شكلت مواقف البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير من مقابلته إلى مجلة “المسيرة” التي أطلق عبرها مقولته الشهيرة “إذا انتقل الوزن إلى 8 آذار و14 آذار لم يعد لهم وزن فإن هناك أخطاء سيكون لها وزنها التاريخي على المصير الوطني”، وصولا إلى حديثه الأخير إلى محطة “ام تي في” الذي حذر فيه من أن “جيراننا يعتقدون أنه إذا ربح أعوانهم الذين يتعاملون معهم فإنهم يكونون قد حققوا انتصارا لهم”، أي إشارته بشكل واضح إلى قوى 8 آذار في معرض قوله إن التدخل السوري يتعلق بطرف واحد، وما بينهما تأييده “الكتلة الوسطية”، أي دعوته المسيحيين إلى الاقتراع علنا ضد النائب ميشال عون، شكلت هذه المواقف وغيرها دليلا واضحا على تصميم البطريرك ممارسة تأثيره في الانتخابات النيابية المقبلة لجملة أسباب أهمها:
أولا، لا تدعم بكركي فريقا ضد آخر وإنما تدعم المبادئ والأساسيات التي قد يتبناها هذا الطرف أو ذاك، مستندة إلى خط تاريخي وإلى ثوابت ومبادئ تتمحور حول استقلال لبنان وسيادته وسلطة الدولة المطلقة ورفض التدخلات الخارجية في شؤونه أو محاولات ربطه وزجه بالمحاور الإقليمية، وبالتالي تقاطعها مع فريق 14 آذار سببه تبني هذا الفريق خيار الدولة والسيادة والاستقلال بخلاف فريق 8 آذار.
ثانيا إن رغبة البطريرك في التدخل في الانتخابات تعود إلى طبيعة هذه الانتخابات المصيرية والمفصلية، وإلى أهمية دور المسيحيين فيها والمسؤولية الوطنية المترتبة عليهم. فهذه الانتخابات مؤثرة إلى حد كبير في تحديد صورة لبنان ودوره ومستقبله لسنوات مقبلة، والدور المسيحي فيها مؤثر في تحديد النتائج والاتجاهات كما لم يكن في أي انتخابات سابقة.
ثالثا إن فوز فريق 8 آذار ليس مرغوبا به بسبب ما ينطوي عليه من مخاطر ناجمة عن ربط لبنان بالمحور السوري-الإيراني وتحويله خطا متقدما لتعطيل مفاعيل المحاكمة الدولية والدفاع عن السلاح النووي الإيراني، ناهيك عن أن إمساك حزب الله بالسلطة يستجلب على لبنان حربا إسرائيلية ستكون شاملة ومدمرة في المرة القادمة ويؤدي إلى عزل لبنان عن المجتمعين الدولي والعربي نتيجة تصنيف الأول للحزب بأنه ارهابي واعتبار الثاني بأنه أداة إيرانية تريد تشييع المنطقة وإسقاط الأنظمة العربية.
رابعا إن استعادة المسيحيين فعالية حضورهم داخل المعادلة الوطنية غير ممكنة ما لم يصار إلى إرساء السلام في لبنان والمنطقة، باعتبار أن السلام هو مفتاح عودة الاستقرار إلى لبنان، لأن تراجع الحضور المسيحي بدأ عمليا مع تفكك الدولة اللبنانية، وبالتالي إعادة الاعتبار لمشروع الدولة يعيد تدريجيا الوزن إلى الحضور المسيحي في لبنان.
خامسا إن التقاء المسيحيين والمسلمين بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان وراء إخراج الجيش السوري من لبنان، وبالتالي العمل على تثبيت هذا الاستقلال يتطلب في المقابل استمرار التلاقي المسيحي-الإسلامي.
سادسا إن دعم البطريرك قيام كتلة نيابية مستقلة وجد ترجمته في “شرعة العمل السياسي” التي أعلنتها الكنائس المسيحية محددة عبرها جملة ثوابت أهمها:
أ- تحييد لبنان عن محاور الصراعات الخارجية واستظلاله مظلة الشرعيتين العربية والدولية.
ب- رفض نقل المسيحيين إلى موقع إقليمي سوري-إيراني منافياً لوظيفة لبنان ودور المسيحيين التاريخي.
ج- التمسك بالدستور ومقدمته في ظل المساعي لضرب اتفاق الطائف واستبدال المناصفة بالمثالثة.
د-حصر السلاح اللبناني بالقوى الشرعية المسلحة، أي قيام الدولة على حساب الدويلة.
هـ- حث المسيحيين إلى الاقتراع وفقا للثوابت الواردة في هذه الشرعة التي تم تضمينها أيضا المعايير اللازمة “للانتخاب وللمحاسبة والمساءلة”، بمعنى معاقبة الطرف الذي تراجع عن التزاماته السياسية، أي التصويت ضد عون.
ولم يكتف البطريرك في مقابلته التلفزيونية من التقليل من أثر الكلام الذي صدر عن النائب وليد جنبلاط ورغبته بوضع حد لهذه المسألة بقوله أن الزعيم الدرزي “أوضح ما كان يريد أن يقول”، إنما ذهب البطريرك إلى حد التأكيد على العلاقة الصلبة والمتينة التي تجمع ما بين بكركي والمختارة من أجل التشديد إلى أن المصالحة خطا أحمر وإقفاله أي ثغرة يمكن أن تنفد منه قوى 8 آذار لاستعادة مناخات الحرب الأهلية.
لا شك أن مواقف البطريرك الماروني تؤشر إلى رغبته في نقل لبنان والمسيحيين إلى شاطئ الأمان، فهو يعمل على ترجيح خيار الدولة على خيار الدويلة على غرار ترجيحه في العام 1989 خيار الدولة في الطائف على خيار الحروب الدائمة بديلا عن الطائف، أو ترجيحه خيار الاستقلال في العام 2005 على خيار استمرار الاحتلال السوري.
أعاد البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير في مواقفه التأكيد على دوره الطليعي في معركة استعادة الاستقلال وإخراج الجيش السوري من لبنان والدفاع عن العيش المشترك الإسلامي-المسيحي ورفض كل العروض السورية المغرية على حساب السيادة والشريك الآخر…
كما أظهرت مواقف البطريرك وممارسته أن بكركي ليست موقعا سياسيا إنما موقعا وطنيا يرمز إلى الوجود المسيحي في لبنان والشرق ويجسد الثوابت في الدفاع عن الحرية والاستقلال والسيادة والكيان والصيغة والدور…
ولعل المساهمة الكبرى للبطريرك في التأسيس لانتفاضة الاستقلال تبرز مدى الحاجة اليوم لاستمرار دوره الطليعي من أجل استكمال معركة الاستقلال وتثبيت السيادة وإعادة الاستقرار وإحلال السلام في لبنان…
charlesjabbour@hotmail.com