“من الخطر أن تكون مصيبا حين تكون الحكومة مخطئة”
فولتير
*
الحكومة لا يصدقها أحد، أية حكومة، في شرق العالم وغربه، ديمقراطية كانت أم شمولية، في عالم حرية التعبير وفي عوالم قمعه، ذلك لأنها الحكومة، اليد الطولى للدولة ورمز السلطة، تجيش الجيوش وترفع الضرائب ، تدفع المرتبات وتخفضها. إنها كيان سيء، مهما عملت أو فعلت، كيان هلامي متضخم دوما نشعر بأنه يراقبنا دائما، يحصى أنفاسنا وخطواتنا لأغراض قد نفهمها أو لا نفهمها، , يصفها التلقين الاجتماعي بأنها مصلحة الدولة العليا التي لا يعرف أحد ماهيتها. هي في أمريكا كما في إيران، وفي العراق كما في فرنسا، وفي الصين كما في البرازيل، ينتقدها الجميع ويتحدث عنها الجميع، كل يفلسف سلوكها وينقض أو يؤيد سياستها سرا أو علنا، ولكن الكل يخشاها، خصومها وأتباعها على حد سواء.
والحكومة بالضرورة تكذب كثيرا، وعلى الأخص في أوطاننا المنكوبة، وذلك لا يعني بأنها في نصف الكرة الآخر بريئة من هذه التهمة فهنالك أيضا تكذب الحكومات، إلا أن الفرق يكمن في أن كذب الحكومة عندهم قابل للتفنيد والتشريح بل للنقض وللسخرية، ولكنه عندنا مقدس لا يأتيه الباطل من قبل ومن بعد، ذلك أن الحكومة قد تماهت في الدولة والدولة قد تماهت في القائد ، والقائد قد تماهي في المقدس الأعلى. فالحكومة – الدولة – القائد واحد لا يتجزأ لبس رداء القدسية عنوة بمعونة التقليد الاجتماعي السائد، ولذلك فإن تغيير نظام الحكم يتطلب بالضرورة تدمير البناء السابق بمجمله، بسلبياته وايجابياته، لأنه من العيب أن يأتي نصف إله ليكمل مسيرة نصف إله آخر فالمسيرة يجب أن تبدأ وتنتهي به. ولأن لا شكل محدد للدولة يتفق عليه الجميع ويعملوا في إطاره، ولا رؤية لغد يتفق عليه الجميع أيضا ليناضلوا من أجله، فكل حركة سياسية في بلداننا دولة وحكومة، بل وكل فرد منا دولة وحكومة. الدولة المزعومة في أوطاننا عبارة عن قبيلة كبيرة تتوزع إلى قبائل أصغر لم تصبح إقطاعيات بعد، يحكمها الشيخ باسم الرئاسة أو الملكية أو الإمارة ويورثها أبناءه وأحفاده حتى ينقلب عليه أحد ما باسم الثورات المجيدة المباركة فيحطم ما سبق ويعيد بناء المشيخة من جديد في دائرة لا نهاية لها. وتتناسخ الدولة-القبيلة بالانشطار إلى مستوياتها الأدنى فتتكرر معادلة الأب القائد على جميع المستويات من العائلة وحتى المدرسة، ومن الثكنة حتى المصنع في هرم متصاعد من صغار الشيوخ حتى تصل القمة في فرد أحد ملهم يرى ما لا نرى ويسمع ما لا نسمع و يحارب بنا ويجلدنا ويقصينا ويطعمنا متى شاء ويحجب عنا الماء متى رأى.
ولكي تكذب الحكومة، فإنها تحتاج إلى لسان يروي عنها ابتداء بالحكواتي والشاعر، وصولا إلى الصحفي والكاتب، وقد نشأت هذه العلاقة المريبة في جميع حضارات الكون بعد أن تلاشى دور الحاكم الخطيب الذي يخاطب الجمهور مباشرة (ربما لأنهم ليسوا جميعا خطباء مفوهين) لصالح المتكلم بالنيابة الذي يعدد المآثر ويصوغ الأكاذيب بصورة لائقة يستسيغها الجمهور. وبتطور النظام الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي السياسي، تكونت المعارضات وبات لها هي الأخرى شعراء ومتحدثين، وصولا إلى الكتاب والصحفيين، ليفندوا أكاذيب الطرف الآخر حتى ولو بأكاذيب مضادة حتى تصل إلى السلطة لتعيد الكّرة وتتبادل الأدوار. وبين هذا وذاك، هنالك الكتاب الأحرار (أو الذين يظنون أنفسهم أحرارا) فيهاجمون الجميع ويحلمون بغد لا يمكن تحقيقه لأنهم ببساطة لا يملكون خلق الأدوات اللازمة لصنع ذلك الغد، فيتم امتصاصهم بالسجون والمعتقلات والكرابيج في أجزاء من العالم، وبالديمقراطية في أجزاء أخرى حيث يحق لهم الصراخ ليل نهار حتى يمل الجمهور سماعهم.
