الخارج العراقي هو اميركي – ايراني بوضوح ، الى جانب “خارج آخر” اقل تاثيرا، تجمعه تطابق المصالح بين مكوناته (العرب وتركيا وتوافق اوروبي متقارب “بحدود” مع وجهات النظر التركية). يدرك هذا المحور حجم القوة الاميركية ويتعامل مع متطلباتها، لكنه ياخذ بعين الاعتبار حسابات اعضائه في الداخلي العراقي و انعكاس الحدث العراقي على جواره، و هو يعرف مدى الدخول الايراني في تفاصيل بغداد، و يفهم جيدا انه من الصعب ان يحكم العراق ضد ايران و بان طهران قادرة على التعطيل ان لم تضمن التأثير، ولذا يصعب عدم التفاهم معها.
“الداخل العراقي” تكوّن قبل الانتخابات وولد في سياقها، من دون ان يكون اي من اطرافه مكتملا. فلم تعط نتائج الانتخابات اغلبية حاسمة تمكنها من فرض تسوية على مقاصها، بحيث تكون الشروط التي تمليها الاغلبية الفائزة، اقرب الى اقصاء واستبعاد الخاسرين منها إلى إشراكهم، في لحظة الحاجة إلى توافق داخلي، يخرج العراق من ازمته ، ويؤسس لشراكة و طنية حقيقية .
على مدى 6 اشهر تقاطعت خطوط الطول الاميركية مع خطوط العرض الايرانية، فوق فضاء عراقي رخو ، فاعطيت كلمة سر تعهد الطرفان بفرضها على حلفائهما او الدائرين بفلكهما في بغداد (من دون ان يتمكن “احد”، ان يعرف من “يحالف من” من الطرفين ) فكانت النتيجة الفشل حتى الان…
زيارات متكررة لجو بايدن من جهة و لمسؤولين ايرانيين من جهة اخرى، لم تفلح باقناع الدكتور اياد علاوي بالتنازل عن حق العراقية بتشكيل الحكومة، و القبول بالدكتور نوري المالكي رئيسا للوزراء. و من جهة اخرى صمدت صخرة التيار الصدري والمجلس الاعلى امام المطرقة الايرانية الحادة، و اصر الطرفان على رفض تسوية تجدد ولاية رئيس الوزراء نوري المالكي، لتنجح الممانعة الوطنية العراقية المستجدة، بمنع معادلة الخارج من انجاز تسوية الداخل .
لقد فاجأ السيد مقتدى الصدر الجميع حتى اشد خصومه حين قرر الاصغاء للاصوات التى نبهته، ان القدرة على منع وصول المالكي تصبح تهمة تعطيل اذا لم ترافق بخطوة شجاعة تفتح الطريق امام تسوية حقيقة، تقودها الاصوات المعترضة على رئاسة المالكي، الى اختيار البديل الممكن .
مرر السيد مقتدى كرته “للقائمة العراقية” فتلقفها الدكتور علاوي. فمد يد العون ليخفف ثقل الضغط الايراني على التيار و زعيمه، و ليوسع مساحة صمودهما و يفتح المدى العراقي الداخلي امامهما، باظهار الثقة بان التيار قابل للتشكل من جديد ، و بأن السنوات السبع واخفاقات التعاطي مع الداخل العراقي، يمكن تجاوزها بإرادة وطنية حقيقية، وبأن عملية بناء ثقة تمرعبر شراكة سياسية فاعلة .
ناور “التيار الصدري” مع القائمة العراقية وهو يدرك انه لا يملك القدرة و لا الشجاعة على انجاز التسوية معها منفردا ، بعيدا عن حلفائه في الائتلاف الوطني. وادركت العراقية جيدا ان ما تريده لا يمكن لا للصدريين ولا لآخرين اعطاؤها اياه و ادرك الصدريون جيدا انهم لا يملكون البديل، فوقع الطرفان في مأزق البحث عن مخرج .
في هذه الاثناء، كان “المجلس الأعلى” أمام لحظة الحقيقة ، فهو قد دخل مع “التيار الصدري” الانتخابات و شكلا معا الائتلاف الوطني، و بعد الانتخابات مباشرة فتح ابواب الحوار مع “القائمة” العرقية بشكل عام و مع الدكتورعلاوي بشكل خاص، فجاء رفض رئيس المجلس الاعلى السيد عمار الحكيم اتهام العراقية بالقائمة البعثية بمثابة اشارة المرور للقائمة و زعيمها الى المساحة الشيعية المسكونة بالحذر و بهواجس الماضي.
