يَروي قاموس الكتاب المقدس (سفر الأعمال) عن النداء الذي حصل على طريق دمشق، وأسفر عن تحول شاول مضطهد المسيحية إلى القديس بولس رسول الأمم.
وكما كان في الماضي لأرض الشام نصيب كبير في انتشار المسيحية والإسلام لاحقاً، يمكن للتحول المنتظر في سوريا أن يؤثّر إيجاباً أو سلباً على مستقبل “الربيع العربي”، إذ إنه يمكن أن يغيّر وجه المشرق أو يمسّ التوازنات الإقليمية الدقيقة الممتدة نحو مصر وشبه الجزيرة العربية والخليج والجوار الروسي.
مع تفاقم الوضع في سوريا وانتكاسات المراحل الانتقالية من تونس إلى مصر مروراً بليبيا واليمن، استعجل البعض الاستنتاج بأنّ “الربيع العربي” توقف عند أبواب دمشق، وسيستمر تحطيم الدول المركزية وسيكون التفتّت سيد الموقف، إضافة إلى مخاطر امتداد النزاع السنّي ـ الشيعي وآثاره السلبية على وحدة المجتمعات وعلى كل إعادة ترتيب للبيت العربي المشترك.
وهذه النظرة السلبية تتقاطع مع الذين يتكلمون عن “الشتاء الإسلامي” في توصيف للحراك المنطلق من سيدي بوزيد في كانون الأول 2010، في إنكار لكل إيجابيات التحولات الحاصلة.
بيد أنّ المقاربة الواقعية تدفعنا للمقارنة مع تعبير “ربيع الشعوب” الذي أُطلق على الثورات الأوروبية في العام 1848، وهذا الربيع لم تكن نتائجه آنية وتلقائية، بل سرعان ما انتكس في العام 1849.
لكن كانت لهذه الثورات إنجازاتها، فهي كانت علامة فارقة في التاريخ الأوروبي. صحيح أنها كانت معركة خاسرة في البداية إلا أنّها لم تكن نهاية الحرب. فهي كانت رسالة واضحة بأنّ التغيير قادم ولو بعد حين.
في عودة إلى التاريخ العربي المعاصر، لا شك أنّ العام 2011 هو عام العرب بامتياز. إنه اختزل مائة عام من ناحية الفعل وترك البصمات على لوحة التاريخ الإنساني المعاصر.
بعد القرن العشرين وخيباته، بدأ العقد الثاني من القرن الحالي ليدشن زمن الحالات الثورية التي ترمز عند البعض إلى اليقظة، وعند البعض الآخر إلى حركة انعتاق وتحرر، والجميع يجادل حول ما يسمى الربيع العربي، والأهم كان الخروج من حال الجمود والانحطاط، وتسجيل الشباب العربي نجاحات في بدايات صنع واقع جديد.
يختلف البعض على توصيف الحالات الثورية (لأن الثورة يخطط لها حزب أو جماعة مثل حال الثورتين البولشيفية أو الإيرانية) ولكن العناصر المشتركة هي الآتية:
– إنها انتفاضات غير إيديولوجية ومطالبها في الكرامة والحرية والعدالة تقربها من أطروحات الثورة الفرنسية، أي أن لها علاقة بالقيم العالمية وحقوق الإنسان، وتتصل بترقية الفرد وتركيب عقد اجتماعي جديد.
ـ إنها صناعة محلية وغير مستوردة، ولا يعني تأثير الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة ومواكبة الغرب أنها نتاج غربي وأميركي.
– إنها ثورات غير حزبية وغير دينية، ولو أنّ ابرز القوى المنظمة أي القوى الإسلامية التحقت بها وتسعى إلى السيطرة عليها.
ـ إنها ثورة الجيل الشاب (18 – 35 سنة) الذي يأبى أن يرضى بالذل الذي عاناه الجيل الذي سبقه.
ـ إنها حركات مناقبية وأخلاقية ضد الفساد ونهب المال العام، وضد فشل دول الاستقلال؟
– إنها أيضاً حركة تحرر وطني بمعنى سعيها إلى نزع الاستعمار الثقافي. (التحدي المباشر يكمن في تحرير الذهنيات وبناء نموذج حداثي ملائم، والتحدي الأكبر يبقى في بناء تكامل اقتصادي عربي لا بد منه لتحصين الوضع العربي الجديد).
ـ إنها في نهاية المطاف تهدف إلى إعادة العالم العربي إلى خريطة القوى الفاعلة. بيد أنّ البعض يراهن عليها كصحوة إسلامية من اجل بلورة ميزان قوى جديد مع الغرب. وفي هذه النظرة الاختزالية ما يرد على تبسيط آخر يتصور أن هذه الحركات ليس لها بعد قومي أو إنها غير معنية بالسياسة الخارجية.
بعد هذه البدايات المبشرة انطلقت قوى الثورة المضادة لتمنع تمدّدها، ورأى البعض في تصرف الإسلاميين مسعى مباشر إلى مصادرة الثورات أو تحريف مسارها. بيد أنّ هذه المبالغة في التجاذب بين التيارين الإسلامي والمدني ستكون افضل وصفة لضرب المراحل الانتقالية.
من الناحية المثالية، من الأفضل أن يكون هناك مواثيق شرف وعهود تحدد الثوابت من اجل عدم الوقوع في شرك الاستبداد بوجوه جديدة. وهذا يتطلب المزيد من الحوار والواقعية في فهم طبيعة المجتمعات والتدرج في إتقان التمرين الديموقراطي.
مع اقتراب نهاية العام الثاني من المخاض الكبير، يبدو أنّ ياسمين دمشق سيزهر بشكل آخر في هذا الربيع ليحاكي ياسمين تونس، أي أنّ الانتصار المرتقب للحراك الثوري في سوريا سيؤكد أنّ درب التغيير لا عودة عنه وطريق دمشق ستكون أيضاً فأل خير لكل الإقليم.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني
جريدة الجمهورية