لقد أثبتت التجربة الإنسانية بأن الديمقراطيات، رغم كونها أنضج نظم الحكم حتى الآن، يمكنها أن تتحول إلى شموليات في غمضة عين متى تضررت المصالح واختل النظام، ولكن لفترة مؤقتة لأن بناءها الاقتصادي الذي استندت عليه نهضتها الاجتماعية وتموها المستمر لا يتحمل شمولية على الطريقة الشرقية. وقد نجحت التجربة في تلك البلدان مهما كابر البعض، نجحت في خلق وعي شعبي متزايد بالحرية وبضرورتها وباتت تميز بين الحكومة (الكيان الدائم) والإدارة (الكيان المتغير) ولذلك يتحدثون في الولايات المتحدة الأميركية مثلا عن الإدارة الأميركية لا الحكومة الأميركية، كما نجحت الصحافة، رغم كل ما يقال عن سيطرة الاحتكارات الكبرى، في أن تكون قوة مخيفة تسقط “إدارات” وتنقذ أخرى. لقد كونت الديمقراطيات ما نسميه بالرأي العام، مع جانب مثير للقلق بأن هذا الرأي العام لا يزال قابلا للتوجيه غير المباشر بذريعة الصحافة الحرة، ولكنها مرحلة أكثر تطورا بكثير من مرحلة “اللا رأي “التي نعيشها. لقد حلم الفلاسفة دوما منذ أرسطو بحكومة فاضلة تتبنى تعليم النشء لبناء مجتمع أفضل، في حين ذهب مارك توين بعيدا حينما قال بأن “الحكومة مجرد خادم مؤقت لدى الشعب، لا تملك تحديد الخطأ والصواب ولا ان تحدد كون الفرد وطنيا أم لا، على الحكومة تنفيذ الأوامر لا إصدارها”.
لقد بدأت الحكومة كإدارة بسيطة لشؤون الجماعة، وتطورت بتطور المصالح والعلاقات الاقتصادية إلى أداة لحفظ المصالح في المجتمع البسيط ولحمايتها من المجتمعات الأخرى، ثم باتت أداة بيد فئات المجتمع المختلفة أو طبقاته لحماية مصالحها ضد نقيضاتها باسم الأفكار والعقائد ( سيان أكانت سامية أو واطئةـ فالتوصيف هنا لا يعني شيئا) . تطورت “الحكومة” على أمل أن تعود إلى مجرد إدارة كما حلم الحالمون، ولكتها على العكس باتت كيانا قائما بذاته، له عاداته و سلوكه، يتغير الجالسون على أعلى هرمه ولا يتغير!
من الخطأ الافتراض الشائع بأن حكومات الغرب أكثر اهتماما بأفرادها، والأصح القول بأنها أكثر خدمة لأفرادها، فحكوماتنا تهتم بكل صغيرة وكبيرة في حياتنا، تقيدها في سجلات بمقرات الأمن العام والمخابرات، وتحصي أنفاس أطفالنا وتتجسس على غرف نومنا ومراسلاتنا وتنسق مع قريناتها لتتابعنا أينما ذهبنا في إطار نفوذها، فهل نحلم بأكثر من هذا الاهتمام؟ فنحن قيمة كبرى تبدأ من اجسادنا المتاحة لفتوحات القائد، ولا تنتهي بأكفنا التي تلتهب تصفيقا كلما ألقى درره علينا، أو ذكر أسمه المبارك أمامنا. حكوماتنا دوما أرسلها التأريخ لترتقي بنا نحو العلا وتستلهم ماضي الأجداد لإعادة إنتاجه عبر القرون. في عالمنا العربي، عالم الدولة-الحكومة-القائد لا رأي عام أو خاص، هنالك فقط رأي لسلطة لا تزال تبحث عن هوية لدولتها بين القبلية والقطرية والقومية والدينية أو جميعهم معا في عبث مستمر مرده عجز الجمهور عن إنتاج التغيير والنخب التي تقود التغيير. وهذه، النخب التي يلومها الجميع، لا تنشأ من عدم أو تأتي من الفضاء، إنما هي نتاج طبيعي للمجتمع وتلبية لحاجته في إطار الزمان والمكان. فالدكتاتور الحاكم انعكاس للدكتاتور الصغير الكامن في نفوسنا، والعنف الذي تمارسه السلطة هو عنف نمارسه نحن ضد بعضنا البعض في الواقع، فنماذج مثل جمال عبدالناصر (وابدأ به لأن عصره شهد عودة نظم الدولة-الحكومة- القائد الأوحد في مناطقنا) وصدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي وغيرهم على سبيل المثال لا الحصر هم جميعا مرآة لشعوبهم ونتاجها الاجتماعي ، فمقدار قسر وعف الحاكم-السلطة انعكاس طبيعي لمكبوت العنف في وعي ولا وعي المجتمع. وهذا ما يفسر الإقبال على العمل في الشرطة والجيش والأمن في بلداننا، وما لوم الحكام على كل صغيرة وكبيرة في دولنا إلا انعكاس لجلد الذات المستمر فعقلنا الباطن يعلم بأننا من صنعنا الصنم من التمر ونحن من أكلناه.
