنَّ الدوافعَ الكامنة وراءَ انشقاقهم عن المؤسسة العسكرية للنظام ليست القناعةُ بانحراف تلكم المؤسسة عن أهدافها في حماية أمن وحدود الوطن، بلْ مُحاولةِ نيلِ مكتسباتٍ وامتيازاتٍ وترقية رتبهم وأدوارهم في سوريا الغد. فغالبية ساحقة من الضباط المنشقين هم من الفئة المغمورةِ عسكرياً، ولم تكن في موقع القرار المؤثر عسكرياً. وهذا الموقعُ يبدو من خلال دراسة تاريخ الجيش السوري أنه محجوزٌ كليّة من قبل طائفة بعينها، وبداخل تلك الطائفة يتم الاعتماد المطلق على العشيرة والعائلة، إلى درجة أن الاعتمادَ على ضباط من خارج الطائفة المختزلة إلى عشيرة وعائلة كان شكلياً، وكان الضباط من مكونات أخرى أشبه بالإكسسوارات لتزيين المؤسسة العسكرية! وهذا تقليدٌ برزَ على يد اللجنة العسكرية لحزب البعث والتي أسسها صلاح جديد ومحمد عمران وحافظ الأسد في 1959 وتعمقت مفاعيلها السلبية أكثر مع انقلاب البعث في 8 مارس / آذار 1963، واشتدت وطأةً مع انقلاب فبراير شباط 1966 وتفاقمتْ أكثر بعد انقلاب الأسد الأب في 1970.
لا يُتوقعُ عودةُ العسكرِ إلى ثُكناتِ سوريا الغد بعد سقوط النظام. فالتضحياتُ التي قدَّمها الشقُّ العسكري من المعارضة السورية ضد النظام، وهم الذين انخرطوا في مواجهات مع جيش النظام في العديد من مناطق البلاد، سيجعل من الصعوبة بمكان العودة إلى المعسكرات والثكنات لاحقاً. بل سيجعلهم ذلك مُصرين على اقتسامِ كعكة السلطة لاحقاً. ولا يتوقع منهم الاكتفاء بذلك فقط، بل المرجح هو جنوحهم إلى ممارسة نفوذ وصائي على المؤسسات المدنية المنتخبة، إذ أن عقوداً من التاريخ السوري الحديث تشيرُ إلى ذهنيةِ الاستئثار وعدم القبول بعمليات قص المخالب والترويض لدى العسكر. أيضاً فإن تاريخ غالبية المؤسسات العسكرية في الشرق الأوسط لا يقدم أمثلة أفضل يمكنٌ التعويل عليها في ظل انعدام التقاليد الديمقراطية، وظلّ هشاشة تكوينات المجتمع المدني إن لم نقل انعدامها أيضاً. فعدم وجود بنيات سياسية وثقافية ومجتمعية مدنية مؤسِّسة للفضاء الديمقراطي في غالبية بلدان المنطقة يقدِّم البلادَ على طبقٍ من ذهب للعسكر الذين يبدونَ أكثرَ وأقوى تنظيماً ويمتلكون عوامل القوة والتأثير. وهم يشكلون في المحصلة ضمانات مثلى لبعض مراكز القرار العالمي في الحفاظ على مصالحهم الاستراتيجية.
mbismail2@gmail.com
كاتب سوري