مفردة “الزعيم” المسيطرة على ثقافتنا، هي نتاج استبداد وأدلجة وجهل بات ينخر في الجسد العربي والإسلامي، وقد جاءت بها الثقافة العربية العروبية والإسلامية المؤدلجة وجعلتها واقعا معاشا بيننا. فالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية المتردية التي تعيشها أغلب مجتمعاتنا العربية والمسلمة، بسبب فقدان الثقافة الحديثة الداعية إلى التعايش والتسامح واحترام حقوق الإنسان، ونتيجة لعدم تفعيل الرؤية الديموقراطية في الحياة، أوجدت مفردات ناتجة عن ثقافة مناهضة للحداثة ومؤسسة للاستبداد.
والزعامة والزعيم مفردتان ترتبطان عضويا بدكتاتورية الفرد وهما ضمن قائمة طويلة وعريضة من المفردات التي تتعارض مع الحداثة، حيث إنهما تميزان مجتمعاتنا وتبرزان وجوهها الحقيقية. فالعالم العربي يلعب لعبة الزعامات في إطار الصراع على كرسي الزعيم، السياسي والديني والقبلي، وسوف يستمر ذلك طالما سيطرت الثقافة القديمة المناهضة للحرية والتعددية عليه.
وبعد توجّه العالم الغربي نحو الحريات إثر محاربته ثقافة الاستبداد، ظهرت في إطار ذلك مفردات جديدة، كان من أبرزها مفردتا الإدارة والمدير، اللتان حلّتا محل الزعامة والزعيم. ونقصد من ذلك الإشارة إلى الثقافة الديموقراطية المؤسسة للنوع الأول من المفردات والطاردة للأخرى، إذ أنه لا محاسبة ولا رقابة للزعماء في ظل سيطرة ثقافة الخضوع المطلق والخنوع والتقليد، التي تلعب دورا رئيسيا في استمرار الاستبداد وسيطرته على الحياة وتراجع التطور القائم على النقد، بينما مفردة الإدارة والمدير تتوافقان مع الثقافة المنتجة لمفاهيم الحرية والتعددية والديموقراطية، إذ يمكن من خلالها إخضاع الحياة للرقابة والمحاسبة والتغيير، ورفض الإطلاق والخنوع والتقليد.
في المقابل، ارتبط التاريخ السياسي لمفهوم الزعامة بجملة كبيرة من انتهاكات حقوق الإنسان، بعدما تعلق بالقائد الملهم والزعيم الضرورة والأمثل الذي لا يسأل، وبالمقدس الممثّل للدين والشرع والحياة، هذا المقدس الذي تنصبه السماء من خلال سيطرة العبارة التالية: “الراد علينا كالراد على الله”!!، والذي يرفض أي مراقبة لأفعاله وأي تخطئة لممارساته وأي جدال لرأيه إلا في إطار محدود جدا. وهذا المقدس أو الملهم لم يناهض إلا الحريات، ولم يحارب إلا الآخر المختلف، ولم يجلب إلا الاستبداد والتراجع.
وحين التطرق إلى مفهوم الزعامة الدينية، وبالذات في خطاب الإسلام السياسي، سنلاحظ بأنه يعبّر عن تجارب لا نزال نعيش الكثير من إفرازاتها السلبية. فمعظم الخطاب الإسلامي يعتمد على مفهوم الزعامة والزعيم. وأبرز ما يميزه في هذا الإطار أنه يعكس حالة من الفراق الثقافي والسياسي والحركي مع الديموقراطية كمحتوى وكوسيلة. ففي مجتمع الزعامات لا يمكن مراقبة الزعيم ولا نقده ولا تغييره من منصبه ولا تخطيئه، إلا بعد تدخلات وثورات شعبية قد لا تخلو من العنف. لذلك نلاحظ بأنه، في إطار الخطاب السنّي والشيعي تتميز تصريحات العديد من الرموز الإسلامية بصلتها القوية بمفهوم الزعامة، بالتالي نراها تفترق بمسافات كبيرة عن الديموقراطية، لأنها من جانب لا تريدها إلا كوسيلة في إطار تحقيق مصالحها السلطوية الضيقة، ثم وبعد تحقيق ذلك الهدف فإن الافتراق معها أمر لابد منه.
ولأن الخطاب الإسلامي المرتبط بمفهوم الزعامة يتعارض مع التطور السياسي والثقافي والاجتماعي الراهن، أي انه يتصادم مع واقع العصر القائم على أسس مفاهيمية حديثة مرتبطة بثقافة المجتمع المدني ومؤسساته وقوانينه، النافية للاستبداد الديني والطائفي والعرقي، فإن الزعيم الديني – وغير الديني أيضا – لا يمكن إلا أن يشكل حركة معاكسة للتطور وللتنمية السياسية والاجتماعية.