هنالك فرق كبير بين المواطن في الدولة وبين الفرد في القبيلة، فرق اثمرته التجربة السياسية البشرية المتراكمة عبر آلاف السنين. فالمواطنة، القيمة التي عمل المفكرون على خلقها وبلورتها في إطار الدولة ضمن منظومة من الحقوق والواجبات تطورت إلى مفهوم مرتبط بالحريات الفردية والمجتمع المدني وصولا إلى مجمل الحقوق الإنسانية الفطرية التي باتت مبادئ غير قابلة للنقض، في حين يرتبط الفرد في القبيلة بالحقوق التي يمنحها العرف الاجتماعي عبر سلطات شيخ القبيلة الذي يملك منحها أو حجبها. القبيلة التي أتحدث عنها ليست النسل البيولوجي الذي يحدد القرابة والانتماءات السلالية بين البشر، وإنما النمط السياسي للحكم السائد في مناطقنا وقيمه وفلسفته.
في مجتمعات ربما كانت الأكثر ترحيبا بالأيديولوجيات الشمولية، التي وجدت بالمقابل المناخ الأخصب هنا لسهولة إسقاطها على القيم القبلية، يمكن استبدال الشعار بآخر، والتسميات بأخرى أكثر عصرية، مع بقاء آلية السلطة والسيطرة كما هي، ولذا لا ترى فرقا أساسيا بين نظم الحكم القائمة حاليا وتلك التي كانت سائدة قبل ألفي عام، في مجتمعات لم تتطور فيها علاقات الإنتاج ولا أدواتها كثيرا، ولم تتغير علاقة الإنسان بالأرض والثروة والحاكم بالمحكوم جوهريا، فبعد سبعة الآف عام من الحضارة المفترضة، لا زال الحاكم نصف إله ( أن لم يكن إلها كاملا)، خليفة الله على الأرض وما زلت الشعوب رعية لا مواطنين، تتعبد في محرابه وفكره ونظرياته، تخشى سيفه وتطمع في ذهبه. ويكفي أن يتخيل المرء رفع السيارات الحديثة وكتل الأسمنت العصرية وغيرها من قشور المدنية التي لم نصنع منها ذرة واحدة عن مدننا لتعود الحياة فورا إلى ذلك الماضي بأخلاقياتها وقيمها. لقد تعلم العالم، عبر مخاض عسير، بأن ليس هنالك فرد في العالم من الحكمة والكفاءة بحيث يستحق أن يمنح القوة والسلطة المطلقة، وهو درس لا يزال خارج مناهجنا السياسية قبل التعليمية، فأحزابنا مثل حكوماتنا وإيديولوجياتنا، وراثية وشمولية واقصائية، تبدأ ثورية تدعي التصحيح وتنتهي دائما في معسكر التخشب حتى تتعفن، فترى الأمين العام أمينا مدى الحياة، والقادة في ثمانينات عمرهم، والابن بل والزوجة أحيانا ينتظران الأب حتى ينتقل إلى الرفيق الأعلى ليواصل المسيرة، فالأفكار الكبرى حصر على العائلة المقدسة، سواء أكانت في السلطة أو المعارضة. ولا أدري إن كان علينا إدارة عجلة التأريخ لنمر بما مر به الغرب في عصور اليونان والرومان من تناوب للديمقراطيات البدائية والدكتاتوريات والملكيات والجمهوريات، أو ربما أن نستسلم للتأريخ والزمن ليفعلان فعلهما فينا ولو بعد ألف عام. وحتى ذلك الحين، دعونا نصفق ونعيش ونموت ونذوب حبا وهياما في ذوات قطاع الطرق الذين صنعنا منهم أصناما لنأكلها متى جعنا.
skhalis@yahoo.com
• كاتب عراقي