دخل “المجلس الأعلى” حالة شبه معاندة مع طهران و سرعان ما اخذت هذه المعاندة ملامح المواجهة. ادرك “المجلس” ان حجمه الانتخابي لا يسعفه في خوض مواجهة مفتوحة، و بأن الارقام تحدد الاحجام في لعبة التسويات، وبإفتقاده لمعادلة الارقام والاحجام ، يصبح من السهل على خصومه ومنافسيه تحجيم دوره في الخارطة السياسية العراقية، ما دفع قيادته الى رفض التعامل السياسي معه من هذا المنطلق، معتبرة انها اشارات اقصاء و تقليص نفوذ تؤدي الى التعامل مع المجلس كطرف هامشي، بين افرقاء القوة المستجدة والاحجام المؤقتة.
بخطوات شجاعة حول “المجلس” نتائجه الانتخابية الضعيفة الى قوة سياسية، وقرر التوغل في المحظورات السابقة. اسقط هواجس الخوف من المشتبه بهم و بنواياهم عند الاخرين ، ترك صورة النظام السابق للماضي، ودخل من ابواب المستجد انتخابيا، ليفسح لنفسه مساحة اوسع من التنظيم و الايولوجيا و العصبية. و ذهب بعيدا في المدى العراقي، ليتحول حجمه القليل انتخابيا الى موقع القوي سياسيا، فأصبح الثابت الذي تحول نحوه الاقوياء.
حققت “العراقية” هدفها، و برهنت لحلفائها في الخارج الاخر (العرب و تركيا) ان رهانها قد نجح، وبأن لا التيار و لا المجلس الاعلى في موقع التبعية لطهران ، وطالبتهم بالمبادرة اتجاهما.
في هذه الاثناء ، سجل “الخارج الاخر” (تركيا و العرب) إعتراضه على اداء واشنطن التي وقعت في مأزق صراع و جهات النظر المتباينة بين صناع القرار فيها، وفي النهاية المحت الى انها قادرة على تبديل اجندتها. ولكن في اللحظة التي ينضج فيها الطرح الداخلي القادر على انجاز التسوية ، فعاد الخارج العربي و زميله التركية للعمل بطريقة توازي الحراك الايراني، واضعا اللوم على الولايات المتحدة التي ادى تراكم سياساتها الخاطئة في العراق إلى السماح للدور الايراني بالتقدم على باقي المسارات.
_ففي اللحظة التي تراجع فيها الاندفاع الاميركي لانجاز “التسوية” ، وأفسح المجال امام “الخارج الاخر” الذي اسس للتفاهم مع الداخل من اجل انجاز التسوية ، استشعرت طهران الخلل فأربكها المشهد، هي التي كانت قد رمت بثقلها في سبل التجديد للدكتور نوري المالكي، وتناوب قادتها على اقناع التيار والمجلس بالقبول به .
_هل ضحت او تضحي طهران بـ 25 سنة من علاقتها “بالمجلس” ، الذي ادرك لاحقا ان معركة اقصائه عن السلطة التنفيذية سنة 2005 لم تكن جراء عدم وحدة القرارالايراني في الملف العراقي، او بحجة ان الاولويات التقارب الايراني العراقي ، ضرورة التماسك الموقف الشيعي في التركيبة العراقية الجديدة ، التي تستدعي وحدة الموقف و تقويته ،وتمري الامور دون اشتباك داخلي شيعي .
لقد خرجت من “المجلس الاعلى” اصوات تستدعي الانتباه طالبت طهران بتوضيح موقفها الغامض حول ترشيح السيد عادل عبد المهدي لمنصب رئيس الوزراء، وخصوصا ان المجلس اصبح يراهن على نجاح عبد المهدي في ادارة الدولة لكي يستعيد المجلس موقعه المتقدم في التشكيلة السياسية العراقية ، ليذهب الشك بالمجلسيين بعيدا في ازمة ثقة مع طهران ، وموقفها الغامض اتجاه دور المجلس و مستقبله، الذي لا بد ان يمر بتراثه الحكيمي و برؤية زعيم الحوزة العلمية الراحل اية الله السيد محسن الحكيم “الفقهية السياسية” المختلفة عن السائد الايراني .
بين علاوي والصدر و الحكيم ، بين العراقية و التيار الصدر و المجلس الاعلى، تكوًن “الداخل العراقي”. و حتى اللحظة وبحدود نجاح معقولة و مقبولة. و إن لو لم يكتب لهذه التجربة الاستمرار، فانها اسست لمرحلة عراقية داخلية و طنية بامتياز، تقدم اعتبارات الداخل على متطلبات الخارج ، وتقرع اول جرس انذار للخارج ، المستهتر والعابث بالعراق والعراقيين
في النهاية اذا كان من الصعب على قائمة دولة القانون التقارب مع هذا الثلاثي العراقي، وان لم يكن الدكتور نوري المالكي رئيسا للوزراء مرة اخرى، او يشارك بالحكومة بقوة مع كتلته النيابية، بات من الممكن ان يعارض بقوة ايضا ،على اساس ان المعارضة الحكيمة ضرورة في الدولة الديمقراطية “كالمشاركة” .