وقد آثرت رموز إسلامية باستمرار على طرح نفسها بوصفها زعيمة طوائفها، وبأنها تعبر عن موقف السنة أو الشيعة تجاه الأحداث الداخلية والخارجية. تؤكد ذلك بكل شفافية التوصيفات الواردة في بعض البيانات والتصريحات على الساحة السياسية والاجتماعية. ورغم أننا نتساءل عن مغزى ودواعي خطاب الزعامة هذا، فقد نتساءل أيضا عن معايير وصف الزعامة، وعن دواعي حاجة الطوائف الدينية إلى زعيم، بل وعن الحاجة إلى هذا الطرح الذي يفكك مجموعات المجتمع ويصنفها طائفيا إلى مجموعات اجتماعية وسياسية متصارعة، حيث ينتج عن هذا النوع من الاختلافات تنافر طائفي ومذهبي قبل أي شيء آخر، في حين لابد أن يبني أي اختلاف اجتماعي وسياسي على أسس مدنية وطنية. فالاختلاف الديني والعقائدي، أي حرية التعبد وممارسة الشعائر سواء عند السنة والشيعة أو لدى المسلم وغير المسلم، لابد أن يسود في إطار حرية الرأي والاعتقاد، ومن شأن أي اختلاف سياسي واجتماعي قائم على أسس دينية وطائفية أن يعرض سلامة المجتمع وأمنه إلى الخطر، ويهدد أي نية لبناء مجتمع مدني. فمفهوم الزعامة الدينية يغذي التنافر الطائفي ويعجّل في تهديد الكيان المدني. ومن ثَمّ فإن أسئلة تطرح نفسها:
على أي أساس صنفت الرموز الدينية نفسها كزعامات دينية شيعية أو سنية؟ وهل السنة أو الشيعة بحاجة إلى زعيم؟ وهل من مصلحة الديموقراطيات في المجتمع المدني العمل وفق تصنيفات طائفية زعائمية تشجع الفردية المستندة إلى السمع والطاعة لحلحلة القضايا السياسية والاجتماعية؟ الإجابة على الأسئلة قد تكون النافذة التي يمكن أن نطل من خلالها على الحرية والتعايش والتسامح والديموقراطية، التي نتأملها في ضوء نقد هذا النوع من الخطاب.
لقد كانت تجربة الإسلام السياسي في الجزائر وإيران والسودان إثباتا على كيفية الاستفادة من وسيلة الديموقراطية لتركيز الزعامات الدينية في المجتمعات وبناء الاستبداد عليها. فتلك التجارب أثبتت أن الديموقراطية بالنسبة لتلك الزعامات ليست سوى وسيلة للتسلق للوصول إلى القمة، وبمجرد الوصول تبدأ عملية إقصاء الآخرين المختلفين ويتم إعادة رسم صورة جديدة للحياة السياسية والاجتماعية، صورة ظاهرها الشعارات وواقعها الاستبداد المستند إلى التفسير الديني، وهذه الديموقراطية المزعومة فيتم تشكيلها وفق قياسات أصولية بحتة، وهي قياسات دائما ما ترفض التعددية والاختلاف والتعايش وتحارب احترام حقوق الإنسان.
إن من ألد أعداء الديموقراطية هو ما تنتجه الديموقراطية نفسها من شخصيات تسمى بعد انتصارها بزعامات. وهي “تكلف” أنصارها بتنفيذ أوامرها ولو جاءت في الضد من أسس الديموقراطية أو ناهضت حرية الإنسان وحقوقه. و”التكليف” مفهوم مشترك بين جميع الأيديولوجيات، الدينية وغير الدينية، ويقوم على نظام “التقليد” المحض الذي يتعارض مع مفهوم “الحقوق”، كحق الإنسان في الاعتراض وفي نقد وتغيير الكثير مما يسمى بالثوابت والمسلمات، دون انتظار رأي الزعيم. في حين أن “التكليف” يستند إلى السمع والطاعة وعدم الاعتراض أو النقد.
إن أنصار التيار الديني بالذات، يسعون لإعادتنا إلى الماضي الثقافي، إلى حياة “التكليف”، دون وعي بأن تلك الحياة باتت عبئا على الحاضر وغير متوافقة مع طبيعة الحياة الحديثة الراهنة وثقافتها الحقوقية، وأنها لا يمكن أن تعيش مع الديموقراطيات التي تستند إلى مفهوم الانتخاب والاختيار لا إلى التكليف والتقليد والسمع والطاعة، فنراهم يتفاخرون بأن زعيما دينيا ما استطاع بكلمة واحدة و”بتكليف” منه تحريك الملايين مع أو ضد مسألة من المسائل. لكن هؤلاء يتعمدون أن يتجاهلوا بأن تلك الثقافة “التكليفية” المستندة إلى الرأي الفردي للزعيم استطاعت أيضا أن تُشَرعِن لوضع سياسي غير طبيعي، شبيه بوضع صدام حسين في العراق وآية الله خامنئي في إيران، متناسين بأن ثقافة “التكليف” تتعارض مع مبدأ الاختيار والانتخاب. لذا فأي دعوة للدفع بثقافة “التكليف” المنطلقة من الزعامة الفردية الجبرية تعتبر دعوة ضد الديموقراطية.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com